{ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } ولهذا قال هنا : { هم درجات عند الله } أي : كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم .
فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات ، والمنازل والغرفات ، فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم ، والمتبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين ، كل على حسب عمله ، والله تعالى بصير بأعمالهم ، لا يخفى عليه منها شيء ، بل قد علمها ، وأثبتها في اللوح المحفوظ ، ووكل ملائكته الأمناء الكرام ، أن يكتبوها ويحفظوها ، ويضبطونها .
ثم بين - سبحانه - النتيجة التى ترتبت على عدم تساوى المحسن والمسىء فقال { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .
والضمير { هُمْ } يعود على { مَنِ } فى قوله { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } وقوله { كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله } أى على الفريقين . وبعضهم جعل مرجعه إلى الفريق الأول فقط .
والدرجات : جمع درجة وهى الرتبة والمنزلة ، ومنه الدرج بمعنى السلم لأنه يصعد عليه درجة بعد درجة .
وأكثر ما تستعمل الدرجة فى القرآن فى المنزلة الرفيعة ، كما فى قوله - تعالى - { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } بخلاف الدركة فإنها تستعمل فى عكس ذلك ، كما فى قوله - تعالى - { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } ولذا قال الراغب : " الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود ، والدرك اعتبارا بالحدور ، ولهذا قيل : درجات الجنة ودركات النار ولتصور الحدور فى النار سميت هاوية . . . " .
والمعنى : هم أى الأخيار الذين ابتعوا رضوان الله ، والأشرار الذين رجعوا بسخط منه متفاوتون فى الثواب والعقاب على حسب أعمالهم كما تتفاوت الدرجات وإطلاق الدرجات على الفريقين من باب التغليب للأخيار على الأشرار والمراد إن الذين اتبعوا رضوان الله يتفاوتون فى الثواب الذى يمنحهم الله إياه على حسب قوة إيمانهم ، وحسن أعمالهم .
كما أن الذين باءوا بسخط منه يتفاوتون فى العقاب الذى ينزل بهم على حسب ما اقترفوه من شرور وآثام ، فمن أوغل فى الشرور والآثام كان عقابه أشد من عقاب من لم يفعل فعله وهكذا .
والذين قالوا إن الضمير { هُمْ } يعود على الفريق الول فقط احتجوا بأن التعبير بالدرجات يستعمل فى الغالب فى الثواب ، وبأن الله قد أضاف هذه الدرجات لنفسه فدل ذلك على أن المقصود بقوله : هم الذين اتبعوا رضوان الله . وبأن هؤلاء الذين اتبعوا رضوان الله قد فضل الله بعضهم على بعض كما جاء فى بعض الآيات ومنها قوله : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } والذى نراه أن عودة الضمير " هم " على الفريقين أقرب إلى الحق ، لأن تفاوت الدرجات موجود بين الأخيار كما أن تفاوت العقوبات موجود بين الأشرار ، فالذين أدوا جميع ما كلفهم الله به من طاعات ليسوا كالذين اكتفوا بأداء الفرائض . والذين انحدروا فى المعاصى إلى النهاية ليسوا كالذين وقعوا فى بعضها .
وقوله { عِندَ الله } أى فى حكمه وعلمه وهو تشريف لهم والظرف متعلق بدرجات على المعنى ، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لها . أى درجات كائنة عند الله .
وقوله { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أى مطلع على أعمال العباد صغيرها وكبيرها ظاهرها وخفيها ، لا يغيب عنه شىء ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه على حسب عمله ، بمقتضى علمه الكامل ، وعدله الذى لا ظلم معه .
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : أن من اتبع رضوان الله ، ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله ، فلمن اتبع رضوان الله الكرامة والثواب الجزيل ، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعقاب الأليم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّهِ وَاللّهُ بِصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } : أي لكل درجات مما عملوا في الجنة والنار ، إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّهِ } يقول : بأعمالهم .
وقال آخرون : معنى ذلك لهم درجات عند الله ، يعني : لمن اتبع رضوان الله منازل عند الله كريمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّهِ } قال : هي كقوله لهم درجات عند الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّهِ } يقول : لهم درجات عند الله .
وقيل قوله : { هُمْ دَرَجَاتٌ } كقول القائل : هم طبقات ، كما قال ابن هَرْمة :
إنْ حُمّ المَنُونُ يكُون قَوْمٌ *** لِرَيْبِ الدّهْرِ أمْ دَرَجَ السّيُول
وأما قوله : { وَاللّهُ بِصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } فإنه يعني : والله ذو علم بما يعمل أهل طاعته ومعصيته ، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء ، يحصي على الفريقين جميعا أعمالهم ، حتى توفى كل نفس منهم جزاء ما كسبت من خير وشرّ . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاللّهُ بِصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } يقول : إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته .
واختلف المفسرون في قوله تعالى : { هم درجات } من المراد بذلك ؟ فقال ابن إسحاق وغيره : المراد بذلك الجمعان المذكوران ، أهل الرضوان وأصحاب السخط ، أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة ، وفي أطباق النار أيضاً ، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره : إن المراد بقوله { هم } إنما هو لمتبعي الرضوان ، أي لهم درجات كريمة عند ربهم ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره «هم درجات » والدرجات المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة ، أو العذاب ، وقرأ إبراهيم النخعي «هم درجة » بالإفراد ، وباقي الآية وعيد ووعد .