36- إن عدة شهور السنة القمرية اثنا عشر شهراً ، في حكم الله وتقديره ، وفيما بَيَّنه في كتبه منذ بدء العالم . ومن هذه الاثني عشر شهراً أربعة أشهر يحرم القتال فيها ، وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وهذا التحريم للأشهر الأربعة المذكورة هو دين الله المستقيم ، الذي لا تبديل فيه ولا تغيير . فلا تظلموا في هذه الأشهر أنفسكم باستحلال القتال أو امتناعكم عنه إذا أغار عليكم الأعداء فيها ، وقاتلوا - أيها المؤمنون - جماعة المشركين دون استثناء أحد منهم ، كما يقاتلونكم معادين لكم جميعاً ، وكونوا على يقين من أن الله ناصر للذين يخافون ، فيلتزمون أوامره ويجتنبون نواهيه .
{ 36 } وقوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
يقول تعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ } أي : في قضائه وقدره . { اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } وهي هذه الشهور المعروفة { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي في حكمه القدري ، { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وأجرى ليلها ونهارها ، وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر [ شهرا ] .
{ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } وهي : رجب الفرد ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وسميت حرما لزيادة حرمتها ، وتحريم القتال فيها .
{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا ، وأن اللّه تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد ، وأن تعمر بطاعته ، ويشكر اللّه تعالى على مِنَّتِهِ بها ، وتقييضها لمصالح العباد ، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها .
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم ، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها ، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت ، لزيادة تحريمها ، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها .
ومن ذلك النهي عن القتال فيها ، على قول من قال : إن القتال في الأشهر الحرام{[369]} لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها .
ومنهم من قال : إن تحريم القتال فيها منسوخ ، أخذا بعموم نحو قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين .
ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد ، بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك ، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم ، لا يألونهم من الشر شيئا .
ويحتمل أن { كَافَّةً } حال من الواو فيكون معنى هذا : وقاتلوا جميعكم المشركين ، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين .
وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } الآية . { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بعونه ونصره وتأييده ، فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام بطاعته ، خصوصا عند قتال الكفار ، فإنه في هذه الحال ، ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين .
ثم عادت السورة بعد ذلك إلى تكملة الحديث عن أحوال المشركين السيئة ، وعن وجوب مقاتلتهم ، فقال تعالى . { إِنَّ عِدَّةَ الشهور . . . . القوم الكافرين } .
قال صحاب المنار ، هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين ، وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح ، وسقوط عصبية الشرك ، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين - في قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد ، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم ، وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية ، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية والشهوات الحيوانية ، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة وجعل هذا الإِنذار موجهاً إلينا وإليهم جميعاً . .
والعدة - في قوله . إن عدة الشهور - : على وزن فعله من العدد وهى بمعنى المعدود . قال الراغب : العدة : هي الشئ المعدود ، قال - تعالى { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى : وما جعلنا عددهم إلا قتنة للذين كفروا . .
والشهور : جمع شهر . والمراد بها هنا : الشهور التي تتألف منها السنة القمرية وهى شهور . المحرم . وصفر . وربيع الأول . . الخ .
وهذه الشهور عليها مدار الأحكام الشرعية ، وبها يعتد المسلمون في عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم .
والمراد بقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض } : الوقت الذي خلقهما فيه ، وهو ستة أيام كما جاء في كثير من الآيات ، ومن ذلك قوله - تعالى - { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } والمعنى : إن عدد الشهور { عِندَ الله } أى : في حكمه وقضائه { اثنا عَشَرَ شَهْراً } هي الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية .
وقوله { فِي كِتَابِ الله } ، أى : في اللوح المحفوظ .
قال القرطبى : وأعاده بعد أن قال { عِندَ الله } لأن كثيراً من الأشياء يوصف بأنه عند الله ، ولا يقال إنه مكتوب في كتاب الله ، كقوله { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } وقيل معنى { فِي كِتَابِ الله } أى فيما كتبه - سبحانه - وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق السماوات والأرض .
قال الجمل : وقوله . { فِي كِتَابِ الله } صفة لاثنى عشر ، وقوله : { يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض } متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار ، أو بالكتاب ، إن جعل مصدرا .
والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة أى : أن المقصود من هذه الآية الكريمة ، بيان أن كون الشهور كذلك حكم أثبته - سبحانه في اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم ، وبينه لأنبيائه على هذا الوضع . . فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور ، والتزام أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو الزيادة عليها ، أو انتهاك حرمة المحرم منها .
وقوله : { حُرُمٌ } جمع حرام - كسحب جمع سحاب - مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله تعالى - أوجب على الناس احترام هذه الشهور ، ونهى عن القتال فيها :
وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
فقد أخرج البخارى عن أبى بكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبة حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم . ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .
وسماه - صلى الله عليه وسلم - رجب مبضر ، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً وكانت قبيلة مضر تحرم رجباً نفسه ، لذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيه " ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .
قال ابن كثير . وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاث سرد . وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل الحج شهراً وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذى الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ، ويشتغلون بأداء المناسك ، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم ، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك الدين القيم } يعود إلى ما شعره الله - تعالى - من أن عدة الشهور أئنا عشر شهراً ، ومن أن منها أربعة حرم .
والقيم : القائم الثابت المستقيم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج أى : ذلك الذي شرعناه لكم من كون عدة الشهور كذلك ، ومن كون منها أربعة حرم : هو الدين القويم ، والشرع الثابت الحكيم ، الذي لا يقبل التغيير أو التبديل . . لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم ، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم .
والضمير المؤنث في قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى : فلا تظلموا في الشهور الاثنى عشر أنفسهم ، بأن تفعلوا فيها شيئاً مما نهى الله عن فعله ، ويدخل في هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا .
ويرى جمهور العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم ، لأنه إليها أقرب ؛ لأن الله تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها .
وقد رجح ابن جرير ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال في ذلك عندى بالصواب قول من قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظم حرمتها .
وعن قتادة : إن الله اصطفى صفيا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، واصطفى من الكلام ذكره ، واطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم . . فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة .
قيل : ليس ذلك كذلك ، بلذلك حرام علينا في كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهم على سائر شهور لاسنة : فخص الذنب فيهن ، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف ، وذلك نظير قوله - تعالى - { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى ، ولكنه تعالى - زادها تعظيما ، وعلى المحافظة عليها توكيداً ، وفى تضييعها تشديداً ، فكذلك في قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } .
وقد كانت الجاهلية تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن ، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه .
وقال القرطبى : لا يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول : للبارى - تعالى - أن يفعل ما شاء ، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة ، ولا عليه حجر ، بل يفعل ما ريد بحكمته ، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى .
وقوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعه ، وعزيمة صادقة .
وكلمة { كَآفَّةً } مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في { قَاتِلُواْ } أو من المفعول وهو لفظ المشركين . ومعناها : جميعا .
وقالوا : وهذه الكلمة من الكلمات التي لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهى ملزمة للإفراد والتأنيث مثل : عامة وخاصة .
أى : قاتلوا - أيها المؤمنون - المشركين جميعا ، كما يقاتلونكم هم جيمعا ، بأن تكونوا في قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين . لا مختلفين ولا متخاذيلن .
وقوله : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم في قتالهم لأعدائهم بعد أمرهم به .
أى : واعلموا - أيها المؤمنون أن الله تعالى - مع عباده المتقين بالعون ولانصر والتأييد ، ومن كان الله معه فلن يغلبه شئ فكونوا - أيها المؤمنين من عباد الله المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى عنه ؛ لتنالوا عونه وتأدييده .
( إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم ) . .
إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن ، وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطره اللّه عليها . وإلى أصل الخلقة . خلقة السماوات والأرض . ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة ، مقسمة إلى اثني عشر شهراً . يستدل على ثباتها بثبات عدة الأشهر ؛ فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة . وأن ذلك في كتاب اللّه - أي في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون . فهي ثابتة على نظامها ، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة . لأنها تتم
وفق قانون ثابت ، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده اللّه يوم خلق السماوات والأرض :
هذه الإشارة إلى ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها ، ليقول : إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس اللّه ثابت كثباتها ، لا يجوز تحريفه بالهوى ، ولا يجوز تحريكه تقديماً وتأخيراً ، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت ، وفق ناموس لا يتخلف :
فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل ، الذي تقوم به السماوات والأرض ، منذ أن خلق اللّه السماوات والأرض .
وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدلولات العجيبة . . يتبع بعضها بعضاً ، ويمهد بعضها لبعض ، ويقوي بعضها بعضاً . ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهداً أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه . ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه ، ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره ، وثبات أسسه ، وقدم أصوله . . كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها عادية بسيطة قريبة مألوفة .
( ذلك الدين القيم . فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) . .
لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض . ذلك الناموس هو أن اللّه هو المشرع للناس كما أنه هو المشرع للكون . . لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها اللّه لتكون فترة أمان وواحة سلام ؛ فتخالفوا عن إرادة اللّه . وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب اللّه في الآخرة ، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض ، حين تستحيل كلها جحيماً حربية ، لا هدنة فيها ولا سلام .
( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) . .
ذلك في غير الأشهر الحرم ، ما لم يبدأ المشركون بالقتال فيتعين رد الاعتداء في تلك الأشهر ، لأن الكف عن القتال من جانب واحد يضعف القوة الخيرة ، المنوط بها حفظ الحرمات ، ووقف القوة الشريرة المعتدية ؛ ويشيع الفساد في الأرض ؛ والفوضى في النواميس . فرد الاعتداء في هذه الحالة وسيلة لحفظ الأشهر الحرم ، فلا يعتدى عليها ولا تهان .
( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) . .
قاتلوهم جميعاً بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة ، فهم يقاتلونكم جميعاً لا يستثنون منكم أحداً ، ولا يبقون منكم على جماعة . والمعركة في حقيقتها إنما هي معركة بين الشرك والتوحيد . وبين الكفر والإيمان وبين الهدى والضلال . معركة بين معسكرين متميزين لا يمكن أن يقوم بينهما سلام دائم ، ولا أن يتم بينهما اتفاق كامل . لأن الخلاف بينهما ليس عرضياً ولا جزئياً . ليس خلافاً على مصالح يمكن التوفيق بينها ، ولا على حدود يمكن أن يعاد تخطيطها . وإن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين المشركين - وثنيين وأهل كتاب - إذا هي فهمت أو أفهمت أنها معركة اقتصادية أو معركة قومية ، أو معركة وطنية ، أو معركة استراتيجية . . كلا . إنها قبل كل شيء معركة العقيدة . والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة . . أي الدين . . وهذه لا تجدي فيها أنصاف الحلول . ولا تعالجها الاتفاقات والمناورات . ولا علاج لها إلا بالجهاد والكفاح الجهاد الشامل والكفاح الكامل . سنة اللّه التي لا تتخلف ، وناموسه الذي تقوم عليه السماوات والأرض ، وتقوم عليه العقائد والأديان ، وتقوم عليه الضمائر والقلوب . في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السماوات والأرض .
( واعلموا أن اللّه مع المتقين ) . .
فالنصر للمتقين الذين يتقون أن ينتهكوا حرمات اللّه . وأن يحلوا ما حرم اللّه ، وأن يحرفوا نواميس اللّه . فلا يقعد المسلمون عن جهاد المشركين كافة ، ولا يتخوفوا من الجهاد الشامل . فهو جهاد في سبيل اللّه يقفون فيه عند حدوده وآدابه ؛ ويتوجهون به إلى اللّه يراقبونه في السر والعلانية . فلهم النصر ، لأن اللّه معهم ، ومن كان اللّه معه فهو المنصور بلا جدال .
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا أيوب ، أخبرنا محمد بن سيرين ، عن أبي بَكْرَة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته ، فقال : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرًا ، منها أربعة [ حرم ، ثلاثة ]{[13464]} متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " . ثم قال : " أي يوم هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليس يوم النحر ؟ " قلنا ؛ بلى . ثم قال : " أي شهر هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليس ذا الحجة ؟ " قلنا : بلى . ثم قال : " أي بلد هذا ؟ " . قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليست البلدة ؟ " قلنا : بلى . قال : " فإن دماءكم وأموالكم - قال : وأحسبه قال : وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب منكم ، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه{[13465]} {[13466]} ورواه البخاري في التفسير وغيره ، ومسلم من حديث أيوب ، عن محمد - وهو ابن سيرين - عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة ، عن أبيه ، به{[13467]} وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا روح ، حدثنا أشعث ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ، ورجب مضر بين جمادى وشعبان " {[13468]} ورواه البَزَّار ، عن محمد بن معمر ، به{[13469]} ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ، وقد رواه ابن عَوْن وقُرَّة ، عن ابن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، به .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا زيد بن حُبَاب ، حدثنا موسى بن عبيدة الربَذي ، حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : " أيها الناس ، إن الزمان قد استدار ، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، أولهن رَجَب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم " {[13470]}
وروى ابن مَرْدُويه من حديث موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمرو ، مثله أو نحوه .
وقال حماد بن سلمة : حدثني علي بن زيد ، عن أبي حُرّة{[13471]} حدثني الرقاشي ، عن عمه - وكانت له صحبة - قال : كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق ، أذود الناس عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم " {[13472]}
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } قال : محرم ، ورجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة .
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " ، تقرير منه ، صَلَوَات الله وسلامه عليه ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل ، كما قال في تحريم مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة " ، وهكذا قال هاهنا : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " أي : الأمر اليوم شرعا كما ابتدأ الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض .
وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث : إن المراد بقوله : " قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " ، أنه اتفق أن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة ، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء ، يحجون في كثير من السنين ، بل أكثرها ، في غير ذي الحجة ، وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة ، وفي هذا نظر ، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء .
وأغرب منه ما رواه الطبراني ، عن بعض السلف ، في جملة حديث : أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد ، وهو يوم النحر ، عام حجة الوداع ، والله أعلم .
[ حاشية فصل ]{[13473]} ذكر الشيخ علم الدين السَّخاوي في جزء جمعه سماه " المشهور في أسماء الأيام والشهور " : أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما ، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه ؛ لأن العرب كانت تتقلب به ، فتحله عاما وتحرمه عاما ، قال : ويجمع على محرمات ، ومحارم ، ومحاريم .
صفر : سمي بذلك لخلو بيوتهم منه ، حين يخرجون للقتال والأسفار ، يقال : " صَفِرَ المكان " : إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال .
شهر ربيع أول : سمي بذلك لارتباعهم فيه . والارتباع الإقامة في عمارة الربع ، ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء ، وعلى أربعة ، كرغيف وأرغفة .
جمادى : سمي بذلك لجمود الماء فيه . قال : وكانت الشهور في حسابهم لا تدور . وفي هذا نظر ؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة ، ولا بد من دورانها ، فلعلهم سموه بذلك ، أول ما سمي عند جمود الماء في البرد ، كما قال الشاعر :
وَلَيلَةٍ منْ جُمادى ذَاتِ أنْدِيَة *** لا يُبْصِرُ العبدُ في ظَلماتها الطُّنُبَا
لا يَنْبَحُ الكلبُ فيها غَير وَاحدَةٍ *** حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خُرْطُومه الذَّنَبَا
ويُجمع على جُمَاديات ، كحبارى وحُبَاريات ، وقد يذكر ويؤنث ، فيقال : جمادى الأولى والأول ، وجمادى الآخر والآخرة .
رجب : من الترجيب ، وهو التعظيم ، ويجمع على أرجاب ، ورِجَاب ، ورَجَبات .
شعبان : من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شَعَابين وشَعْبانات{[13474]}
ورمضان : من شدة الرمضاء ، وهو الحر ، يقال : " رمضت الفصال " : إذا عطشت ، ويجمع على رَمَضَانات ورَماضين وأرْمِضَة قال : وقول من قال : " إنه اسم من أسماء الله " ؛ خطأ لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إليه .
قلت : قد ورد فيه حديث ؛ ولكنه ضعيف ، وبينته في أول كتاب الصيام .
شوال : من شالت الإبل بأذنابها للطراق ، قال : ويجمع على شَوَاول وشَوَاويل وشَوَّالات .
القعدة : بفتح القاف - قلت : وكسرها - لقعودهم فيه عن القتال والترحال ، ويجمع على ذوات القعدة .
الحجة : بكسر الحاء - قلت : وفتحها - سمي بذلك لإيقاعهم الحج فيه ، ويجمع على ذوات الحجة .
أسماء الأيام : أولها الأحد ، ويجمع على آحاد ، وأُحاد ووحود . ثم يوم الإثنين ، ويجمع على أثانين . الثلاثاء : يمد ، ويُذَكَّر ويؤنث ، ويجمع على ثلاثاوات وأثالث . ثم الأربعاء بالمد ، ويجمع على أربعاوات وأرابيع . والخميس : يجمع على أخمسة وأخامس ، ثم الجمعة - بضم الميم ، وإسكانها ، وفتحها أيضا - ويجمع على جُمَع وجُمُعات .
السبت : مأخوذ من السَّبْت ، وهو القطع ؛ لانتهاء العدد عنده . وكانت العرب تسمي الأيام أول ، ثم أهون ، ثم جُبَار ، ثم دبار ، ثم مؤنس ، ثم العروبة ، ثم شيار ، قال الشاعر - من العرب العرباء العاربة المتقدمين - :
أُرَجِّي أن أعيشَ وأن يَومِي*** بأوّل أو بأهون أو جُبَار
أو التالي دُبَار فإن أفُْتهُ*** فمؤنس أو عروبةَ أو شيار
وقوله تعالى : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية{[13475]} تحرمه ، وهو الذي كان عليه جمهورهم ، إلا طائفة منهم يقال لهم : " البَسْل " ، كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر ، تعمقا وتشديدًا .
وأما قوله : " ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، [ فإنما أضافه إلى مضر ، ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ]{[13476]} لا كما كانت تظنه ربيعة من أنَّ رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال ، وهو رمضان اليوم ، فبين ، عليه [ الصلاة و ]{[13477]} السلام ، أنه رجب مضر لا رجب ربيعة . وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد ؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة ، فحرم قبل شهر الحج شهر ، وهو ذو القعدة ؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك ، وحرم بعده شهر آخر ، وهو المحرم ؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والاعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : هذا هو الشرع المستقيم ، من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم ، والحَذْو بها على ما سبق في كتاب الله الأول .
وقال تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : في هذه الأشهر المحرمة ؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي ، وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حَقِّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } قال : في الشهور كلها .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } الآية { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } في كلِّهن ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما ، وعَظم حُرُماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .
وقال قتادة في قوله : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا ، من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء . قال : إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذِكْرَه ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فَعَظِّموا ما عظم الله ، فإنما تُعَظم الأمور{[13478]} بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل .
وقال الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن الحنفية : بألا تحرموهن كحرمتهن{[13479]}
وقال محمد بن إسحاق : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك ، فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك ، زيادة في الكفر { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية [ التوبة : 37 ] .
وقوله : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } أي : جميعكم{[13480]} { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : جميعهم ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام : هل هو منسوخ أو محكم ؟ على قولين :
أحدهما - وهو الأشهر : أنه منسوخ ؛ لأنه تعالى قال هاهنا : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وأمر بقتال المشركين وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرًا عاما ، فلو كان محرما ما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام - وهو ذو القعدة - كما ثبت في الصحيحين : أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ، ورجع فَلُّهم ، فلجئوا إلى الطائف - عَمد إلى الطائف فحاصرها أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها{[13481]} فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .
والقول الآخر : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام ، وأنه لم ينسخ تحريم الحرام ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } [ الآية ]{[13482]} [ المائدة : 2 ] وقال : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } الآية[ البقرة : 194 ] وقال : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ الآية ] [ التوبة : 50 ]{[13483]} وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة ، لا أشهر التسيير على أحد القولين .
وأما قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله ، وأنه حكم مستأنف ، ويكون من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم ، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] وقال تعالى : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } الآية[ البقرة : 191 ] ، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من{[13484]} تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندما قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما . وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياما ، ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا هو أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة ، والله أعلم . ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك{[13485]} وقد حررنا ذلك في السيرة ، والله أعلم{[13486]}
{ إن عدة الشهور } أي مبلغ عددها . { عند الله } معمول عدة لأنها مصدر . { اثنا عشر شهرا في كتاب الله } في اللوح المحفوظ ، أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر ، وقوله : { يوم خلق السماوات والأرض } متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدرا والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة . { منها أربعة حُرمٌ } واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . { ذلك الدين القيّم } أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما . { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة ، وأولو الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام ، وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة ) . { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } جميعا وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال . { واعلموا أن الله مع المتقين } بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم .
هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحِل وتحليل شهور الحرمة ، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس ، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا ، وكان بنو فقيم{[5634]} من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عيه السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ، ثم خلف ابنه قلع بن عباد ، ثم خلفه ابنة أمية بن قلع ، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية ، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام ، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة ، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين ، فقالوا أنسئنا شهراً أي آخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ، قال مجاهد : ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ثم يسمون ، ربيعاً ، ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا ، ففي هذا قال الله عز وجل { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } أي ليست ثلاثة عشر شهراً ، قال الطبري حدثني ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً ، قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء ، وبعد ذلك يبدلون ، فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان{[5635]} وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه :«أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم » .
قال القاضي أبو محمد : ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة ، والذي ذكرناه هو بيانها ، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة ، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء ، ولما كانت سنة العرب هلالية بدأ العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر ، وأما الأربعة الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها ، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعاً منها ، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق ، فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش ، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلي [ عوف بن الأحوص العامري ] : الوافر ]
وشهر بني أمية والهدايا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
****** . . {[5636]}
البيت ؛ قال الأصمعي : يريد رجباً ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اثنا عْشر شهراً » بسكون العين{[5637]} وذلك تخفيف لتوالي الحركات ، وكذلك قرأ أحد عشر وتسعة عشر{[5638]} وقوله { في كتاب الله } أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض ، «والكتاب » الذي هو المصدر هو العامل في { يوم } وفي قوله { في كتاب الله } متعلقة بمستقرة أو ثابتة ونحوه ، ويقلق أن يكون الكتاب القرآن في هذا الموضع ، وتأمل ، ولا يتعلق في بعده للتفرقة بين الصلة والموصول بخبر «إن »{[5639]} وقوله { منها أربعة حرم } نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها ، قال قتادة : اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلاً ومن الشهور المحرم ورمضان ، ومن البقع المساجد ، ومن الأيام الجمعة ، ومن الليالي ليلة القدر ، ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله ، وقوله { ذلك الدين القيم } ، قالت فرقة : معناه الحساب المستقيم ، وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي : معناه القضاء المستقيم .
قال القاضي أبو محمد : والأصوب عندي أن يكون الدين ها هنا على أشهر وجوهه ، أي ذلك الشرع والطاعة لله ، { القيم } أي القائم المستقيم ، وهو من قام يقوم بمنزلة سيد من ساد يسود أصله قيوم ، وقوله { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } الضمير عائد على ال { اثنا عشر شهراً } ، أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله ، وقال قتادة : الضمير عائد على الأربعة الأشهر{[5640]} ، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهياً عنه في كل الزمن ، وزعم النحاة أن العرب تكنى عما دون العشرة من الشهور ، فيهن وعما فوق العشرة فيها ، وروي عن الكسائي أنه قال إني لأتعجب من فعل العرب هذا ، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي خلون وفيما فوقها خلت وقال الحسن معنى فيهن أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له ، وحكى المهدوي أنه قيل «لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتل » . ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن ، قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة .
قال القاضي أبو محمد : وقوله { وقاتلوا المشركين } معناه فيهن فأحرى في غيرهن ، وقوله { كافة } معناه جميعاً وهو مصدر في موضع الحال ، قال الطبري : كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة ، ويظهر أيضاً أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها ، وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها ، فاللفظة على هذا اسم فاعل ، وقال بعض الناس : معناه يكف بعضهم بعضاً عن التخلف ، وما قدمناه أعم وأحسن ، وقال بعض الناس : كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر ، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة ، ثم قيدها بقوله { كما يقاتلونكم } فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم ، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير ، وقوله { واعلموا أن الله مع المتقين } خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد .