{ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } والخشوع في الصلاة : هو حضور القلب بين يدي الله تعالى ، مستحضرا لقربه ، فيسكن لذلك قلبه ، وتطمئن نفسه ، وتسكن حركاته ، ويقل التفاته ، متأدبا بين يدي ربه ، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته ، من أول صلاته إلى آخرها ، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الردية ، وهذا روح الصلاة ، والمقصود منها ، وهو الذي يكتب للعبد ، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب ، وإن كانت مجزئة مثابا عليها ، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها .
أخرج الإمام أحمد والترمذى والنسائى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال : كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحى ، نسمع عند وجهه كدوى النحل ، فأنزل عليه يوماً ، فمكثنا ساعة فسرى عنه ، فاستقبل القبلة ، فرفع يديه فقال : " اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا " .
ثم قال : لقد أنزلت على عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } إلى قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وأخرج النسائى عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة : يا أم المؤمنين ، كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان خلقه القرآن ، ثم قرأت : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } حتى انتهت إلى قوله - تعالى - : { والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وقالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفلاح : الظفر بالمراد ، وإدراك المأمول من الخير والبر مع البقاء فيه .
والخشوع : السكون والطمأنينة ، ومعناه شرعاً : خشية فى القلب من الله - تعالى - تظهر آثارها على الجوارح فتجعلها ساكنة مستشعرة أنها واقفة بين يدى الله - سبحانه - .
والمعنى : قد فاز وظفر بالمطلوب ، أولئك المؤمنون الصادقون ، الذين من صفاتهم أنهم فى صلاتهم خاشعون ، بحيث لا يشغلهم شىء وهم فى الصلاة عن مناجاة ربهم ، وعن أدائها بأسمى درجات التذلل والطاعة .
ومن مظاهر الخشوع : أن ينظر المصلى وهو قائم إلى موضع سجوده ، وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة ، وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشىء من جسده ، فقد أبصر النبى صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته فى الصلاة فقال : " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " .
قال القرطبى : " اختلف الناس فى الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو مكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحلق القلب ، وهو أول عمل يرفع من الناس . . . " .
( الذين هم في صلاتهم خاشعون ) . . تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله ، فتسكن وتخشع ، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات . ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته ، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل ، ولا تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه . ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم ، فلا يشهدون إلا الله ، ولا يحسون إلا إياه ، ولا يتذوقون إلا معناه . ويتطهر وجدانهم من كل دنس ، وينفضون عنهم كل شائبة ؛ فما يضمون جوانحهم على شيء من هذا مع جلال الله . . عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها ، وتجد الروح الحائرة طريقها ، ويعرف القلب الموحش مثواه . وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله .
{ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } " قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { خَاشِعُونَ } : خائفون ساكنون . وكذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والزهري{[20453]} .
وعن علي بن أبي طالب ، رَضِي الله عنه : الخشوعُ : خشوعُ القلبِ . وكذا قال إبراهيم النخعي .
وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم ، وخفضوا الجناح .
وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم .
[ و ]{[20454]} قال ابن سيرين : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مُصَلاه ، فإن كان قد اعتاد النظر فَلْيُغْمِضْ . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم رَوَى{[20455]} ابن جرير عنه ، وعن عطاء بن أبي رَبَاح أيضًا مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، حتى نزلت هذه الآية .
والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فَرَّغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة له وقُرَّة عين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حُبِّبَ إليَّ الطِّيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة " {[20456]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سالم بن أبي الجَعْد ،
عن رجل من أسلَم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا بلال ، أرحنا بالصلاة " {[20457]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا ؛ حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، عن سالم ابن أبي الجعد ، أن محمد بن الحنفية قال : دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار ، فحَضَرت الصلاة ، فقال : يا جارية ، ائتني بوَضُوء لعلي أصلي فأستريح . فرآنا{[20458]} أنكرنا عليه ذلك{[20459]} ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قم يا بلال ، فأرحنا بالصلاة " {[20460]} .
وقوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ يقول تعالى ذكره : الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته ، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها . وقيل : إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها ، فنُهُوا بهذه الاَية عن ذلك . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت خالدا ، عن محمد بن سيرين ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى نظر إلى السماء ، فأنزلت هذه الاَية : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن أبي جعفر ، عن الحجاج الصوّاف ، عن ابن سيرين ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فقالوا بعد ذلك برؤوسهم هكذا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال : «نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت آية إن لم تكن الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فلا أدري أية آية هي قال : فطأطأ » . قال : وقال محمد : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصْره مصّلاه ، فإن كان قد استعاد رالنظر فليغْمِض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، عن محمد نحوه .
واختلف أهل التأويل في الذي عني به في هذا الموضع من الخشوع ، فقال بعضهم : عني به سكون الأطراف في الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : السكون فيها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : سكون المرء في صلاته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، عن الثوريّ ، عن أبي سفيان الشيباني ، عن رجل ، عن عليّ ، قال : سئل عن قوله : الّذِينَ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : لا تلتفت في صلاتك .
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرمليّ ، قال : قال ضَمْرة بن ربيعة ، عن أبي شَوْذب ، عن الحسن ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجَناح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم ، في قوله : خاشعُونَ قال : الخشوع في القلب ، وقال : ساكنون .
قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني خالد بن عبد الله ، عن المسعوديّ ، عن أبي سنان ، عن رجل من قومه ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : الخشوع في القلب ، وأن تُلِين للمرء المسلم كَنَفك ، ولا تلتفت .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جرَيج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشعُونَ قال : التخشع في الصلاة . وقال لي غير عطاء : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر عن يمينه ويساره ووُجاهه ، حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فما رُؤي بعد ذلك ينظر إلاّ إلى الأرض .
وقال آخرون : عني به الخوف في هذا الموضع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : خائفون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشِعُونَ قال الحسن : خائفون . وقال قتادة : الخشوع في القلب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ حاشعُونَ يقول : خائفون ساكنون .
وقد بيّنا فيما مضى قبل من كتابنا أن الخشوع التذلل والخضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر ، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام ما وصفت مِنْ قَبْلُ من أنه : والذين هم في صلاتهم متذللّون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته ، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فيها .