المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ} (12)

12- كان مقتضى الإيمان أنكم عند سماع خبر التهمة ؛ أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً من العفاف والطهر ، وأن يقولوا في إنكار : هذا كذب واضح البطلان ، لتعلقه بأكرم المرسلين وأكرم الصديقات .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ} (12)

ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال : { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي : ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا ، وهو السلامة مما رموا به ، وأن ما معهم من الإيمان المعلوم ، يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل ، { وَقَالُوا } بسبب ذلك الظن { سُبْحَانَكَ } أي : تنزيها لك من كل سوء ، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة ، { هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أي : كذب وبهت ، من أعظم الأشياء ، وأبينها . فهذا من الظن الواجب ، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن ، مثل هذا الكلام ، أن يبرئه بلسانه ، ويكذب القائل لذلك .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ} (12)

ثم وجه - سبحانه - المؤمنين إلى الطريق الذى كان يجب عليهم أن يسلكوه فى مثل هذه الأحوال فقال :

{ لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } .

و " لولا " حرف تحضيض بمعنى هلا والمراد " بأنفسهم " هنا إخوانهم فى الدين والعقيدة .

أى : هلا وقت أن سمعتم - أيها المؤمنون والمؤمنات - حديث الإفك هذا ظننتم " بأنفسكم " . أى : بإخوانكم وبأخواتكم ظنا حسنا جميلا ، وقلتم : هذا الحديث الذى أذاعه المنافقون كذب شنيع وبهتان واضح لا يصدقه عقل أو نقل .

وفى التعبير عن إخوانهم وأخواتهم فى الدين بأنفسهم ، أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء الصادق بين المؤمنين ، حتى لكأن الذى يظن السوء بغيره إنما ظنه بنفسه .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { . . . ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ . . . } وقوله - سبحانه - { . . وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ . . . } قال أبو حيان - رحمه الله - : " وعدل بعد الخطاب - فى الآية الأولى - إلى الغيبة فى هذه الآية - ، وعن الضمير إلى الظاهر ، فلم يجىء التركيب ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم هذا إفك مبين . ليبالغ - سبحانه - فى التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان ، دلالة على أن الاشتراك فيه ، مقتض فى أن لا يصدق مؤمن على أخيه قو عائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن المؤمن إذا سمع قالة سوء فى أخيه أن يبنى الأمر فيه على ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه : هذا إفك مبين . هكذا باللفظ الصرحي ببراءة أخيه ، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال ، وهذا من الأدب الحسن ، ومعنى بأنفسهم ، أى : كأن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم ، فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه فى حق من هو خير منهم أبعد . . " .

ولقد فعل المؤمنون الصادقون ذلك ، فها هو ذا أبو ايوب خالد بن زيد الأنصارى ، قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ، أما تسمع ما يقوله الناس فى عائشة - رضى الله عنها - ؟ قال : نعم ، وذلك الكذب . أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت : لا . والله ما كنت لأفعله . قال : فعائشة والله خير منك .

وفى رواية أن أبا أيوب قال لزوجته أم أيوب : ألا ترين ما يقال ؟ فقالت له : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا ؟ قال : لا ، فقالت : ولو كنت أنا بدل عائشة - رضى الله عنها - ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير منى ، وصفوان خير منك .

وهكذا المؤمنون الأطهار الأخيار ، يبنون أمورهم على حسن الظن بالناس .

ورحم الله صاحب الانتصاف . فقد علق على ما قالته أم أيوب لزوجها فقال : ولقد ألهمت - أم أيوب - بنور الإيمان إلى هذا السر الذى انطوى عليه التعبير عن الغير من المؤمنين بالنفس ، فإنها نزلت زوجها منزلة صفوان ونفسها منزلة عائشة ، ثم أثبتت لنفسها ولزوجها البراءة والأمانة ، حتى أثبتتها لصفوان وعائشة بالطريق الأولى - رضى الله عنها - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ} (12)

( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ، وقالوا : هذا إفك مبين ) . .

نعم كان هذا هو الأولى . . أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا . وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة . . وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم . فظن الخير بهما أولى . فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا . . كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته - رضي الله عنهما - كما روى الإمام محمد ابن إسحاق : أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة - رضي الله عنها ? - قال : نعم . وذلك الكذب . أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ? قالت : لا والله ما كنت لأفعله . قال : فعائشة والله خير منك . . ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره : " الكشاف " أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : ألا ترين ما يقال ? فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سوءا ? قال : لا . قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة - رضي الله عنها - ما خنت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فعائشة خير مني ، وصفوان خير منك . .

وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه ، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة ، وما نسب إلى رجل من المسلمين : من معصية لله وخيانة لرسوله ، وارتكاس في حمأة الفاحشة ، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ} (12)

القول في تأويل قوله تعالى : { لّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هََذَآ إِفْكٌ مّبِينٌ } .

وهذا عتاب من الله تعالى ذِكْره أهلَ الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجافِ من أرْجَفَ في أمر عائشة بما أرجف به . يقول لهم تعالى ذكره : هلا أيها الناس إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظنّ المؤمنون منكم والمؤمنات بأنفسهم خيرا يقول : ظننتم بمن قُرِف بذلك منكم خيرا ، ولم تظنوا به أنه أتى الفاحشة . وقال «بأنفسهم » لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة ، لأنهم أهل ملة واحدة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن بعض رجال بني النجار ، أن أبا أيوب خالد بن زيد ، قالت له امرأته أمّ أيوب : أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى ، وذلك الكذب ، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب ؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله . قال : فعائشة والله خير منك . قال : فلما نزل القرآن ، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا ، ثم قال : لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمِنُونَ . . . الآية : أي كما قال أبو أيوب وصاحبته .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِناتُ بأنْفُسِهِمْ خَيْرا ما هذا الخير ؟ ظنّ المؤمن أن المؤمن لم يكن ليفجر بأمه ، وأن الأم لم تكن لتفجر بابنها ، إن أراد أن يفجر فجر بغير أمه . يقول : إنما كانت عائشة أمّا ، والمؤمنون بنون لها ، محرّما عليها ، وقرأ : لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . الآية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ظَنّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِناتُ بأنْفُسِهِمْ خَيْرا قال لهم خيرا ، ألا ترى أنه يقول : لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ يقول : بعضكم بعضا ، وسلموا على أنفسكم ، قال : يسلم بعضكم على بعض .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هَوْذة ، قال : حدثنا عوف عن الحسن ، في قوله : لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِناتُ بأنْفُسِهِمْ خَيْرا يعني بذلك المؤمنين والمؤمنات .

وقوله : وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ يقول : وقال المؤمنون والمؤمنات : هذا الذي سمعناه من القول الذي رُمِيَ به عائشة من الفاحشة : كذب وإثم ، يبين لمن عقل وفكر فيه أنه كذب وإثم وبهتان . كما :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : أخبرنا عوف عن الحسن : وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ قالوا : إن هذا لا ينبغي أن يتكلم به إلا من أقام عليه أربعة من الشهود وأقيم عليه حدّ الزنا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ} (12)

{ لولا } هلا . { إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم } . وإنما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة مبالغ في التوبيخ وإشعارا بأن الإيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذوبهم عن أنفسهم . وإنما جاز الفصل بين { لولا } وفعله بالظرف لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه وذلك يتسع فيه مالا يتسع في غيره ، وذلك لأن ذكر الظرف أهم فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله . { وقالوا هذا إفك مبين } كما يقول المستقين المطلع على الحال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ} (12)

هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أنزلت في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما اتصل بذلك من أمر «الإفك » وفي البخاري في غزوة بني المصطلق عن عائشة قالت وأنزل الله العشر الآيات ثم أنزل الله ما قرىء في براءتي فكأنها عدت ما تختص بها . و «الإفك » : الزور والكذب ، والأفاك : الكذاب ، و «الإفك » : قلب الحقيقة عن حالها بالأقوال وصرفها عن جهة الصواب وبذلك شبه الكذب . واختصار ، حديث «الإفك » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بعائشة في غزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع{[8620]} قال ابن إسحاق كانت سنة ست ، وقال ابن عقبة كانت سنة أَربع{[8621]} فضاع لها هناك عقد ، فلما انصرفت إلى الرحل شعرت بضياعه وجعلت تطلبه ، وسار الناس يومئذ فوجدته وانصرفت فلم تجد أحداً وكانت شابة قليلة اللحم رفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أَن تفتقد فيرجع عنها فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل إنا لله وإِنا إليه راجعون ، وذلك أنه تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة وقيل اتفاقاً فلما مر بسوادها قرب منها فعرفها ، فاسترجع وقال ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفت هاهنا ، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة فوقع أهل «الإفك » في مقالتهم وكل الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه{[8622]} عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أَثاثة وحمنة بنت جحش ، وهذا اختصار الحديث هو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم وهو في مسلم أكمل{[8623]} وكان صفوان صاحب ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته وكان من خيار الصحابة قال لما سمع ما قال الناس فيه : سبحان الله والله ما كشفت كنف{[8624]} أنثى قط .

قال الفقيه الإمام القاضي : أراد بزنى{[8625]} ، ويدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنيه «لهما أشبه به من الغراب بالغراب »{[8626]} وقيل كان حصوراً لا يأتي النساء ذكره ابن إسحاق عن طريق عائشة ، وقتل شهيداً رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشر في زمن عمر ، وقيل في بلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمن معاوية ، وقوله { عصبة } رفع على البدل من الضمير في { جاؤوا } وخبر { إن } في قوله { لا تحسبوه } والتقدير إن فعل الذين ، وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أَن يكون { عصبة } خبر { إن } و «العصبة » الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، قاله يعقوب وغيره ولا يقال عصبة لأقل من عشرة ولم يسم من أهل «الإفك » إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله{[8627]} وجهل الغير قاله عروة بن الزبير وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان وقال ألا إنهم كانوا { عصبة } كما قال الله تعالى .

وقوله { لا تحسبوه } خطاب لكل من ساءه من المؤمنين ، وقوله { بل هو خير لكم } يريد أنه تبرئة في الدنيا وترفيع من الله تعالى في أَن نزل وحيه بالبراءة من ذلك وأجر جزيل في الآخرة وموعظة للمؤمنين في غابر الزمن ، ونقمة من المفترين في الدنيا والآخرة . ففي ذلك شفاء وخير هذه خمسة أوجه ، والضمير في قوله { منهم } عائد على العصبة المذكورة ، و { اكتسب } مستعملة في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في التذنيب ، وكسب مستعمل في الخير وذلك أن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه ، وقد تستعمل كسب في الوجهين ومثله :

فحملت برة واحتملت فجاره{[8628]} ، والإشارة بقوله { والذي تولى كبره } إلى عبد الله بن أبي سلول ، والعذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة ، وهذا قول الجمهور وهو ظاهر الحديث ، وروي عن عائشة رضي الله عنها أَن حسان بن ثابت دخل عليها يوماً وقد عمي فأنشدها مدحه فيها : [ الطويل ]

حصان رزان ما تزنُّ بريبة . . . وتصبح غرثى من لحوم الغوافل{[8629]}

فقالت له عائشة : لا لكنك لست كذلك تريد أَنه وقع في الغوافل فأنشد : [ الطويل ]

فإن كان ما قد قيل عني قلته . . . فلا رفعت سوطي إليَّ أَناملي{[8630]}

فلما خرج قال لها مسروق أيدخل هذا عليك وقد قال ما قال وتوعده الله بالعذاب على توليه كبر الإفك ، فقالت عائشة أي عذاب أشد من العمى ، وضرب الحد ؟ وفي بعض الروايات وضربه بالسيف ع فأما قولها عن الحد فإن حسان بن ثابت وحمنة ومسطحاً حدوا ، ذكر ذلك ابن إسحاق وذكره الترمذي ، وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن ابن أبي حد ، وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما لأنه لم يحفظ عن عبد الله الرمي ، قال عروة في البخاري : ( أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه ){[8631]} . وأَما ضربة بالسيف فإن صفوان بن العطل لما بلغه قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال : [ الطويل ]

تلق ذباب السيف عني فإنني . . . غلام إذا هوجيت لست بشاعر

فأخذ جماعة صفوان ولببوه وجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر رسول الله صلى الله عليه جرح حسان واستوهبه إياه ، وهذا يقتضي أن حسان ممن تولى الكبر{[8632]} ، وقال الإشارة ب { الذي } إلى البادي بهذه الفرية والذي اختلقها ف { لكل } واحد { منهم ما اكتسب } وللبادي المفتري عذاب عظيم ، وهو على غير معين وهذا قول الضحاك والحسن وقال أَبو زيد وغيره هو عبد الله بن أَبي ، وقرأ جمهور الناس «كِبره » بكسر الكاف ، وقرأ حميد والأعرج ويعقوب والزهري وأَبو رجاء والأعمش وابن أَبي عبلة «كُبره » بضم الكاف وهما مصدران من كبر الشيء عظم ، ولكن استعملت العرب ضم الكاف في السن تقول هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة «الكبر الكبر »{[8633]} ومن استعماله في المعنى الثاني قول ابن الحطيم : [ المنسرح ]

تنام عن كبر شأنها فإذا . . . قامت رويداً تكاد تنقصف{[8634]}

الخطاب بهاتين الآيتين لجميع المؤمنين حاشى من تولى الكبر ويحتمل دخولهم في الخطاب ، وفي هذا عتاب للمؤمنين أي كان الإنكار واجباً عليهم ، والمعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم وإذا كان ذلك يبعد فيهم فكانوا يقضون بأنه من صفوان وعائشة أبعد لفضلهما ، وروي أَن هذا النظر السديد وقع من أَبي أيوب الأنصاري وامرأته ، وذلك أنه دخل عليها فقالت له يا أًبا أيوب أسمعت ما قيل ؟ فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ؟ قالت لا والله ، قال فعائشة والله أفضل منك ، قالت أم أيوب نعم{[8620]} فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله المؤمنين [ عليه ]{[8621]} إذ لم يفعله جميعهم .


[8620]:هو ماء لبني المصطلق يقال له: المريسيع، وهو من ناحية قد يد إلى الساحل، وقد لقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الماء فسميت الغزوة باسمه.
[8621]:وقيل: بل كانت سنة خمس، قال الحاكم في "الإكليل": وهذا أشبه من قول ابن إسحق، ويؤيد هذا ما ثبت في حديث الإفك من تنازع كل من سعد بن معاد الأنصاري وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، ولو كانت غزوة المريسيع سنة ست كما قال ابن إسحق لكان ذكر سعد بن معاذ في حديث الإفك خطأ؛ لأنه مات أيام قريظة سنة خمس على الصحيح. هذه حجة من قال إنها كانت سنة خمس، واعتمد على ذكر سعد بن معاذ في مسلم والبخاري، أما ابن إسحق الذي ذكر أنها كانت سنة ست فلا يذكر سعد بن معاذ، بل يذكر أسيد بن حضير على أنه هو الذي وقع بينه وبين سعد بن عبادة نزاع.
[8622]:يستوشيه: يستخرجه بالبحث والسؤال عنه ثم يفشيه ويشيعه وينشره في الناس.
[8623]:حديث الإفك مشهور، وهو حديث طويل، وقد رواه البخاري في غزوة بني المصطلق، ورواه مسلم في كتاب التوبة، وذكر الإمام السيوطي في الدر المنثور أن من رواته أحمد في مسنده، والترمذي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وهو عن عائشة رضي الله عنها. وقد نقل ابن كثير في تفسيره حديث الإفك عن الإمام أحمد وعن البخاري ومسلم، كذلك ذكر الحديث مطولا الإمام الحافظ بن حجر في كتاب "فتح الباري".
[8624]:الكنف: جانب الشيء، وكنفا الإنسان: حضناه عن يمينه وشماله. "المعجم الوسيط"، وقد ورد في بعض الكتب "كتف" بالتاء.
[8625]:جاء في حديث الإفك ما يأتي على لسان السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: (وبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له، فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كنف أنثى قط) ـ وهذا يتفق مع ما قاله ابن إسحق من أن صفوان كان حصورا لا يأتي النساء، ولكن ذلك يتناقض مع ما رواه أبو داود من طريق أبي صالح عن أبي سعيد، قال: (جاءت امرأة صفوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صفوان يضربني...) فكيف تكون له زوجة ويقول: ما كشفت كنف امرأة قط؟ يجيب ابن عطية عن هذا بقوله: "أراد بزنى" يعني: لم أكشف كنف امرأة في زنى، أما الحلال فلم ينفه، وقد أورد البخاري هذا الإشكال قديما، ومال إلى تضعيف حديث أبي سعيد عن قصة امرأته وضربه لها، وأجاب صاحب "الإصابة" بقوله: إنه تزوج بعد قصة الإفك، أما عند قصة الإفك فلم يكن قد كشف كنف امرأة قط، وهو صادق في يمينه.
[8626]:هذا جزء من حديث رواه البخاري في كتاب اللباس، وهو عن رفاعة الذي طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وشكت المرأة أن زوجها الجديد ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، وكذبها زوجها وقال إنها ناشز ويريد العودة إلى رفاعة، وكان معه ابنين له من غيرها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا الذي تزعمين ما تزعمين، فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب)، ولم نقف على مثل هذا النص في حديث عن صفوان إلا هذه الفقرة التي ذكرها المؤلف، ونقلها عنه القرطبي فيما نقل، وهي أيضا في كتاب الإصابة، والله أعلم بالصواب.
[8627]:وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم حسان، ومسطحا، وحمنة بعد أن برأ القرآن الكريم عائشة رضي الله عنها، فقد أقام عليهم حد القذف، واختلف هل أقيم الحد على عبد الله بن أبي بن سلول أم لا، ومسطح لقب، واسمه عوف. وحمنة هي أخت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
[8628]:هذا عجز بيت للنابغة الذبياني، والبيت بتمامه: إنا اقتسمنا خطتينا بيننا فحملت برة واحتملت فجار وهو من قصيدة قالها النابغة في هجاء زرعة بن عمرو بن خويلد الكلابي، لأن زرعة كان قد طلب إلى النابغة أن يشير على قومه بقتال بني أسد، فأبى النابغة فتوعده زرعة، فقال النابغة قصيدته وفيها: نبئت زرعة والسفاهة كاسمها يهدي إلي غرائب الأشعار وقد استشهد صاحب اللسان بالنصف الثاني أيضا من البيت، وقال: "عبر عن البرة بالحمل، وعن الفجرة بالاحتمال؛ لأن حمل البرة بالإضافة إلى احتمال الفجرة أمر يسير ومستصغر، ومثله قول عز اسمه: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وبرة علم للبر، وفجار علم على الفجور، وهو مبني على الكسر، وقد قيل: إن (احتمل) بمعنى (حمل)، وأصله مطاوع (حمله) فاحتمل، ولكن تنوسي معنى المطاوعة بكثرة الاستعمال فصار بمعنى حمل، والنابغة لزرعة: لقد ذهب كل منها بحظه ونصيبه في الحياة، فذهبت أنا بالخير والبر، وذهبت أنت بالشر والفجور.
[8629]:سبق الاستشهاد بهذا البيت في هذه السورة عند تفسير قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات}. راجع صفحة (431).
[8630]:هذا بيت آخر من الأبيات التي قالها حسان بن ثابت في مدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو في هذه الأبيات يعتذر عما كان منه، وقد رواها ابن إسحق وتجدها في السيرة النبوية لابن هشام، وهذه هي الأبيات كما رواها، وتختلف في عددها وترتيب الأبيات فيها عما في الديوان: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتموا فلا رفعت سوطي إلي أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلهم تقاصر عنه سورة المتطاول فإن الذي قد قيل ليس بلائط ولكنه قول امرئ بي ماحل
[8631]:أورد البخاري ذلك في حديث الإفك، وذكر بعده عن عروة أيضا قوله: (لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى). والكلام من أول قول ابن عطية: "ذكره الترمذي..." إلى آخر ما نقله عن عروة سقط من أكثر النسخ المخطوطة.
[8632]:قصة ضرب صفوان لحسان بالسيف ذكرها ابن إسحق في السيرة، وفيها أن ثابت ابن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل حين ضرب حسان، فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك، ضرب حسان بالسيف، والله ما أراه إلا قد قتله، قال له عبد الله ابن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فدعا حسان وصفوان، فقال ابن المعطل: يا رسول الله، آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: أحسن يا حسان، أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام، أحسن يا حسان في الذي أصابك، قال: هي لك يا رسول الله. قال ابن إسحق: فحدثني محمد بن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عوضا منها بيرحاء.
[8633]:أخرجه البخاري في الأدب، ومسلم في القسامة، والترمذي في الديات، والنسائي في القسامة، والدرامي في الفرائض، ولفظه كما في البخاري، عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة، أن عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود أتيا خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل، وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبد الرحمن ـ وكان أصغر القوم ـ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر الكبر، قال يحيى: ليلي الكلام الأكبر، فتكلموا في أمر صاحبكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتستحقون قتيلكم ـ أو قال صاحبكم ـ بأيمان خمسين منكم؟ قالوا: يا رسول الله، أمر لم نره، قال: فتبرئكم يهود في أيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله، قوم كفار، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله.
[8634]:قال ابن الخطيم هذا البيت من الشعر في حرب كانت بين قومه وبين بني خطمة، وهو في الديوان، وخبر هذه الحرب في الأغاني وفي الخزانة، والبيت مع أبيات قبله في وصف امرأة نشأت في نعمة ورفاهية، فهي لا تعمل، وهي تنام عن معظم شأنها لأنها ليست في حاجة إلى العمل، إذ لها من الخدم من يغنيها عن ذلك، حتى إذا قامت قامت في سكون وضعف. وتنغرف: تسقط، يقال: انغرف الغصن من الشجرة إذا انقطع، ورويت: (تكاد تنعطف)، كما رويت: (تنقصف) أي: تنكسر لرقة خصرها وثقل ردفها. ورويدا معناه: برفق ودعة وتكاسل، وهو منصوب على الحال، أو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: قياما رويدا. والبيت شرحه ابن السكيت في كتابه (إصلاح المنطق)، والبطليوسي في (الاقتضاب)، وروي "تمشي رويدا"، وفي الحماسة البصرية: "قامت تمشي"، وهو في (المحتسب) لابن جني كما رواه ها هنا.

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ} (12)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم وعظ الذين خاضوا في أمر عائشة، رضي الله عنها، فقال: {لولا إذ سمعتموه} يقول: هلا إذ سمعتم قذف عائشة، رضي الله عنها، بصفوان كذبتم به، ألا {ظن المؤمنون والمؤمنات} لأن فيهم حمنة بنت جحش {بأنفسهم خيرا} يقول: ألا ظن بعضهم ببعض خيرا بأنهم لم يزنوا {و} ألا {قالوا هذا إفك مبين}، يقول: ألا قالوا هذا القذف كذب بيّن.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وهذا عتاب من الله تعالى ذِكْره أهلَ الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجافِ من أرْجَفَ في أمر عائشة بما أرجف به. يقول لهم تعالى ذكره: هلا أيها الناس إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة "ظنّ المؤمنون منكم والمؤمنات بأنفسهم خيرا "يقول: ظننتم بمن قُرِف بذلك منكم خيرا، ولم تظنوا به أنه أتى الفاحشة. وقال «بأنفسهم» لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة، لأنهم أهل ملة واحدة...

عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك. قال: فلما نزل القرآن، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك: "إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ..." وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: "لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمِنُونَ..." أي كما قال أبو أيوب وصاحبته...

وقوله: "وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ" يقول: وقال المؤمنون والمؤمنات: هذا الذي سمعناه من القول الذي رُمِيَ به عائشة من الفاحشة: كذب وإثم، يبين لمن عقل وفكر فيه أنه كذب وإثم وبهتان.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وبَسْطِ ألسنتهم بالسوء عنها، وتَرْكِهم الإعراض عن حُرَم النبي صلى الله عليه وسلم...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

أي بإخوانهم خيراً، وفيه دليل على أنه لا يحكم بالظن في مثل ذلك، وأن من عرف بطريقة الصلاح لا يعدل عن هذا لظن فيه الخبر محتمل.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه، أن يبني الأمر فيها على الظنّ لا على الشك. وأن يقول بملء فيه بناء على ظنّه بالمؤمن الخير: {هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ} هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

هَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ دَرَجَةَ الْإِيمَانِ الَّتِي حَازَهَا الْإِنْسَانُ، وَمَنْزِلَةَ الصَّلَاحِ الَّتِي حَلَّهَا الْمَرْءُ، وَلُبْسَةَ الْعَفَافِ الَّتِي تَسَتَّرَ بِهَا الْمُسْلِمُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ، وَإِنْ شَاعَ، إذَا كَانَ أَصْلُهُ فَاسِدًا أَوْ مَجْهُولًا...

{وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ}؛ أَيْ كَذِبٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ بَاطِنٍ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ، وَذَلِكَ أَكْذَبُ الْأَخْبَارِ وَشَرُّ الْأَقْوَالِ حَيْثُ اُسْتُطِيلَ بِهِ الْعِرْضُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَقْرُونٌ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ بِالْمُهُجَاتِ.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي: كذب ظاهر على أم المؤمنين، فإن الذي وقع لم يكن ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جَهْرَة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، لو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جَهْرَة، ولا كانا يُقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد، بل كان يكون هذا -لو قُدر- خفية مستورا، فتعيَّن أن ما جاء به أهل الإفك مما رَمَوا به أم المؤمنين هو الكذب البحت، والقول الزور، والرّعُونة الفاحشة [الفاجرة] والصفقة الخاسرة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقابهم، وكان من المؤمنين من سمعه فسكت، وفيهم من سمعه فتحدث به متعجباً من قائله، أو مستثبتاً في أمره، ومنهم من كذبه، أتبعه سبحانه بعتابهم، في أسلوب خطابهم، مثنياً على من كذبه، فقال مستأنفاً محرضاً: {لولا} أي هلا ولم لا {إذ سمعتموه} أيها المدعون للإيمان. ولما كان هذا الإفك قد تمالأ عليه رجال ونساء قال: {ظن المؤمنون} أي منكم {والمؤمنات} وكان الأصل: ظننتم، ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ، وصرح بالنساء، ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة: {بأنفسهم} حقيقة {خيراً} وهم دون من كذب عليها، فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن بالناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم، لأن المؤمنين كالجسد الواحد، أو ظنوا ما يظن بالرجل لو خلا بأمه، وبالمرأة إذا خلت بابنها، فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين {وقالوا هذا إفك} أي كذب عظيم خلف منكب على وجهه {مبين} أي واضح في نفسه، موضح لغيره، وبيانه وظهوره أن المرتاب يكاد يقول: خذوني فهو يسعى في التستر جهده، فإتيان صفوان بعائشة رضي الله عنها راكبة على جمله داخلاً بها الجيش في نحر الظهيرة والناس كلهم يشاهدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ينزل عليه الوحي، إدلالاً بحسن عمله، غافلاً عما يظن به أهل الريب، أدل دليل على البراءة وكذب القاذفين، ولو كان هناك أدنى ريبة لجاء كل منهما وحده على وجه من التستر والذعر، تعرف به خيانته، فالأمور تذاق، ولا يظن الإنسان بالناس إلا ما في نفسه...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} تلوينٌ للخطاب وصرفٌ له عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وذويهِ إلى الخائضينَ بطريق الالتفاتِ لتشديد ما في لولا التَّحضيضيةِ من التَّوبيخِ ثمَّ العدول عنه إلى الغيبةِ في قوله تعالى: {ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} لتأكيدِ التَّوبيخِ والتَّشنيعِ،..

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي: كذب وبهت، من أعظم الأشياء، وأبينها. فهذا من الظن الواجب، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن، مثل هذا الكلام، أن يبرئه بلسانه، ويكذب القائل لذلك.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

نعم كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا. وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة.. وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم. فظن الخير بهما أولى. فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا.. كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته -رضي الله عنهما- كما روى الإمام محمد ابن إسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة -رضي الله عنها؟- قال: نعم. وذلك الكذب. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك.. ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره:"الكشاف" أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] سوءا؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة -رضي الله عنها- ما خنت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فعائشة خير مني، وصفوان خير منك..

وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق التي سرت لبعض المؤمنين عن غرور وقلة بصارة فكفى بذلك تشنيعاً له...

{وقالوا هذا إفك مبين} تشريع لوجوب المبادرة بإنكار ما يسمعه المسلم من الطعن في المسلم بالقول كما ينكره بالظن وكذلك تغيير المنكر بالقلب واللسان.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

ووجه كتاب الله الخطاب إلى فريق من ضعفاء المؤمنين الذين أثرت في نفوسهم بعض التأثير إشاعة عصبة الإفك والنفاق، يعاتبهم ويبين لهم الموقف السليم الذي يجب أن يقفوه من مثل هذه الإشاعات الملفقة، التي يتحتم البحث عن مصدرها، والغرض المقصود منها، والتحري عنها من جميع الوجوه. ونفس هذا الخطاب موجه إلى جميع المؤمنين، بالنسبة لقصة الإفك ولجميع قصص الإفك الأخرى، التي يمكن أن تصدر عن أعداء الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

يوجهنا الحق- تبارك وتعالى- إلى ما ينبغي أن يكون في مثل هذه الفتنة من ثقة المؤمنين بأنفسهم وبإيمانهم، وأن يظنوا بأنفسهم خيرا وينأوا بأنفسهم عن مثل هذه الاتهامات التي لا تليق بمجتمع المؤمنين، فكان على أول أذن تسمع هذا الكلام على أول لسان ينطق به أن يرفضه، لأن الله تعالى ما كان ليدلس على رسوله وصفوته من خلقه، فيجعل زوجته محل شك واتهام فضلا عن رميها بهذه الجريمة البشعة...

{لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين} كان من المنتظر قبل أن تنزل المناعة في القرآن أن تأتي من نفوس المؤمنين أنفسهم، فيردون هذا الكلام. و (لولا) أداة للحض والحث، وقال: {المؤمنون والمؤمنات} لأنه جال في هذه الفتنة رجال ونساء، والقرآن لا يحثهم على ظن الخير برسول الله أو بزوجته، وإنما ظن الخير بأنفسهم هم، لأن هذه المسألة لا تليق بالمؤمنين، فما بالك بزوجة نبي الله ورسوله (ص)؟. {وقالوا} أي: قبل أن ينزل القرآن ببراءتها {هذا إفك مبين} يعني: كذب متعمد واضح بين لأنه في حق من؟ في حق أم المؤمنين التي طهرها الله واختارها زوجة لرسوله (صلى الله عليه وسلم).

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذا ما يفرض على المؤمنين والمؤمنات، أن لا يصدّقوا الإشاعات المنسوبة إلى بعضهم لمجرّد سماعهم ذلك، بل لا بد لهم من أن يحملوها على الخير حتى يثبت لهم الشرّ، لأن مجرد الإشاعة التي لا ترتكز على حجة ثابتةٍ، لا تصلح أساساً للحكم، أو للاتهام القويّ، ولولا ذلك لكان المجتمع المؤمن خاضعاً للاهتزاز أمام الأجهزة الكافرة أو الضالة أو المنافقة، التي تعمل على إفقاد أفراده الثقة ببعضهم البعض، وتحطيم كرامتهم، والإخلال بتوازنه المعنوي، وإثارة المشاكل والخلافات في داخله..

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثمّ تَوجّهت الآية التالية: إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات، فلامتهم بشدّة (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً).

أي: لِمَاذا لم تقفوا في وَجْهِ المنافقين بقوّة، بل استمعتم إلى أقوالهم الّتي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم. ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأن هذا الكلام كذب وافتراء: (وقالوا هذا افك مبين).

أنّكم كنتم تعرفون جيداً الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين، وتعرفون جيداً طهارة الذي اتّهم، وكنتم مطمئنين من عدم صدق هذه التهمة وفق الدلائل المتوفرة لديكم.

وكنتم تعلمون أيضاً بما يحاك من مؤامرات ضدّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الأعداء والمنافقين، لذا فإنّكم تستحقون اللوم والتأنيب لمجرد هذه الشائعات الكاذبة، ولالتزامكم الصمت إزاءها، فكيف بكم وقد اشتركتم في نشر هذه الشائعة بوعي أو دون وعي منكم؟

وممّا يلفت النظر أن الآية السابقة بدلا من أن تقول: عليكم أن تحسنوا الظن بالمتهم وتصدقوا تهمته، فإنها تقول (ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً) وهذه العبارة كما قلنا إشارة إلى أنَّ أنفس المؤمنين كنفس واحدة، فإذا اتهم أحدهم، فكأن التهمة موجهة لجميعهم، ومثالهم في ذلك كمن اشتكى عضو منه فهبت بقية الأعضاء لنجدته.

وهكذا يجب أن يهب المسلم للدفاع عن إخوته وأخواته في الدين مثلما يدافع عن نفسه.

وقد استعملت كلمة «الأنفس» في آيات أخرى من القرآن في هذا المعنى أيضاً في مثل هذه الحالات كما هو في الآية (11) من سورة الحجرات (ولا تلمزوا أنفسكم)! أمّا الاستناد إلى الرجال والنساء المؤمنين فيشير إلى قدرة الإيمان على ردع سوء الظن بالآخرين.

وحتى هذه اللحظة كانت الملامة ذات طابع أخلاقي ومعنوي، وتقضي بعدم التزام المؤمنين جانب الصمت إزاء مثل هذه التهم القبيحة، أو أن يكونوا وسيلة بيد مُروِّجي الشائعات.