اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ} (2)

قوله : { فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } الجار متعلق بما بعده ، وقُدّم للاهتمام به ، وحسنه كون{[32103]} متعلقه فاصلة ، وكذا{[32104]} فيما بعده من أخواته ، وأضيف الصلاة إليهم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، والمُصلى له غَنِيٌّ عنها ، فلذلك أضيفت إليهم دونه{[32105]} .

فصل

اختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين ، وهو الأولى{[32106]} .

قال ابن عباس{[32107]} : مخبتون أذلاء . وقال الحسن وقتادة : خائفون . وقال مقاتل : متواضعون . وقال مجاهد : هو غض البصر وخفض الصوت ، والخشوع قريب من الخضوع إلا أنّ الخضوع في البدن ، والخشوع في القلب{[32108]} والبصر والصوت قال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن{[32109]} } . [ طه : 108 ] . وعن عليّ : هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً . وقال سعيد بن جبير : هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره{[32110]} . وقال عطاء : هو أن تعبث بشيء من جسدك ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه »{[32111]} . وقال{[32112]} ابن الخطيب : وهو{[32113]} عندنا واجب ، ويدل عليه أمور :

أحدها : قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }{[32114]} . [ محمد : 24 ] . والتدبير لا يتصور بدون الوقوف على المعنى ، وقوله تعالى : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً }{[32115]} [ المزمل : 4 ] أي : قفوا على عجائبه ومعانيه .

وثانيها : قوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لذكري }{[32116]} [ طه : 14 ] وظاهر{[32117]} الأمر للوجوب ، والغفلة تضاد الذكر{[32118]} ، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره .

وثالثها : قوله تعالى : { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين }{[32119]} [ الأعراف : 205 ] وظاهره{[32120]} للتحريم ، وقوله : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }{[32121]} [ النساء : 43 ] تعليل لنهي السكران ، وهو مطرد في الغافل المستغرق في الدنيا .

ورابعها : قوله - عليه السلام{[32122]} - «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً »{[32123]} وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء ، قال عليه السلام{[32124]} : «كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنصب »{[32125]} وما أراد به إلا الغافل ، وقال أيضاً : «ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل » ، وقالت عائشة - رضي الله عنها{[32126]} - سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة ، فقال : «هو اختلاسٌ{[32127]} يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ من صلاة العبد »{[32128]} وعن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «لا يزال الله - عزَّ وجلَّ{[32129]} - مُقْبِلاً على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه »{[32130]} . وذهب بعضهم إلى أنه ليس بواجب لأنّ اشتراط الخضوع والخشوع خلاف لإجماع الفقهاء فلا يلتفت إليه .

وأُجيب بأن هذا الإجماع ممنوع ، لأن المتكلمين اتفقوا على أنه لا بُدّ من الخضوع والخشوع ، واحتجوا بأن السجود لله تعالى{[32131]} طاعة ، وللصنم كفر ، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه ، فلا بُدّ من أمر لأجله يصير السجود في إحدى الصورتين طاعة ، وفي الأخرى معصية ، قالوا : وما ذاك إلا القصد والإرادة ، والمراد من القصد : إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال ، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور{[32132]} .


[32103]:في ب: كونه. وهو تحريف.
[32104]:في ب: وكذلك.
[32105]:انظر الكشاف 3/42.
[32106]:انظر الفخر الرازي 23/78.
[32107]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 6/4.
[32108]:في النسختين: البدن والتصويب من البغوي.
[32109]:من قوله تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا} [طه: 108].
[32110]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 6/4.
[32111]:أخرجه الحكيم الترمذي عن أبي هريرة. البغوي 6/ 5 – 6 الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (115) والدر المنثور 5/7 – 4.
[32112]:في الأصل: قال.
[32113]:في ب: فهو.
[32114]:[محمد: 24].
[32115]:[المزمل: 4].
[32116]:من قوله تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا الله فاعبدني وأقيم الصلاة لذكري} [طه: 14].
[32117]:في الأصل: وظاهرها.
[32118]:في النسختين: الفكر.
[32119]:من قوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} [الأعراف: 205].
[32120]:في ب: وظاهر.
[32121]:من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43].
[32122]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[32123]:ذكره ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس. تفسير ابن كثير 3/414.
[32124]:في ب: وقال عليه الصلاة والسلام.
[32125]:أخرجه ابن ماجه (صيام) 1/539 والدارمي (رقاق) 2/301، أحمد بن حنبل 2/373، 441.
[32126]:رضي الله عنها: سقط من الأصل.
[32127]:في الأصل: الاختلاس.
[32128]:أخرجه البخاري (أذان) 1/137، (وبدء الخلق) 2/223، وأبو داود (صلاة) 1/560، والنسائي (سهو) 3/8، والترمذي (جمعة) 2/51، والإمام أحمد 6/70، 106.
[32129]:في ب: تعالى.
[32130]:أخرجه النسائي (سهو) 3/8، وأبو داود 1/331، والإمام أحمد 5/172، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/4.
[32131]:تعالى: سقط من الأصل.
[32132]:الفخر الرازي 23/ 78 – 80.