اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلۡمَلَكُ عَلَىٰٓ أَرۡجَآئِهَاۚ وَيَحۡمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ ثَمَٰنِيَةٞ} (17)

{ والملك على أَرْجَائِهَا } . لم يردْ به ملكاً واحداً ، بل المراد الجنس والجمع . «على أرجائها » «الأرجاء » في اللغة : النواحي والأقطار بلغة «هُذَيْل » ، واحدها : «رجا » مقصور وتثنيته «رجوان » ، مثل «عصا ، وعصوان » ، قال الشاعر : [ الوافر ]

4846 - فَلاَ يُرْمَى بِيَ الرَّجوانِ أنَّي***أقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي{[57768]}

وقال آخر : [ الطويل ]

4847 - كَأنْ لَمْ تَرَي قَبْلِي أسِيراً مُقَيَّداً*** ولا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجوانِ{[57769]}

و «رجاء » هذا يكتب بالألف عكس «رَجَا » ؛ لأنه من ذوات الواو ، ويقال : «رجا » ، ورجوانِ ، والجمع : «الأرجاء » ، ويقال ذلك لحرفي البئر وحرف القبر وما أشبهه .

فصل في تفسير الآية

قال ابن عباس : على أطرافها حين تنشق{[57770]} .

قال الماورديُّ : ولعله قول مجاهد وقتادة ، وحكاه الثعلبي عن الضحاك ، قال : على أطرافها مما لم تنشقّ منها{[57771]} .

وقال سعيد بن جبيرٍ : المعنى والملك على حافات الدنيا{[57772]} ، أي : ينزلون إلى الأرض ، ويحرسون أطرافها .

وقال : إذا صارت السماءُ قطعاً ، تقف الملائكةُ على تلك القطعِ التي ليست مُتشققة في أنفسها .

فإن قيل : الملائكةُ يمُوتُونَ في الصَّعقةِ الأولى ، لقوله تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض }[ الزمر : 68 ] فكيف يقال : إنهم يقفون على أرجاء السماء ؟ .

فالجوابُ من وجهين{[57773]} :

الأول : أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ، ثم يموتون .

والثاني : المراد الذين استثناهم في قوله : { إِلاَّ مَن شَاءَ الله } .

فإن قيل : إنَّ الناس إذا رأوا جهنَّم هالتهم ، فندُّوا كما تندُّ الإبلُ ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلاَّ رأوا ملائكة ، فيرجعون من حيثُ جاءوا .

وقيل : { على أَرْجَائِهَا } ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النَّارِ من السَّوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة ، وهذا كلُّه راجعٌ إلى قول ابن جبير ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً }[ الفرقان : 25 ] .

قوله : { على أَرْجَائِهَا } ، خبر المبتدأ ، والضمير للسماء ، وقيل : للأرضِ ، على ما تقدم .

قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما الفرق بين قوله : «والمَلَكُ » وبين أن يقال : «والمَلائِكَةُ » ؟

قلت : الملكُ أعمُّ من الملائكةِ ، ألا ترى إلى قولك : «ما من ملك إلاَّ وهو ساجدٌ » أعم من قولك : «ما مِنْ ملائكةٍ » انتهى .

قال أبو حيَّان{[57774]} : ولا يظهر أنَّ الملك أعمُّ من الملائكةِ ، لأن المفرد المحلَّى بالألف واللام ، قُصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلَّى ، ولذلك صح الاستثناءُ منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المُحَلَّى بهما ، وأما دعواه أنه أعم منه ، بقوله : «ألا ترى » إلى آخره ، فليس دليلاً على دعواه ؛ لأن «مِنْ ملكٍ » نكرةٌ مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها «مِن » المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملكٍ فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفرد فيه ، فانتفى كل فردٍ فرد ، بخلاف «مِنْ ملائِكةِ » ، فإن «مِنْ » دخلت على جمع منكَّر ، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكةِ ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ من الملائكة ، لو قلت : «ما في الدار من رجال » جاز أن يكون فيها واحدٌ ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفردُ ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه «مِنْ » وإنَّما جِيءَ به مفرداً ؛ لأنه أخفُّ ، ولأن قوله : { على أَرْجَائِهَا } يدلُّ على الجمع ؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون «على أرجائِهَا » في وقتٍ واحدٍ بل أوقات ، والمراد - والله أعلم - أن الملائكة على أرجائها إلاَّ أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات .

وقال شهاب الدين : إنَّ الزمخشريَّ منزعهُ في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة «البقرة » عند قوله : { وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }[ البقرة : 285 ] فليرجع ثمَّة .

وأما قول أبي حيان : «ما مِنْ رجالٍ » أن النفي منسحبٌ على رُتَب الجمع ، ففيه خلاف ، والتحقيق ما ذكره .

قوله : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } .

الضمير في «فَوقَهُمْ » يجوز أن يعود على «الملائكة » بمعنى كما تقدم ، وأن يعود على الحاملين الثمانية .

وقيل : إنَّ حملة العرشِ فوقَ الملائكةِ الذينَ في السماء على أرجائها .

وقيل : يعود على جميع العالم ، أي : أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلِّه .

فصل في هؤلاء الثمانية

قال ابن عباس : ثمانية صنوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله{[57775]} .

وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاكٍ{[57776]} .

وعن الحسن : الله أعلمُ كم هم ثمانية ، أم ثمانية آلاف ، أو ثمانية صفوف{[57777]} . وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أَنَّ حَمَلةَ العَرْشِ اليَوْم أربعةُ أوعالٍ ، فإذَا كان يومُ القيامةِ أيدهُم اللَّهُ بأربَعة آخرين ، فكانُوا ثَمانيَةً » خرَّجَهُ الماورديُّ مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم{[57778]} . ورواه العباسُ بنُ عبد المطّلب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : «هُمْ ثَمانِيَةُ أملاكٍ على صورةِ الأوعالِ ، لكلِّ ملكٍ منهُم أربعةُ أوجهٍ : وجهُ رجُلٍ ، ووجهُ أسدٍ ، ووجهُ ثورٍ ، ووجهُ نسْرٍ ، وكلُّ وجهٍ مِنْهَا يسألُ اللَّهَ الرِّزقَ لذلك الجِنْسِ »{[57779]} .

فإن قيل : إذا لم يكنْ فيهم صورةُ وعلٍ ، فكيف سُمُّوا أوعالاً ؟ .

فالجواب : أنَّ وجْهَ الثَّور إذا كانت له قرون الوعْلِ أشبه الوعْلَ .

وفي الخبرِ : «أنَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ ثمانيةَ أوْعالٍ بينَ أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ مثلُ ما بَيْنَ سماءٍ إلى سماءٍ ، وفوقَ ظُهورهِنَّ العَرْشُ »{[57780]} ذكره القشيريُّ ، وخرَّجهُ الترمذيُّ من حديث العباس بن عبد المُطلبِ .

وفي حديث مرفوع : «أنَّ حَمَلَةَ العرْشِ ثَمَانيَةُ أمْلاكٍ ؛ على صُوَرِ الأوعالِ ، ما بين أظْلافهَا إلى رُكَبِهَا مسِيْرةُ سبعِينَ عاماً للطَّائرِ المُسْرعِ » .

ورُوي أنَّ أرجلهنَّ في السَّماءِ{[57781]} السَّابعةِ{[57782]} .

فصل في إضافة العرش إلى الله

إضافة العرش إلى الله - تعالى - كإضافة البيت إليه ، وليس البيتُ للسكنِ ، فكذلك العرشُ ، ومعنى «فوقهم » أي : فوق رءوسهم .


[57768]:نسب البيت إلى عبد الرحمن بن الحكم. ينظر أدب الكاتب ص 257، والاقتضاب ص 366، والمفصل لابن يعيش 14714، واللسان (رجا) والقرطبي 18/173 والبحر 31418، والدر 6/364.
[57769]:ينظر اللسان (رجا) والبحر 8/314، والدر المصون 6/364.
[57770]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/408) وعزاه إلى عبد بن حميد وعبد الرزاق.
[57771]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/408) وعزاه إلى ابن المنذر.
[57772]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/215) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/408) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[57773]:ينظر: الفخر الرازي 30/96.
[57774]:ينظر: البحر المحيط 8/323.
[57775]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/215) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/409) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.
[57776]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/126) عن ابن زيد.
[57777]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/173) عن الحسن.
[57778]:تقدم تخريجه.
[57779]:أخرجه أبو يعلى (12/74) رقم (6712) والحاكم (2/500). وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/408) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وعثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية وابن المنذر وابن خزيمة وابن مردويه والخطيب في "تالي التلخيص" عن العباس بن عبد المطلب.
[57780]:أخرجه أبو داود (2724) والترمذي (2/332) وابن خزيمة في "التوحيد" (ص68) وابن ماجه (193) وابن أبي عاصم في "السنة" (1/253-254) من حديث العباس بن عبد المطلب.
[57781]:في أ: الأرض.
[57782]:تقدم تخريجه.