الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ} (2)

الثانية-قوله تعالى : " خاشعون " روى المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية " الذين هم في صلاتهم خاشعون " . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد . وفي رواية هشيم : كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله تعالى : " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " ، فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم . وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلي إلى حيث ينظر في " البقرة " عند قول " فول وجهك شطر المسجد الحرام " [ البقرة : 144 ] . وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة أيضا عند قوله تعالى : " وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " {[11610]} [ البقرة : 45 ] . والخشوع محله القلب ، فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه ؛ إذ هو ملكها ، حسبما بيناه أول البقرة . وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا . وقال عطاء : هو ألا يعبث بشيء من جسده في الصلاة . وأبصر صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : ( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ) . وقال أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم . ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى " . رواه الترمذي . وقال الشاعر :

ألا في الصلاة الخيرُ والفضل أجمع *** لأن بها الآرابُ{[11611]} لله تخضع

وأول فرضٍ من شريعة ديننا *** وآخرُ ما يبقى إذا الدين يُرفع

فمن قام للتكبير لاقته رحمة *** وكان كعبدٍ بابَ مولاه يقرع

وصار لرب العرش حين صلاته *** نجيا فياطوباه لو كان يخشع

وروى أبو عمر{[11612]} أن الجوني قال : قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : أتقرؤون سورة المؤمنين ؟ قيل نعم . قالت : اقرؤوا ، فقرئ عليها " قد أفلح المؤمنون - حتى بلغ - يحافظون " . وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته يمينا وشمالا ، ولا يلوي عنقه خلف ظهره . وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل : ثم أصلي قريبا منه - يعني من النبي صلى الله عليه وسلم - وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، وإذا التفت نحوه أعرض عني . . . الحديث ، ولم يأمره بإعادة .

الثالثة : اختلف الناس في الخشوع ، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين . والصحيح الأول ، ومحله القلب ، وهو أول علم يرفع من الناس ، قاله عبادة بن الصامت . رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة{[11613]} . قال أبو عيسى : ومعاوية{[11614]} بن صالح ثقة عند أهل الحديث ، ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان .

قلت : معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس ، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال : صالح الحديث ، كتب حديثه ولا يحتج به . واختلف فيه قول يحيى بن معين ، ووثقه عبد الرحمن بن مهدي أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي ، واحتج به مسلم في صحيحه .


[11610]:راجع ج 2 ص 158.
[11611]:الآراب: جمع الإرب(بكسر فسكون) وهو العضو.
[11612]:كذا في ا و ب و ج و ط و ك.
[11613]:كذا في كل الأصول وهي لغة الحجاز والتذكير لغة نجد وبها جاء القرآن.
[11614]:هو أحد رجال سند الحديث المتقدم.