76- حقاً لقد افتروا على الله الكذب ، فإن من أدَّى حق غيره ووفَّاه في وقته كما عاهده عليه وخاف الله فلم ينقص ولم يماطل فإنه يفوز بمحبة الله لأنه اتقاه{[32]} .
ثم رد عليهم زعمهم الفاسد فقال { بلى } أي : ليس الأمر كما تزعمون أنه ليس عليكم في الأميين حرج ، بل عليكم في ذلك أعظم الحرج وأشد الإثم .
{ من أوفى بعهده واتقى } والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه ، وهو جميع ما أوجبه الله على العبد من حقه ، ويشمل العهد الذي بينه وبين العباد ، والتقوى تكون في هذا الموضع ، ترجع إلى اتقاء المعاصي التي بين العبد وبين ربه ، وبينه وبين الخلق ، فمن كان كذلك فإنه من المتقين الذين يحبهم الله تعالى ، سواء كانوا من الأميين أو غيرهم ، فمن قال ليس علينا في الأميين سبيل ، فلم يوف بعهده ولم يتق الله ، فلم يكن ممن يحبه الله ، بل ممن يبغضه الله .
ثم أكد الله - تعالى - كذب هؤلاء اليهود الذين قالوا : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } بجملة أخرى فيها الرد الذى يخرس ألسنتهم ، ويدحض مزاعمهم فقال - تعالى - : { بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
و { بلى } حرف يذكر فى الجواب لإثبات المنفى فى كلام سابق ، ولقد حكى القرآن قبل ذلك أن اليهود قد نفوا أن يكون عليهم فى الأميين سبيل .
فجاء - سبحانه - بهذا الرد الذى يثبت ما نفوه ، ويبطل ما زعموه .
والمعنى : ليس الأمر كما زعمتم أيها اليهود من أنه ليس عليكم فى الأميين سبيل ، بل الحق أن علكيم فيهم سبيل . وأنكم معذبون بسبب كفركم واستحلالكم لأموالهم بدون حق ومثابون إن آمنتم بالله ورسوله ووفيتم بعهودكم ، وصنتم أنفسكم من كل ما يغضب الله - تعالى - .
وقد علل - سبحانه - هذا الحكم العادل بجملة مستأنفة عامة فقال : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
أي كل من أوفى بعهد الله فآمن بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم واستقام على دينه ، واتقى ما نهى الله عنه من ترك الخيانة والغدر وما إلى ذلك من المحرمات ، فإن الله يحبه ويرضى عنه ، ومن لم يفعل ذلك فإن الله يبغضه ولا يحبه ويعذبه العذاب الأليم .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد بينت أن محبة الله لعبده تتوفر بأمرين :
أولهما : الوفاء بالعهد . فكل ما يلتزمه الإنسان من عهود فالوفاء بها واجب . وفى مقدمة هذه العهود ، العهد الذى أخذه الله على عباده بتوحيده والإيمان برسله وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وثانيهما : تقوى الله بمعنى أن يجتنب ما نهى الله عنه وحرمه عليه ، ولا يفعل إلا ما أحله الله وأذن له فيه .
وقد خلا اليهود من هذين الأمرين ، لأنهم لم يفوا بعهودهم ، ولم يتقوا نالله ، فسلبت عنهم محبته ، واستحقوا غضبه - سبحانه - ونقمته .
قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - { بلى } إثبات لما نفوه من السبيل عليهم فى الأميين ، أى بلى عليهم سبيل فيهم . وقوله { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } جملة مستأنفة مقررة للجملة التى سدّت { بلى } مسدها . والضمير فى { بِعَهْدِهِ } راجع إلى { مَنْ أوفى } على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله بأن ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه .
فإن قلت : فهذا عام يخيل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل ، لأنهم إذا وفوا بالعهود ، وفوا أول شىء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم .
ولو اتقوا الله فى ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه ، ويجوز أن يرجع الضمير فى " بعهده " إلى الله ، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإن الله يحبه ويدخل فى ذلك الإيمان وغيره من الصالحات ، وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء .
فإن قلت : فأين الضمير الراجع من الجزاء إل من ؟ قلت : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير " .
وبهذا يكون القرآن قد كشف عن مكر اليهود وخداعهم ، ورد عليهم فيما افتروه من أقوال باطلة ، وأثبت أنهم يكذبون فيما يدعون عن تعمد وإصرار ، وبين أن أداء الأمانة واجب على كل إنسان ، وأن كل من وفى بعهود الله واتقاه فهو أهل لمحبته ورضاه .
هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة ، وميزانه الخلقي الواحد . ويربط نظرته هذه بالله وتقواه :
( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين . إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم . ولهم عذاب أليم ) . .
فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعورا بتقواه أحبه الله وأكرمه . ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمنا قليلا - من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل - فلا نصيب له في الآخرة . ولا رعاية له عند الله ولا قبول ، ولا زكاة له ولا طهارة . وإنما هو العذاب الأليم .
ونلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى . ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق . فليس هو مسألة مصلحة . إنما هو مسألة تعامل مع الله أبدا . دونما نظر إلى من يتعامل معهم .
وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة . في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق : التعامل هو أولا تعامل مع الله ، يلحظ فيه جناب الله ، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه . فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة ؛ وليس هو عرف الجماعة ، ولا مقتضيات ظروفها القائمة . فإن الجماعة قد تضل وتنحرف ، وتروج فيها المقاييس الباطلة . فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء . ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى . . أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة . . ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله ؛ بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه . . بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض ؛ واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء .
ثم قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } أي : لكن من أوفى بعهده منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه ، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث ، كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك ، واتقى محارم الله تعالى واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله{[5204]} وسيد البشر " فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " .
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ }
وهذا إخبار من الله عزّ وجلّ عمّا لمن أدّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبَته عنده . فقال جل ثناؤه : ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود ، من أنه ليس عليهم في أموال الأميين حرج ولا إثم ، ثم قال بلى ، ولكن من أوفى بعهده واتقى ، يعني ولكن الذي أوفى بعهده ، وذلك وصيته إياهم ، التي أوصاهم بها في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به . والهاء في قوله : { مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ } عائدة على اسم الله في قوله : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ } يقول : بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه ، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدّق به . بما جاء به من الله من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها ، وغير ذلك من أمر الله ونهيه ، و{ وَاتّقَى } يقول : واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به وسائر معاصيه التي حرّمها عليه ، فاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله ، وخوف عقابه { فإنّ اللّهَ يُحِبّ المُتقينَ } يعني : فإن الله يحبّ الذين يتقونه فيخافون عقابه ، ويحذرون عذابه ، فيجتنبون ما نهاهم عنه ، وحرّمه عليهم ، ويطيعونه فيما أمرهم به . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو اتقاء الشرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتّقَى } يقول : اتقى الشرك¹ { إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ } يقول : الذين يتقون الشرك .
وقد بينا اختلاف أهل التأويل في ذلك والصواب من القول فيه بالأدلة الدالة عليه فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته .
{ بلى } إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل . { من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } استئناف مقرر للجملة التي سدت { بلى } مسدها ، والضمير المجرور لمن أو لله وعموم المتقين ناب عن الراجع من الجزاء إلى { من } ، وأشعر بأن التقوى ملاك الأمر وهو يعم الوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي .
{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
ثم رد الله تعالى في صدر قولهم ، ليس علينا بقوله { بلى } أي عليهم سبيل وحجة وتبعة ، ثم أخبر على جهة الشرط أن { من أوفى } بالعهد { واتقى } عقوبة الله في نقضه ، فإنه محبوب عند الله ، وتقول العرب : وفى بالعهد ، وأوفى به بمعنى ، وأوفى ، هي لغة الحجاز وفسر الطبري وغيره ، على أن الضمير في قوله { بعهده } عائد على الله تعالى ، وقال بعض المفسرين : هو عائد على { من } .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : والقولان يرجعان إلى معنى واحد ، لأن أمر الله تعالى بالوفاء مقترن بعهد كل إنسان ، وقال ابن عباس : { اتقى } في هذه الآية ، معناه : اتقى الشرك ، ثم خرج جواب الشرط على تعميم المتقين تشريفاً للتقوى وحضّاً عليها .
( بَلى ) حرف جواب وهو مختص بإبطال النفي فهو هنا لإبطال قولهم : { ليس علينا في الأميين سبيل } [ آل عمران : 75 ] .
و ( بلى ) غير مختصّة بجواب الاستفهام المنفي بل يجاب بها عند قصد الإبطال ، وأكثر مواقعها في جواب الاستفهام المنفي ، وجيء في الجواب بحكم عام ليشمل المقصود وغيره : توفيراً للمعنى ، وقصْداً في اللفظ ، فقال : { من أوفى بعهده } أي لم يخن ، لأنّ الأمانة عهد ، { واتقى } ربه فلم يدحَض حق غيره { إنّ الله يحبّ المحسنين } [ المائدة : 13 ] أي الموصوفين بالتقوى ، والمقصود نفي محبة الله عن ضدّ المذكور بقرينة المقام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بلى من أوفى بعهده}: الذي أخذه الله عليه في التوراة وأدى الأمانة. {واتقى} محارمه. {فإن الله يحب المتقين}: الذين يتقون استحلال المحارم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا إخبار من الله عزّ وجلّ عمّا لمن أدّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبَته عنده. فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود، من أنه ليس عليهم في أموال الأميين حرج ولا إثم، ثم قال بلى، ولكن "من أوفى بعهده واتقى": يعني ولكن الذي أوفى بعهده، وذلك وصيته إياهم، التي أوصاهم بها في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. والهاء في قوله: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} عائدة على اسم الله في قوله: {وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ} يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدّق به. بما جاء به من الله من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه، و {وَاتّقَى} يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به وسائر معاصيه التي حرّمها عليه، فاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله، وخوف عقابه. {فإنّ اللّهَ يُحِبّ المُتقينَ}: فإن الله يحبّ الذين يتقونه فيخافون عقابه، ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه، وحرّمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به. وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الهاء في قوله:"بعهده" يحتمل أن تكون عائدة على اسم الله في قوله: "ويقولون على الله الكذب"، ويحتمل أن تكون عائدة على (من) في قوله: "بلى من أوفى بعهده"... وقوله:"بلى "يحتمل معنيين: أحدهما -الإضراب عن الأول على وجه الإنكار للأول، وعلى هذا الوجه "من أوفى بعهده "تكون مكتفية، نحو قولك: ما قدم فلان، فتقول بلى أي بلى قد قدم. وقال الزجاج: بلى ههنا وقف تام، لأنهم لما قالوا:"ليس علينا في الأميين سبيل"، قيل: "بلى"، أي بلى عليهم سبيل...
وإنما قال:"فإن الله يحب المتقين"، ولم يقل: فان الله يحبه، فيرد العامل إلى اللفظ، لإبانة الصفة التي تجب بها محبة الله، وإن كان فيه معنى فإن الله يحبهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بلى} إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل فيهم. وقوله: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} جملة مستأنفة مقرّرة للجملة التي سدّت بلى مسدّها، والضمير في بعهده راجع إلى من أوفى، على أنّ كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر، فإنّ الله يحبه. فإن قلت، فهذا عام يخيل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله. قلت: أجل، لأنهم إذا وفوا بالعهود وفوا أول شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإنّ الله يحبه، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء.
واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد، وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا، لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق، فهو شفقة على خلق الله، ولما أمر الله به، كان الوفاء به تعظيما لأمر الله، فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد، كما يمكن في حق الغير يمكن أيضا في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات، لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما مضى تقسيمهم إلى أمين وخائن، استأنف بشارة الأول ونذارة الثاني على وجه عام لهم ولغيرهم لتحريم الخيانة في كل شرع في حق كل أحد منهما، إن الله يبغض الخائن فقال: {من أوفى بعهده} في الدين والدنيا {واتقى} أي كائناً من كان {فإن الله} ذا الجلال والإكرام يحبه، هكذا الأصل، لكنه أظهر الوصف لتعليق الحكم به وإشعاراً بأنه العلة الحاملة له على الأمانة فقال: {يحب المتقين}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
العهد: ما تلتزم الوفاء به لغيرك. فإذا اتفق اثنان على أن يقوم كل منهما للآخر بشيء مقابلة ومجازاة، يقال إنهما تعاهدا، ويقال: عاهد فلانا فلان عهدا، فيدخل فيه العقود المؤجلة والأمانات، فمن ائتمنك على شيء، أو أقرضك مالا إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجل، وجب عليك الوفاء بالعهد وأداء حقه إليه في وقته من غير أن تلجئه إلى التقاضي والإلحاح في الطلب. بذلك تقتضي الفطرة وتحتمه الشريعة، وهذا مثال العهد مع الناس وهو المراد هنا أولا وبالذات للرد على أولئك اليهود الذين لم يجعلوا العهد مما يجب الوفاء به لذاته وإنما العبرة عندهم بالمعاهد: فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له لأنه إسرائيلي ومن كان غير إسرائيلي فلا عهد له ولا حق يجب الوفاء به...
فقال من أوفى بعهده الذي عاهد به الله أو الناس واتقى الإخلاف والغدر والاعتداء فإن الله يحبه فيعامله معاملة المحبوب بأن يجعله محل عنايته ورحمته في الدنيا والآخرة...
إن ورود الجواب بهذه العبارة أفادنا قاعدة عامة من قواعد الدين، وهي أن الوفاء بالعهود واتقاء الإخلاف وسائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته، لا كونه من شعب كذا. ومن هذه القاعدة يعلم خطأ اليهود في زعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل. وفيه تعريض بأن أصحاب هذا الرأي ليسوا من أهل التقوى التي هي الركن الركين لكل دين قويم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة، وميزانه الخلقي الواحد. ويربط نظرته هذه بالله وتقواه: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين. إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم. ولهم عذاب أليم)..
فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعورا بتقواه أحبه الله وأكرمه. ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمنا قليلا -من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل- فلا نصيب له في الآخرة. ولا رعاية له عند الله ولا قبول، ولا زكاة له ولا طهارة. وإنما هو العذاب الأليم.
ونلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى. ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق. فليس هو مسألة مصلحة، إنما هو مسألة تعامل مع الله أبدا، دونما نظر إلى من يتعامل معهم.
وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق؛ التعامل هو أولا تعامل مع الله، يلحظ فيه جناب الله، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه. فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة؛ وليس هو عرف الجماعة، ولا مقتضيات ظروفها القائمة. فإن الجماعة قد تضل وتنحرف، وتروج فيها المقاييس الباطلة. فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء. ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى.. أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة.. ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله؛ بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه.. بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض؛ واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الحق الثابت المقرر أن الفضائل الدينية هي حق على المؤمن لكل إنسان، و يأثم إن لم يؤدها لكل إنسان، ولذا قال تعالى: (بلى من أوفى بعهده و اتقى فإن الله يحب المتقين).
هذا تأكيد لبيان كذبهم على الله تعالى، و بلى هنا معناها إثبات ما نفوه، لأنها تجئ في القول لإثبات المنفي، لقد نفوا أنه عليهم في الأمين سبيل، فقال سبحانه بل عليكم فيهم سبيل، و أنتم معذبون بما تجرمون في شأنهم، ومثابون إن أوفيتم لهم بعدهم و آمنتم، وقد علل سبحانه ذلك الحكم العادل بقضية دينية عامة ثابتة، و هي قوله سبحانه: {بلى من أوفى بعهده و اتقى فإن الله يحب المتقين}.
وإن معنى هذا النص السامي أن الذي ينال محبة الله تعالى ورضاه سبحانه، لابد أن يتحقق فيه وصفان:
أولهما: الوفاء بالعهد، فكل ما يلتزمه من عهود، سواء أكان موضوعها أمرا ماديا كأداء الأمانات أم كان الموضوع أمرا معنويا كالقيام بحق من الحقوق – الوفاء به يستوجب رضا الله سبحانه، و كل غدر يكون فيه إبعاد عن رضوان الله سبحانه و محبته.
ويدخل في العهود ما أودعه الله سبحانه قلب كل إنسان من إدراك للحق،وفهم له وإدراك لمعنى الدليل،فإذا لم يذعن له ويعلنه لا يكون موفيا للعهد.
الوصف الثاني المستوجب لرضا الله ومحبته-هو التقوى بأن يشعر بحق الغير عليه ويؤمن به،ويجعل بينه وبين الاعتداد أيا كان نوعه وقاية.
هذان هما الوصفان اللذان يستوجبان محبة الله تعالى، وقد خلا اليهود منهما،فليسوا من محبة الله في شيء،وإن هذين الوصفين متداخلان فالوفاء بالعهد داخل في التقوى،ولذلك قال سبحانه في جزاء الوصفين معا: {فإن الله يحب المتقين} أي من أوفى بعهده واتقى فقد استحق محبة الله،لأن محبة الله تعالى لا يعطيها إلا لأهل التقوى الذين يجعلون بينهم وبين غضب الله تعالى وقاية، فيوفون بالعهد ويعطون كل ذي حق حقه،ويخشون مقت الله وعذابه،وأن الذي يسهل عدم الوفاء بالعهد أعراض الدنيا،وهي ثمن لا يساوي شيئا في جانب عدم رضا الله تعالى.
وقد يفهم البعض هذا القول بأن من أوفى بعهده الإيماني واتقى الله في أن يجعل كل حركاته مطابقة ل "افعل ولا تفعل "فإن الله يحبه. هذا هو المعنى الذي قد يُفهم للوهلة الأولى، لكن الله لم يقل ذلك، إن "الحب" لا يرجع إلى الذات بل يرجع إلى العمل، لقد قال الحق: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. إن الإنسان قد يخطئ ويقول: "لقد أحبني الله، وسأفعل من بعد ذلك ما يحلو لي" ونحن نذكر صاحب هذا القول بأن الله يحب العمل الصالح الذي يؤديه العبد بنية خالصة لله وليس للذات أي قيمة، لذلك قال: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. إن الذي أوفى بعهده واتقى سيحب الله فيه التقوى، وإياك أن تفهم أن الحب من الله للعبد سيصبح حبا ذاتيا، لكنه حب لوجود الوصف فيه، فاحرص على أن يكون الوصف لك دائما، لتظل في محبوبية الله...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لا بُدَّ لنا في هذه الآيات من أن نقف وقفةً قصيرة أمام المفهوم الذي نستوحيه منها: أولاً: وهو أنَّ الثقة بالإنسان، أيّ إنسان كان، لا بُدَّ من أن تستند إلى القاعدة الفكريّة والروحيّة والأخلاقيّة الموجودة في نفسه، لأنَّ الإنسان ليس هو ما يتحرّك فيه من أعمال، بل هو ما ينطلق منه من منطلقات، لأنَّها هي التي تكوّن الدوافع القويّة الضاغطة بشكلٍ شعوري أو غير شعوري عليه؛ فعلينا أن ندرس منطلقات كلّ إنسانٍ قبل أن نتعامل معه، أو نتعاهد معه، أو نأتمنه على مال أو نفس أو عرض أو قضية من قضايا الحياة العامّة والخاصّة، لأنَّ العهد لا يمثِّل شيئاً لدى الذين لا يرون الوفاء بالعهد مع بعض النّاس قيمةً أخلاقية مهمّة، ما يجعل من التعاهد لديهم أسلوباً من أساليب استغفال البسطاء والوصول إلى استغلالهم من خلال الثقة الساذجة. وهذا هو الأساس في ما يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع الأفراد والدول والشعوب، لئلا يقعوا تحت تأثير القيم التي يؤمنون بها بحجّة أنَّ الآخرين لا يمكن أن ينفصلوا عنها. فقد لا يؤمن الآخرون بشيء، ولكنَّهم يرفعون شعاره، ليكون ذلك هو الطعم الذي يصطادون به الشعوب الضعيفة الفقيرة؛ كما نجده في الدول الكبرى التي تعتبر المعاهدات وسيلة لاستغلال الدول الصغرى، لتحصل على ما تريده من ثرواتٍ ومواقف، ثُمَّ عندما يأتي وقت الوفاء بالتزاماتها الذاتية تجاه تلك الدول الصغيرة، تبدأ في خلق المشاكل والمعوّقات والأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة الاستثنائية التي تجعلها في حِلٍّ من الوفاء. إنَّ هذه الآيات تتحرّك في خطّ التوعية التي تفتح عيون المؤمنين على الحياة، ليكونوا في موقع القوّة من الوعي، ولا يكونوا في موقف الضعف من الغفلة...
ثانياً: ربَّما نستوحي من تنديد اللّه باليهود في نظرتهم إلى الآخرين وعدم مسؤوليتهم عن أموال الآخرين، فلهم أخذها من دون مقابل، أنَّ اللّه سبحانه لا يُريد للمسلمين أن يأخذوا بهذه النظرة في تعاملهم مع غير المسلمين، فيحللوا لأنفسهم مصادرة أموالهم وسرقتها بحجّة عدم احترام الكافر، من حيثُ المبدأ، في نفسه وماله، إلاَّ أن يكون ذمياً أو معاهداً، بلحاظ قانون الذمة والعهد، وهذا ما درج عليه بعض الفقهاء الذين لا يرون العنوان الحربي أساساً لحلية أموال الكافرين للمسلمين، بل يرون الأصل عدم الاحترام إلاَّ في صورة الذمة والعهد،...
وهذه الآية تحمل الكثير من الإيحاء بأنَّ الخلاف في الدِّين لا يُبرر بمجرده إهدار حرمة الآخرين، فإنَّ اللّه ذمّ اليهود على ذلك، وربَّما يرى بعض الفقهاء أنَّ الآية لا تدل على أكثر من وجوب أداء الأمانة لا وجوب احترام المال، ونحن نرى للأمانة خصوصية في المسألة، لأنَّها تتضمن التزاماً عقدياً من الشخص المؤتمن بأنَّ الأمانة إلى من ائتمنه عليه من خلال مبدأ الوفاء بالالتزام العقدي مع الآخر، ولهذا فإنّا لا نجد علاقة بين موضوع الآية وإهدار احترام مال الكافر...
ثالثاً: إنَّ هذه النظرة الفوقية الاستعلائية التي يُمارسها اليهود على غيرهم من النّاس قد أصبحت تتحرّك في نظرة الاستكبار العالمي الذي تمثِّله دول الغرب إلى العالم الثالث، وهو عالم المستضعفين الذي يضمّ الدول العربية والإسلامية وغيرها، فهي لا تنظر إليها نظرة إنسانية تحفظ لها حقوقها في ثرواتها الطبيعية، وفي حريتها في تقرير مصيرها، وفي استقلالها السياسي، ونحو ذلك... بل تُحاول أن تفرض عليها نظامها العالمي الذي يملك السيطرة على مقدرات الشعوب، وتعمل على أن تجعل لنفسها الحقّ في ما لا تجعله لها. فهي في الوقت الذي تتحدّث فيه عن حقوق الإنسان، لا تحترم إنسانية المستضعفين في ذلك، بل تحترم مصالحها في الدول التي تُطالب فيها بتطبيق هذه الحقوق بما ينسجم مع مصالحها، ولا ترى لهذه الشعوب الحقّ في أن تُطالب لنفسها بتلك المطالب بعيداً عن المصالح الاستكبارية. وهذا ما ينبغي للمسلمين والمستضعفين في العالم أن يدرسوه ويفهموه ويتعرّفوا على خصائصه وعناصره، من أجل حماية أنفسهم من أخطاره وخططه، والحصول على المكاسب الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة والثقافيّة في حركتهم الواعية القوية المتمرّدة على منطق الاستكبار في واقع المستضعفين في الأرض...