والضمير المنصوب فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ . . } يعود إلى الماء الطهور الذى سبق الحديث عنه .
والتصريف : التكرير والتنويع والانتقال من حال إلى حال .
أى : ولقد صرفنا هذا المطر النازل من السماء فأنزلناه بين الناس فى البلدان المختلفة ، وفى الأوقات المتفاوتة ، وعلى الصفات المتغايرة ، فنزيده فى بعض البلاد وننقصه أخرى ، ونمنعه عن بعض الأماكن . . . كل ذلك على حسب حكمتنا ومشيئتنا .
وقد فعلنا ما فعلنا لكى يعتبر الناس ويتعظوا ويخلصوا العبادة لنا .
قال الآلوسى : قوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ } الضمير للماء المنزل من السماء ، وتصريفه : تحويل أحواله ، وأوقاته وإنزاله على أنحاء مختلفة .
وقال بعضهم : هو راجع إلى القول المفهوم من السياق ، وهو ما ذكر فيه إنشاء السحاب وإنزال المطر ، وتصريفه : تكريره ، وذكره على وجوه ولغات مختلفة .
والمعنى : ولقد كرننا هذا القول وذكرناه على أنحاء مختلفة فى القرآن وغيره من الكتب السماوية بين الناس ليتفكروا .
وأخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن عطاء الخراسانى أنه عائد على القرآن . ألا ترى قوله - تعالى - بعد ذلك : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } وحكاه فى البحر عن ابن عباس . والمشهور عنه ما تقدم ، ولعل المراد ما ذكر فيه من الأدلة على كمال قدرته - تعالى - .
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو القول الأول ، لأن سياق الحديث عن المطر النازل من السماء بقدرة الله - تعالى - ولأن هذا القول هو المأثور عن جمع من الصحابة والتابعين ، كابن عباس ، وابن مسعود وعكرمة ، ومجاهد وقتادة . . . وغيرهم .
وقوله - تعالى - : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } بيان لموقف أكثر الناس من نعم الله - تعالى - . أى : أنزلنا المطر ، وصرفناه بين الناس ليعتبروا ويتعظوا ، فأبى أكثرهم إلا الجحود لنعمنا ، ومقابلتها بالكفران ، وإسنادها إلى غيرنا ممن لا يخلقون شيئا وإنما هم عباد لنا ، وخلقنا .
وفى صحيح مسلم " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه بعد نزول المطر من السماء : " أتدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . فقال صلى الله عليه وسلم : " قال ربكم ، أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بى كافر بالكواكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بى مؤمن بالكواكب " " .
- والنوء - بتشديد النون وفتحها وسكون الواو : سقوط نجم فى المغرب مع الفجر ، وطلوع آخر يقابله من ساعته بالمشرق .
وقال - سبحانه - : { فأبى أَكْثَرُ الناس . . . } لمدح القلة المؤمنة منهم ، وهم الذين قابلوا نعم الله - تعالى - بالشكر والطاعة .
وعند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلتفت إلى القرآن النازل من السماء كذلك لتطهير القلوب والأرواح ؛ وكيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للأرواح :
ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا ، ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا . فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا . .
( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ) . . فعرضناه عليهم في صور شتى ، وأساليب متعددة ، ولفتات متنوعة ؛ وخاطبنا به مشاعرهم ومداركهم ، وأرواحهم وأذهانهم . ودخلنا عليهم به من كل باب من أبواب نفوسهم ، وبكل وسيلة تستجيش ضمائرهم . . ( ليذكروا ) . . فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر . والحقيقة التي يحاول القرآن ردهم إليها مركوزة في فطرتهم ، أنساهم إياها الهوى الذي اتخذوا منه إلها . . ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) .
ومهمة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إذن ضخمة شاقة ، وهو يواجه البشرية كلها وأكثرها أضله الهوى ، وأبى إلا الكفر ودلائل الإيمان حاضرة . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذّكّرُواْ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً } .
يقول تعالى ذكره : ولقد قسمنا هذا الماء الذي أنزلناه من السماء طهورا لنحيي به الميت من الأرض بين عبادي ، ليتذكروا نعمي عليهم ، ويشكروا أياديّ عندهم وإحساني إليهم ، فأبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كُفُورا يقول : إلا حجودا لنعمي عليهم ، وأياديّ عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت الحسن بن مسلم يحدّث طاوسا ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكنّ الله يصرّفه بين خلقه قال : ثم قرأ : وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهُمْ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، قال : حدثنا الحسين بن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قال ابن عباس : ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكنه يصرفه في الأرضين ، ثم تلا وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهمْ لِيَذّكّروا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهُمْ قال : المطر ينزله في الأرض ، ولا ينزله في الأرض الأخرى ، قال : فقال عكرِمة : صرفناه بينهم ليذّكروا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذّكّرُوا قال : المطر مرّة ههنا ، ومرّة ههنا .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يزيد بن أبي زياد ، أنه سمع أباجحيفة يقول : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : ليس عام بأمطر من عامّ ، ولكنه يصرفه ، ثم قال عبد الله : ولقَدْ صَرّفْناهُ بَيْنَهُمْ . وأما قوله : فأبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كفُورا فإن القاسم .
حدثنا قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرِمة فأَبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كُفَورا قال : قولهم في الأنواء .
{ ولقد صرفناه بينهم } صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن الكريم وسائر الكتب ، أو المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : " ما عام أمطر من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء وتلا هذه الآية " أو في الأنهار والمنافع . { ليذكروا } ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك ويقوموا بشكره ، أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم . { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها ، أو جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ، ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافرا بخلاف من يرى أنها من خلق الله ، والأنواء وسائط وأمارات بجعله تعالى .
والضمير في { صرفناه } قال ابن عباس ومجاهد هو عائد على الماء المنزل من السماء ، المعنى أن الله تعالى جعل إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض المواضع وهذا كله في كل عام بمقدار واحد ، وقاله ابن مسعود ، وقوله على هذا التأويل { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } أي في قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة ، وقيل { كفوراً } على الإطلاق لما تركوا التذكر ، وقال ابن عباس الضمير في { صرفناه } للقرآن وإن كان لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضد ذلك قوله بعد ذلك ، { وجاهدهم به } ، وعلى التأويل الأول الضمير في { به } يراد به القرآن على نحو ما ذكرناه ، وقال ابن زيد يراد به الإِسلام ، وقرأ عكرمة «صرَفنا » بتخفيف الراء ، وقرأ حمزة والكسائي والكوفيون «ليذْكروا » بسكون الذال ، وقرأ الباقون «ليذكّروا » بشد الذال والكاف .