فاستجاب الله دعاءه { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أي : أصابه عذاب ، أحاط به ، واستهلكه ، فلم يبق منه شيء ، والإحاطة بالثمر يستلزم تلف جميع أشجاره ، وثماره ، وزرعه ، فندم كل الندامة ، واشتد لذلك أسفه ، { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها ، حيث اضمحلت وتلاشت ، فلم يبق لها عوض ، وندم أيضا على شركه ، وشره ، ولهذا قال : { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا }
ثم يختتم - سبحانه - هذه القصة ببيان العاقبة السيئة التى حلت بذلك الرجل الجاحد المغرور صاحب الجنتين فيقول : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً . . . } .
أى : وكانت نتيجة جحود صاحب الجنتين لنعم ربه ، أن أهلكت أمواله وأبيدت كلها . فصار يقلب كفيه ظهراً لبطن أسفا وندما ، على ما أنفق فى عمارتها وتزيينها من أموال كثيرة ضاعت هباء ، ومن جهد كبير ذهب سدى .
وقوله - سبحانه - : { وأحيط بثمره } معطوف على مقدر محذوف لدلالة السباق والسياق عليه .
وأصل الإِحاطة مأخوذة من إحاطة العدو بعدوه من جميع جوانبه لإِهلاكه واستئصاله .
والمعنى : فحدث ما توقعه الرجل الصالح من إرسال الحسبان على بستان صاحبه الجاحد المغرور { وأحيط بثمره } بأن هلكت أمواله وثماره كلها .
وجاء الفعل { أحيط } مبنيا للمجهول ، للإِشعار بأن فاعله متيقن وهو العذاب الذى أرسله الله - تعالى - أى : وأحاط العذاب بجنته .
وقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا } تصوير بديع لما اعتراه من غم وهم وحسرة وندامة . وتقليب اليدين عبارة عن ضرب إحداهما على الأخرى ، أو أن يبدى ظهرهما ثم بطنهما ويفعل ذلك مرارا ، وأيَّامَّا كان ففعله هذا كناية عن الحسرة الشديدة ، والندم العظيم .
" وهى " أى الجنة التى أنفق فيها ما أنفق { خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } أى : ساقطة ومتهدمة على دعائمها وعلى سقوفها .
وأصل الخواء السقوط والتهدم . يقال : خوى البيت إذا سقط . كما يطلق على الخلاء من الشئ . يقال : خوى بطن فلان من الطعام أى : خلا منه ، وخوت الدار إذا خلت من سكانها .
والعروش جمع عرش ، وهو سقف البيت .
والمقصود أن الجنة بجميع ما اشتملت عليه ، صارت حطاما وهشيما تذروه الرياح .
وجملة : { وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } معطوفة على جملة { يقلب كفيه . . } .
أى : صار يقلب كفيه حسرة وندامة لهلاك جنته ، ويقول زيادة فى الحسرة والندامة : يا ليتنى اتبعت نصيحة صاحبى فلم أشرك مع ربى - سبحانه - أحدا فى العبادة أو الطاعة .
وهكذا حال أكثر الناس ، يذكرون الله - تعالى - عند الشدائد والمحن ، وينسونه عند السراء والعافية .
والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها قد صورت فجيعة الرجل الجاحد فى جنته تصويرا واقعيا بديعا .
فقد جرت عادة الإِنسان أنه إذا نزل به ما يدهشه ويؤلمه . أن يعجز عن النطق فى أول وهلة . فإذا ما أفاق من دهشته بدأ فى النطق والكلام .
وهذا ما حدث ما ذلك الرجل - كما صوره القرآن الكريم - فإنه عند ما رأى جنته وقد تحطمت أخذ يقلب كفيه حسرة وندامة دون أن ينطق ، ثم بعد أن أفاق من صدمته جعل يقول : يا ليتنى لم أشرك بربى أحدا .
فيا له من تصوير بديع . يدل على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - .
وفجأة ينقلنا السياق من مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار . ومن هيئة البطر ، والاستكبار إلى هيئة الندم والاستغفار . فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن :
( وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ، وهي خاوية على عروشها ، ويقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ) . .
وهو مشهد شاخص كامل : الثمر كله مدمر كأنما أخذ من كل جانب فلم يسلم منه شيء . والجنة خاوية على عروشها مهشمة محطمة . وصاحبها يقلب كفيه أسفا وحزنا على ماله الضائع وجهده الذاهب . وهو نادم على إشراكه بالله ، يعترف الآن بربوبيته ووحدانيته . ومع أنه لم يصرح بكلمة الشرك ، إلا أن اعتزازه بقيمة أخرى أرضية غير قيمة الإيمان كان شركا ينكره الآن ، ويندم عليه ويستعيذ منه بعد فوات الأوان .
يقول تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } بأمواله ، أو بثماره على القول الآخر . والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر ، مما خَوَّفه به المؤمن من إرسال الحسبان{[18191]} على جنته ، التي اغتر بها{[18192]} وألهته عن الله ، عز وجل { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } وقال قتادة : يُصفّق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليه { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً } .
يقول تعالى ذكره : وأحاط الهلاك والجوائح بثمره ، وهي صنوف ثمار جنته التي كان يقول لها : ما أظُنّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدا فأصبح هذا الكافر صاحب هاتين الجنتين ، يقلب كفّيه ظهرا لبطن ، تلهفا وأسفا على ذهاب نفقته التي أنفق في جنته وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها يقول : وهي خالية على نباتها وبيوتها . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فأصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ : أي يصفق كَفيه عَلى ما أنْفَقَ فِيها متلهفا على ما فاته .
وَ هو يقول يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أحَدا ويقول : يا ليتني ، يقول : يتمنى هذا الكافر بعد ما أصيب بجنته أنه لم يكن كان أشرك بربه أحدا ، يعني بذلك : هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنياه وانفرد بعمله ، ودّ أنه لم يكن كفر بالله ولا أشرك به شيئا .
{ وأُحيط بثمره } وأهلك أمواله حسبما توقعه صاحبه وأنذره منه ، وهو مأخوذ من أحاط به العدو فإنه إذا أحاط به غلبه وإذا غلبه أهلكه ، ونظيره أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم . { فأصبح يقلّب كفّيه } ظهرا لبطن تلهفا وتحسرا . { على ما أنفق فيها } في عمارتها وهو متعلق ب { يقلب } لان تقليب الكفين كناية عن الندم فكأنه قيل : فأصبح يندم ، أو حال أي متحسرا على ما أنفق فيها . { وهي خاوية } ساقطة . { على عروشها } بأن سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم فوقها عليها . { ويقول } عطف على { يقلب } أو حال من ضميره . { يا ليتني لم أُشرك بربي أحداً } كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه أتى من قبل شركة فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يهلك الله بستانه ، ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندماً على ما سبق منه .
وقوله تعالى { وأحيط بثمره } الآية ، هذا خبر من الله عن إحاطة العذاب بحال هذا المثل به ، وقد تقدم القول في الثمر ، غير أن الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد ، و { يقلب كفيه } يريد يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى ، وذلك فعل المتلهف المتأسف على فائت وخسارة ونحوها ، ومن عبر بيصفق فلم يتقن ، وقوله { خاوية على عروشها } يريد أن السقوف وقعت ، وهي العروش ، ثم تهدمت الحيطان عليها ، فهي خاوية ، والحيطان على العروش { ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } قال بعض المفسرين : هي حكاية عن قول الكافر هذه المقالة في الآخرة ، ويحتمل أن يريد أنه قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ويكون فيها زجر للكفرة من قريش أو غيرهم ، لئلا تجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم .