{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ } أي : في ذريتنا { رَسُولًا مِنْهُمْ } ليكون أرفع لدرجتهما ، ولينقادوا له ، وليعرفوه حقيقة المعرفة . { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } لفظا ، وحفظا ، وتحفيظا { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } معنى .
{ وَيُزَكِّيهِمْ } بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال الردية ، التي لا تزكي النفوس{[100]} معها . { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ } أي : القاهر لكل شيء ، الذي لا يمتنع على قوته شيء . { الْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها ، فبعزتك وحكمتك ، ابعث فيهم هذا الرسول . فاستجاب الله لهما ، فبعث الله هذا الرسول الكريم ، الذي رحم الله به ذريتهما خاصة ، وسائر الخلق عامة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " أنا دعوة أبي إبراهيم "
ثم ختم إبراهيم وإسماعيل دعواتهما بتلك الدعوة التي فيها خيرهم في الدنيا والآخرة ، فقالا - كما حكي القرآن عنهما : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .
الضمير في قوله : { مِّنْهُمْ } يعود إلى الذرية أو الأمة المسلمة في قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } .
والرسول : من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه : وتلاوة الشيء : قراءته والمراد بقوله تعالى : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } يقرؤها عليهم قراءة تذكير وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع .
والآيات : جمع آية ، والمراد بها ما يشهد بوحدانية الله ، وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه ، أو المراد بها آيات القرآن الكريم فهو يتلوها عليهم ليحفظوها بألفاظها كما نزلت ، ويتعبدوا بتلاوتها ، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجهاً مشرقاً من وجوه إعجازها .
والكتاب : القرآن ، وتعلمه يكون ببيان معانيه وحقائقه ، ليعرفوا ما أقامه لهم من دلائل التوحيد وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب .
والحكمة : العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به . ووضعها بجانب الكتاب يرجح أن المراد بها السنة النبيوة المطهرة التي تنتظم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، إذ بالكتاب وبالسنة يعرف الناس أصلح الأعمال ، وأعدل الأحكام وأسنى الآداب ، وتنفتح لهم طرق التفقه في أسرار الدين ومقاصده .
ويزكيهم : أي يطهرهم من أرجاس الشرك ومن كل ما لا يليق التلبس به ظاهراً أو باطناً .
يقال : زكاة الله ، أي طهره وأصلحه ، ومنه زكاة المال لتطهره بها ، وأصل الزكاة - بالمد - النماء والزيادة ، يقال . زكا الزرع زكاء وزكوا ، أي نما .
والمعنى : ونسألك يا ربنا أن تبعث فثي الأمة المسلمة ، أو في ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك ، ويعلمهم كتابك بأن يبين لهم معانيه ، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب ، كما يهديهم إلى الحكمة التي تتمثل في اتباع سنة نبيك - والتي بها يتم التفقه في الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده ، والتي يكمل بها العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم .
أي القادر الذي لا يغلب على أمره ، العالم الذي يدبر الأمور على وفق المصلحة ، ومن كان قادراً على كل ما يريد ، عليما بوجوه المصالح ، كانت استجابته قريبة من دعاء الخير الصادر عن إخلاص وابتهال .
وقد جاءت ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة ؛ لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه ، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطير من كل ما لا يليق التلبس به في الظاهر ، أو الباطن .
وقد سأل إبراهيم وإسماعيل ربهما أن تكون بعثة الرسول في ذريتهما فيكون أمر الإِيمان قريبا منهم ، فإن نشأته بينهم ، ومعرفة سيرته قبل الرسالة وشهادتهم له بالصدق والأمانة ، وكل ذلك يحمل العقلاء على المبادرة إلى تصديقه فيما يبلغه عن ربه .
ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين ، فأرسل في ذريتهما رسولا منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أرسله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً .
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه دعوة إبراهيم ، فقال : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات المؤمنين يرين "
ثم ألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة :
( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . إنك أنت العزيز الحكيم ) . .
وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون . بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يتلو عليهم آيات الله ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من الأرجاس والأدناس . إن الدعوة المستجابة تستجاب ، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته . غير أن الناس يستعجلون ! وغير الواصلين يملون ويقنطون !
وبعد فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر بين اليهود والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف . إن إبراهيم وإسماعيل اللذين عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والمصلين ، وهما أصل سادني البيت من قريش . . إنهما يقولان باللسان الصريح : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) . . ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) كما يقولان باللسان الصريح : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) . . وهما بهذا وذاك يقرر أن وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم ، ووراثتها للبيت الحرام سواء . وإذن فهو بيتها الذي تتجه إليه ، وهي أولى به من المشركين . وهو أولى بها من قبلة اليهود والمسيحيين !
وإذن فمن كان يربط ديانته بإبراهيم من اليهود والنصارى ، ويدعي دعاواه العريضة في الهدى والجنة بسبب تلك الوراثة ، ومن كان يربط نسبه بإسماعيل من قريش . . فليسمع : إن إبراهيم حين طلب الوراثة لبنيه والإمامة ، قال له ربه : ( لا ينال عهدي الظالمين ) . . ولما أن دعا هو لأهل البلد بالرزق والبركة خص بدعوته : ( من آمن بالله واليوم الآخر ) . . وحين قام هو وإسماعيل بأمر ربهما في بناء البيت وتطهيره كانت دعوتهما : أن يكونا مسلمين لله ، وأن يجعل الله من ذريتهما أمة مسلمة ، وأن يبعث في أهل بيته رسولا منهم . . فاستجاب الله لهما ، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله ، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله . الوارثة لدين الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.