ثم وجه كلامه إلى يوسف فقال له { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا } أى : يا يوسف أعرض عن هذا الأمر الذي دار بينك وينها فاكتمه . ولا تتحدث به خوفا من الفضيحة ، وحفاظا على كرامتى وكرامتها .
وقوله : { واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } خطاب منه لزوجته التي ثبتت عليها الجريمة ثبوتا تاما .
أى : واستغفرى الله من ذنبك الذي وقع منك ، بإساءتك فعل السوء مع يوسف ، ثم اتهامك له بما هو برئ منه .
وجملة : { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } تعليل لطلب الاستغفار . أى توبى إلى الله مما حدث منك ، لأن ما حدث منك مع يوسف جعلك من جملة القوم المتعمدين لارتكاب الذنوب ، وجعلها من جملة الخاطئين للتخفيف عليها في المؤاخذة .
وهكذا نجد هذا الرجل - صاحب المنصب الكبير - يعالج الجريمة التي تثور لها الدماء في العروق ، وتستلزم حسما وجزماً في الأحكام ، بهذا الأسلوب الهادئ البارد ، شأن المترفين في كل زمان ومكان ، الذين يهمهم ظواهر الأمور دون حقائقها وأشكالها دون جواهرها ، فهو يلوم امرأته لوما خفيفا يشبه المدح ، ثم يطلب من يوسف كتمان الأمر ، ثم يطلب منها التوبة من ذنوبها المتعمدة .
. ثم تستمر الأمور بعد ذلك على ما هي عليه من بقاء يوسف معها في بيتها ، بعد أن كان منها معه ما يستلزم عدم اجتماعهما .
هذا ومن العبر والعظات والأحكام التي نأخذها من هذه الآيات الكريمة :
1 - أن اختلاط الرجال بالنساء . كثيرا ما يؤدى إلى الوقوع في الفاحشة وذلك لأن ميل الرجل إلى المرأة وميل المرأة إلى الرجل أمر طبيعى ، وما بالذات لا يتغير .
ووجود يوسف - عليه السلام - مع ارمأة العزيز تحت سقف واحد في سن كانت هي فيه مكتملة الأنوثة ، وكان هو فيها فتى شابا جميلا . . أدى إلى فتنتها به ، وإلى أن تقول له في نهاية الأمر بعد إغراءات شتى له منها : { هَيْتَ لَكَ } .
ولا شك أن من الأسباب الأساسية التي جعلتها تقول هذا القول العجيب وجودهما لفترة طويلة تحت سقف واحد .
لذا حرم الإِسلام تحريما قاطعا الخلوة بالأجنبية ، سدا لباب الوقوع في الفتن ، ومنعا من تهيئة الوسائل للوقوع في الفاحشة .
ومن الأحاديث التي وردت في ذلك ما رواه الشيخان عن عقبة بن عامر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار ، أفرأيت الحمو يا رسول الله ؟ قال : الحمو الموت " والحمو هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه .
وسئلت امرأة انحرفت عن طريق العفاف ، لماذا كان منك ذلك فقالت : قرب الوساد ، وطول السواد .
أى : حملنى على ذلك قربى ممن أحبه وكثرة محادثتى له !
2 - أن هم الإِنسان لفعل ، ثم رجوعه عنه قبل الدخول في مرحلة التصميم والتنفيذ لا مؤاخذة فيه .
قال القرطبى ما ملخصه : " الهم الذي هم به يوسف ، من نوع ما يخطر في النفس ، ولا يثبت في الصدر ، وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق ، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه " .
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قالت الملائكة يا ربنا ذلك عبدك يريد أن يعمل السيئة - وهو أبصر به - فقال : ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من أجلى " .
وفى الصحيح : " إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به " .
3 - أن من الواجب على المؤمن إذا ما دعى إلى معصية أن يستعيذ بالله من ذلك ، وأن يذكِّر اللداعى له بضررها ، وبسوء عاقبة المرتكب لها . . كما قال يوسف - عليه السلام - { مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } .
4 - أن يوسف - عليه السلام - قد خرج من هذه المحنة مشهودا له بالبراءة ونقاء العرض ، من الله - تعالى - ومن خلقه الذين سخرهم لهذه الشهادة .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة ، يوسف - عليه السلام - وتلك المرأة وزوجها ، ورب العالمين . . والكل شهد ببراءة يوسف عن المعصية ، أما يوسف - عليه السلام - فقد قال { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } وقال : { قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ } . .
وأما امرأة العزيز فقد قالت : { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } وأما زوجها فقد قال : { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . . }
أما شهادة رب العالمين ببراءته ففى قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } .
فقد شهد الله - تعالى - على طهارته في هذه الآية أربع مرات ، أولها : " لنصرف عنه السوء " وثانيها " الفحشاء " وثالثها " إنه من عبادنا " ورابعها " المخلصين " .
5 - أن موقف العزيز من امرأته كان موقفا ضعيفا متراخيا . . وهذا الموقف هو الذي جعل تلك المرأة المتحكمة في زمام زوجها ، تقول بعد ذلك بكل تبجح وتكشف واستهتار : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين } 6 - أن القرآن الكريم صور تلك المحنة في حياة يوسف وامرأة العزيز ، تصويرا واقعيا صادقا ، ولكن بأسلوب حكيم ، بعيد عما يخدش الحياء أو يجرح الشعور .
قال بعض العلماء : " والذى خطر لى أن قوله - تعالى - { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } هو نهاية موقف طويل من الإِغراء ، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم ، وهو تصوير واقعى صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ، ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة ، ولكن السياق القرآنى لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ، لأنه المنهج القرآنى لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة وفى محيط الحياة البشرية المكتملة كذلك فذكر طرفى الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإِلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا . . "
فأهمله ولا تعره اهتماما ولا تتحدث به . . وهذا هو المهم . . محافظة على الظواهر !
وعظة إلى المرأة التي راودت فتاها عن نفسه ، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه :
( واستغفري لذنبك . إنك كنت من الخاطئين ) . .
إنها الطبقة الأرستقراطية ، من رجال الحاشية ، في كل جاهلية . قريب من قريب !
ويسدل الستار على المشهد وما فيه . . وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن دون أن ينشيء منها معرضا للنزوة الحيوانية الجاهرة ، ولا مستنقعا للوحل الجنسي المقبوح !
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب ، يوسف هارب ، والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت ، فلحقته في أثناء ذلك ، فأمسكت بقميصه [ من ورائه ]{[15136]} فَقَدَّته{[15137]} قدًا فظيعا ، يقال : إنه سقط عنه ، واستمر يوسف هاربا ذاهبا ، وهي في إثره ، فألفيا سيدها - وهو زوجها - عند الباب ، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها ، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها : { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } أي :{[15138]} فاحشة ، { إِلا أَنْ يُسْجَنَ } أي : يحبس ، { أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : يضرب ضربا شديدًا موجعا . فعند ذلك انتصر يوسف ، عليه السلام ، بالحق ، وتبرأ مما رمته به من الخيانة ، وقال بارا صادقا{[15139]} { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه ، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ } أي : من قدامه ، { فَصَدَقَتْ } أي : في قولها إنه أرادها على نفسها ، لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره ، فقدت قميصه ، فيصح ما قالت : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } وذلك يكون كما وقع لما هرب منها ، وتطلبته أمسكت بقميصه من ورائه لتردّه إليها ، فقدت قميصه من ورائه .
وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير ، على قولين لعلماء السلف ، فقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } قال : ذو لحية .
وقال الثوري ، عن جابر ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومحمد بن إسحاق : إنه كان رجلا .
وقال زيد بن أسلم ، والسدي : كان ابن عمها .
وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك .
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } قال : كان صبيا في المهد . وكذا رُوي عن أبي هريرة ، وهلال بن يَسَاف ، والحسن ، وسعيد بن جبير والضحاك بن مُزاحم : أنه كان صبيا في الدار . واختاره ابن جرير .
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - أخبرني عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " تكلم أربعة وهم صغار " ، فذكر فيهم شاهد يوسف{[15140]} .
ورواه غيره عن حماد بن سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس ؛ أنه قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جُرَيْج ، وعيسى ابن مريم{[15141]} .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : كان من أمر الله ، ولم يكن إنسيا . وهذا قول غريب .
وقوله : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ } أي : فلما تحقق زوجها صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به ، { قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ } أي : إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن ، { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }
ثم قال آمرا ليوسف ، عليه السلام ، بكتمان ما وقع : يا { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } أي : اضرب عن هذا [ الأمر ]{[15142]} صفحا ، فلا تذكره لأحد ، { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها ؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه ، فقال لها : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } أي : الذي{[15143]} وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ، ثم قَذْفه بما هو بريء منه ، استغفري من هذا الذي وقع منك ، { إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } .
وهذا فيما ذكر ابن عباس ، خبر من الله تعالى ذكره عن قيل الشاهد : إنه قال للمرأة وليوسف ، يعني بقوله : { يُوسُفُ } : يا يوسف ، { أعْرِضْ عَنْ هَذَا } ، يقول : أعرض عن ذكر ما كان منها إليك فيما راودتك عليه ، فلا تذكره لأحد . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذَا } ، قال : لا تذكره ، { واسْتَغْفِري } ، أنت زوجك ، يقول : سليه أن لا يعاقبك على ذنبك الذي أذنبت ، وأن يصفح عنه ، فيستره عليك .
{ إنّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئينَ } ، يقول : إنك كنت من المذنبين في مراودة يوسف عن نفسه ، يقال منه : خطىء في الخطيئة يخْطَأُ خَطَأً وَخِطْأً ، كما قال جلّ ثناؤه : { إنّهُ كانَ خِطْأً كَبيرا } ، والخطأ في الأمر ، وحكى في الصواب أيضا : الصّوْب ، والصوب ، كما قال : الشاعر :
لَعَمْرُكِ إنّمَا خَطَئِي وَصَوْبِي *** عليّ وإِنّ ما أهْلَكْتُ مالُ
عبادُكَ يُخْطِئُونَ وأنْتَ رَبٌ *** بكَفّيْكَ المَنايا والحُتُومُ
من خَطِىء الرجل . وقيل : { إنّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئينَ } ، لم يقل : من الخاطئات ، لأنه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء ، وإنما قصد به الخبر عمن يفعل ذلك فيخطىء .
و { يوسف } في قوله : { يوسف أعرض عن هذا } منادى ، قاله ابن عباس ، ناداه الشاهد ، وهو الرجل الذي كان مع العزيز ، و { أعرض عن هذا } معناه : عن الكلام به ، أي اكتمل ولا تتحدث به ؛ ثم رجع إليها فقال : { واستغفري لذنبك } أي استغفري زوجك وسيدك ، وقال : { من الخاطئين } ولم يقل : من الخاطئات لأن الخاطئين أعم ، وهو من : خطىء يخطأ خطئاً وخطأ ، ومنه قول الشاعر [ أوس بن غلفاء ] : [ الوافر ]
لعمرك إنما خطئي وصوبي*** عليّ وإنما أتلفت مالي{[6647]}
وينشد بيت أمية بن أبي الصلت : [ الوافر ]
عبادك يخطئون وأنت رب*** بكفيك المنايا والحتوم{[6648]}
جملة { يوسف أعرض عن هذا } من قول العزيز إذ هو صاحب الحكم .
وجملة { واستغفري لذنبك } عطف على جملة { يوسف أعرض } في كلام العزيز عطف أمر على أمر والمأمور مختلف . وكاف المؤنثة المخاطبة متعين أنه خطاب لامرأة العزيز ، فالعزيز بعد أن خاطبها بأن ما دبّرته هو من كيد النساء وجه الخطاب إلى يوسف عليه السّلام بالنداء ثم أعاد الخطاب إلى المرأة .
وهذا الأسلوب من الخطاب يسمى بالإقبال ، وقد يسمى بالالتفات بالمعنى اللغوي عند الالتفات البلاغي ، وهو عزيز في الكلام البليغ . ومنه قول الجَرمي من طي من شعراء الحماسة :
إخَالكَ مُوعدي ببني جفَيْف *** وهالةَ إنني أنْهَاكِ هَالا
قال المرزوقي في « شرح الحماسة » : والعرب تجمع في الخطاب والإخبار بين عدة ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم أو أحسنهم سماعاً وأخصّهم بالحال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال الشاهد ليوسف: {يوسف أعرض عن هذا} الأمر الذي فعلت بك، ولا تذكره لأحد، ثم أقبل الشاهد على المرأة، فقال: {واستغفري لذنبك}، يعني: واعتذري إلى زوجك واستعفيه ألا يعاقبك، {إنك كنت من الخاطئين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا فيما ذكر ابن عباس، خبر من الله تعالى ذكره عن قيل الشاهد: إنه قال للمرأة وليوسف، يعني بقوله: {يُوسُفُ}: يا يوسف، {أعْرِضْ عَنْ هَذَا}، يقول: أعرض عن ذكر ما كان منها إليك فيما راودتك عليه، فلا تذكره لأحد... {واسْتَغْفِري}، أنت زوجك، يقول: سليه أن لا يعاقبك على ذنبك الذي أذنبت، وأن يصفح عنه، فيستره عليك.
{إنّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئينَ}، يقول: إنك كنت من المذنبين في مراودة يوسف عن نفسه... وقيل: {إنّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئينَ}، لم يقل: من الخاطئات، لأنه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء، وإنما قصد به الخبر عمن يفعل ذلك فيخطئ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: هو زوجها، قال ليوسف: (أعرض عن هذا) ولا تهتك عليها سترها، لكنهم قالوا إنه كان قليل الغيرة.
وقال بعضهم: ذلك القائل هو رجل آخر هو ابن عم لها، وهذا أشبه...
(وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِك) قال بعضهم قال هذا لها: لأنهم، وإن كانوا يعبدون الأصنام فإنما يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى... وقال بعض أهل التأويل: قال (استغفري لذنبك) إلى زوجك لأنك خنته. فإن كان التأويل هذا يدل أن القائل ذلك رجل آخر لا زوجها. وإن كان التأويل هو الأول فإنه يحتمل كليهما، أيهما كان، والله أعلم...
اعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال: {يوسف أعرض عن هذا} فقيل: إن هذا من قول العزيز، وقيل: إنه من قول الشاهد، ومعناه: أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها، وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال: {واستغفري لذنبك} وظاهر ذلك طلب المغفرة، ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح، وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد، ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله، لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع، إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال: {متفرقون خير أم الله الواحد القهار} وعلى هذا التقدير: فيجوز أن يكون القائل هو الزوج.
{إنك كنت من الخاطئين} نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم، وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف، لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
هذا الكلام متضمن لوجوه من المكر:
أحدها: قولهن {امرأة العزيز تراود فتاها} ولم يسموها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل، فصدور الفاحشة من ذات الزوج أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.
الثاني: أن زوجها عزيز مصر، ورئيسها، وكبيرها. ذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها. الثالث: أن الذي تراوده مملوك لا حر، وذلك أبلغ في القبح.
الرابع: أنه فتاها الذي هو في بيتها، وتحت كنفها. فحكمه حكم أهل البيت. بخلاف من تطلب ذلك من الأجنبي البعيد.
والخامس: أنها هي المراودة الطالبة.
السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها. السابع: أن في ضمن هذا: أنه أعف منها وأبر، وأوفى، حيث كانت هي المراودة الطالبة، وهو الممتنع، عفافا وكرما وحياء، وهذا غاية الذم لها.
الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة، بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار. والوقوع حالا واستقبالا، وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها. وفرق بين قولك، فلان أضاف ضيفا، وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام، ويحمل الكل فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته.
التاسع: قولهن: {إنا لنراها في ضلال مبين} أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح، فنسبن الاستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.
العاشر: أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط، فلم تقتصد في حبها، ولا في طلبها: أما العشق فقولهن: {قد شغفها حبا} أي وصل حبه إلى شغاف قلبها. وأما الطلب المفرط فقولهن: {تراود فتاها} والمراودة: الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة. فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن، وقيل: إنها جملته، وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة. فلم يرعهن إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك المنظر البهي، وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلن، فدهشن حتى قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن. وقد قيل: إنهن أبن أيديهن، ولكن الظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جرحها، وشقها بالمدى، لدهشهن بما رأين، فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي، وكانت هذه في النساء غاية في المكر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم قال العزيز آمراً له عليه السلام مسقطاً لحرف النداء دلالة على أن قربه من قلبه على حاله: {يوسف أعرض} أي انصرف بكليتك مجاوزاً {عن هذا} أي اجعله بمنزلة ما تصرف وجهك عنه إلى جهة العرض بأن لا تذكره لأحد ولا تهتم به، فإني لم أتأثر منك بوجه، لأن عذرك قد بان، وأقبل إليها فقال: {واستغفري} أي اطلبي الغفران {لذنبك} في أن لا يحصل لك عقوبة مني ولا من الله؛ واستأنف بيان ما أشار إليه بقوله: {إنك كنت} أي كوناً جبلياً {من الخاطئين} أي العريقين في الخطأ بغاية القوة، يقال: خطئ يخطأ -إذا أذنب متعمداً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يوسف أعرض عن هذا} الكيد الذي جرى لك ولا تتحدث به ولا تخف من تهديدها لك {واستغفري لذنبك} أيتها المرأة وتوبي إلى الله تعالى {إنك كنت من الخاطئين} أي من جنس المجرمين مرتكبي الخطايا المتعمدين لها ولهذا غلب فيه جمع المذكر فلم يقل من الخاطئات. وقد استدل الكرخي بقول هذا الوزير الكبير لزوجه على أنه كان قليل الغيرة وسيأتي ما يؤيده...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأهمله ولا تعره اهتماما ولا تتحدث به.. وهذا هو المهم.. محافظة على الظواهر!
وعظة إلى المرأة التي راودت فتاها عن نفسه، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه:
(واستغفري لذنبك. إنك كنت من الخاطئين)..
إنها الطبقة الأرستقراطية، من رجال الحاشية، في كل جاهلية. قريب من قريب!
ويسدل الستار على المشهد وما فيه.. وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن دون أن ينشئ منها معرضا للنزوة الحيوانية الجاهرة، ولا مستنقعا للوحل الجنسي المقبوح!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الحال، ولخوف عزيز مصر من انتشار خبر هذا الحادث المؤسف على الملأ، فتسقط منزلته وكرامته في مصر رأى أنّ من الصلاح كتمان القضيّة، فالتفت إلى يوسف وقال: (يُوسفُ أعرض عن هذا) أي اُكتم هذا الأمر ولا تخبر به أحداً.. ثمّ التفت إلى امرأته وقال: (واستغفري لذنبك إنّك كنت من الخاطئين). وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ القائل لهذه الجملة ليس عزيز مصر، بل الشاهد نفسه، ولكن لا دليل يؤيّد هذا الاحتمال وخاصّة مع وقوع هذه الجملة بعد قول العزيز...