وأخبر عن عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين ، أنهم ما يودون { أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ } أي : لا قليلا ولا كثيرا { مِنْ رَبِّكُمْ } حسدا منهم ، وبغضا لكم أن يختصكم بفضله فإنه { ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ومن فضله عليكم ، إنزال الكتاب على رسولكم ، ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فله الحمد والمنة .
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى ما يضمره لهم المشركون وأهل الكتاب وعلى رأسهم اليهود - من شرور وأحقاد فقال تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ . . . }
{ مَّا يَوَدُّ } أي : ما يحب ، إذ الود محبة الشيء مع تمنيه ، يقال : ود فلان كذا يوده وداً ومودة بمعنى أحبه وتمناه .
قال صاحب الكشاف : " ومن الأولى في الآية للبيان ، لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان ، أهل الكتاب والمشركون ، والثانية مزيدة لاستغراق الخير والثالثة لابتداء الغاية " .
وقوله - تعالى - : { مَّا يَوَدُّ } . . إلخ الآية بيان لما يبيته الكافرون - خصوصاً اليهود - للمسلمين من حقد وكراهية وتحذير لهم من الاطمئنان إليهم ، والثقة بهم .
وفي التعبير بقوله تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } دون ما يود أهل الكتاب تنبيه إلى أنهم قد كفروا بكتبهم ، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها لصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم الذي أمرتهم كتبهم بصديقه واتباعه .
وعطف عليهم المشركين ليدل على أن عبدة الأصنام - أيضاً - يضاهون كفرة أهل الكتاب ، في كراهة نزول أي خير على المؤمنين ، وأن الجميع يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم من دون قويم ، وقرآن كريم ، وهداية عظمى ، وأخوة شاملة ، وأمن بعد خنوف ، وقوة بعد ضعف .
والخير : النعمة والفضل ، والمراد به في الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحي الصادق ، والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والحجة البالغة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع .
وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم ، وكراهتهم أن تكون النبوة في رجل عربي ليس منهم .
والمشركون كرهوا ذلك - أيضاً - لأن في انتشار الإِسلام ، وفي تنزيل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ما يخيب آمالهم في إبطال الدعوة الإِسلامية ، وإضعاف شوكتها والنصر على أتباعها .
وقوله تعالى : { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } .
رد عليهم بما يكشف عن جهلهم وجهل جميع الحاسدين ، لأن الحاسد لغباوته يسخط على قدر الله ، ويعترض عليه لإِنعامه - سبحانه - على المحسود والله - تعالى - هو صاحب التصرف المطلق في الإِعطاء والمنع فكان من الواجب على هؤلاء الذين لا يودون أن ينزل أي خير على المؤمنين أن يريحوا أنفسهم من هذا العناء ، وأن يتحولوا عن ذلك الغباء ، لأن الله - تعالى - يهب خيره لمن يشاء .
والاختصاص بالشيء : الانفراد به ، تقول : اختص فلان بكذا أي انفرد به ، ويستعمل متعدياً إلى المفعول به ، فتقول : اخصصت فلانا بكذا أي أفردته به وجعلته مقصوراً عليه .
وعلى هذا الوجه ورد الاختصاص في الآية الكريمة .
وقدي - سبحانه - اختصاص رحمته بمن يشاء ليعلم الناس جميعاً ، أن إفراد بعض عباده بالرحمة منوط بمشيئته وحدها ، وليس لأحد كائناً من كان أي تأثير في ذلك .
ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه . أي : يختص برحمته من يشاء اختصاصه بها ، وهي تتناول النبوة . والقرآن ، والنصر ، وكل ذلك مما لا يود الكافرون إنزاله على المؤمنين .
وقوله تعالى : { والله ذُو الفضل العظيم } تذييل لما سبق أي كل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده - تعالى - يتفضل به عليهم ، وفي ذلك إشعار للحاسدين بأن يقلعوا عن حسدهم ، وتعريض باليهود وغيرهم ممن حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم على أن آتاه الله النبوة ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إني أصطفى للنبوة من أشاء من عبادي وهي لا تدرك بالأماني ، ولكني أهبها لمن هو أهل لها .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين مما يبيته لهم الكافرون من حقد وبغضاء وبشرتهم بأن ما يبيتونه لن يضرهم ما داموا معتصمين بكتاب ربهم ، وسنة نبيهم .
ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن موضوع النسخ الذي أثار اليهود حوله الشبهات ، وجادلوا فيه النبي صلى الله عليه وسلم .
لقد استنكر اليهود أن يبدل الله آية بآية ، أو حكماً بحكم ، وقالوا : ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غداً ، ما هذا من شأن الأنبياء وما هذا القرآن إلا من كلام محمد ، يقوله من تلقاء نفسه ، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً .
ثم يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود حولهم من الشر والعداء ، وعما تنغل به قلوبهم من الحقد والحسد ، بسبب ما اختصهم به الله من الفضل . ليحذروا أعداءهم ، ويستمسكوا بما يحسدهم هؤلاء الأعداء عليه من الإيمان ، ويشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه :
( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم . والله يختص برحمته من يشاء . والله ذو الفضل العظيم ) . .
ويجمع القرآن بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر . . وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة فهما على قدم سواء من هذه الناحية ؛ وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن ، ولا يود لهم الخير . وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين . هو أن يختارهم الله لهذا الخير وينزل عليهم هذا القرآن ، ويحبوهم بهذه النعمة ، ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض ، وهي الأمانة الكبرى في الوجود .
ولقد سبق الحديث عن حقدهم وغيظهم من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، حتى لقد بلغ بهم الغيظ أن يعلنوا عداءهم لجبريل - عليه السلام - إذ كان ينزل بالوحي على الرسول [ ص ] :
( والله يختص برحمته من يشاء ) . .
فالله أعلم حيث يجعل رسالته ؛ فإذا اختص بها محمدا [ ص ] والمؤمنين به ، فقد علم - سبحانه - أنه وأنهم أهل لهذا الاختصاص .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.