61- بل اسألهم - أيها الرسول - عمَّن مهَّد الأرض للإقامة فيها والاستقرار عليها ، وخلق وسطها أنهاراً ، وخلق عليها جبالا تمنعها من الميل ، وجعل بين الماء العذب والماء الملح فاصلا يمنع امتزاج أحدهما بالآخر ! ! ليس هناك إله مع الله فهو الخالق - وحده - لكن أكثر الناس لا ينتفعون بالعلم الحق على وجهه وكأنهم لا يعلمون .
{ وَأَنزلَ لَكُمْ } أي : لأجلكم { مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ } أي : بساتين { ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي : حسن منظر من كثرة أشجارها وتنوعها وحسن ثمارها ، { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا } لولا منة الله عليكم بإنزال المطر . { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } فعل هذه الأفعال حتى يعبد معه ويشرك به ؟ { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } به غيره ويسوون به سواه مع علمهم أنه وحده خالق العالم العلوي والسفلي ومنزل الرزق .
أي : هل الأصنام والأوثان الناقصة من كل وجه التي لا فعل منها ولا رزق ولا نفع خير ؟ أم الله الذي { جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا } يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث والبناء والذهاب والإياب . { وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا } أي : جعل في خلال الأرض أنهارا ينتفع بها العباد في زروعهم وأشجارهم ، وشربهم وشرب مواشيهم .
{ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالا ترسيها وتثبتها لئلا تميد وتكون أوتادا لها لئلا تضطرب . { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ } البحر المالح والبحر العذب { حَاجِزًا } يمنع من اختلاطهما فتفوت المنفعة المقصودة من كل منهما بل جعل بينهما حاجزا من الأرض ، جعل مجرى الأنهار في الأرض مبعدة عن البحار فيحصل منها مقاصدها ومصالحها ، { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } فعل ذلك حتى يعدل به الله ويشرك به معه . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } فيشركون بالله تقليدا لرؤسائهم وإلا فلو علموا حق العلم لم يشركوا به شيئا .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى لفت أنظارهم إلى حقائق كونية أخرى يشاهدونها بأعينهم ، ويحسونها بحواسهم . فقال - تعالى - : { أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً } والقرار : المكان الذى يستقر فيه الإنسان ، ويصلح لبناء حياته عليه .
أى : بل قولوا لنا - أيها المشركون : من الذى جعل هذه بالأرض التى تعيشون عليها ، مكانا صالحا لاستقراركم ، ولحرثكم ، ولتبادل المنافع فيما بينكم ، ومن الذى دحاها وسواها وجعلها بهذه الطريقة البديعة .
ومن الذى { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ } أى : جعل فيما بينها { أَنْهَاراً } تجرى بين أجزائها ، لتنتفعوا بمياه هذه الأنهار فى شربكم ، وفى غير ذلك من شئون حياتكم . ومن الذى { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } أى : جعل لصلاح حالها جبالا ثوابت ، تحفظها من أن تضطرب بكم .
ومن الذى : { جَعَلَ بَيْنَ البحرين } أى : جعل بين البحر العذب والبحر الملح { حَاجِزاً } يجعلهما لا يختلطان ولا يمتزجان .
ثم يأتى الاستفهام الإنكارى { أإله مَّعَ الله } ؟ أى : أإله مع الله - تعالى - هو الذى فعل ذلك ؟ كلا ، ليس مع الله - تعالى - آلهة أخرى فعلت ذلك .
{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى : بل أكثر هؤلاء المشركين ، لا يعلمون الأمور على وجهها الصحيح ، لجهلهم ، وعكوفهم على ما ورثوه عن آبائهم بدون تفكير أو تدبر .
وعبر بأكثرهم ، لأن هناك قلة منهم تعلم الحق ، لكنها تنكره جحودا وعنادا .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلََهٌ مّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم خير وهو لا يضرّ ولا ينفع ، أم الذي جعل الأرض لكم قرارا تستقرّون عليها لا تميد بكم وَجَعَلَ لكم خِلاَلَها أنهارا يقول : بينها أنهارا وجعل لَها رَوَاسِيَ وهي ثوابت الجبال ، وَجَعَلَ بينَ البَحْرَيْنِ حاجِزا بين العذب والمالح ، أن يفسد أحدهما صاحبه أءِلَهٌ مَعَ الله سواه فعل هذه الأشياء فأشركتموه في عبادتكم إياه ؟ وقوله : { بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } يقول تعالى ذكره : بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر عظمة الله ، وما عليهم من الضرّ في إشراكهم في عبادة الله غيره ، وما لهم من النفع في إفرادهم الله بالألوهة ، وإخلاصهم له العبادة ، وبراءتهم من كلّ معبود سواه .
{ أم } للإضراب الانتقالي مثل أختها السابقة . وهذا انتقال من الاستدلال المشوب بالامتنان إلى الاستدلال المجرد بدلائل قدرته وعلمه بأن خلق المخلوقات العظيمة وبتدبيره نظامها حتى لا يطغى بعضها على بعض فيختل نظام الجميع .
ولأجل كون الغرض من هذا الاستدلال إثبات عظم القدرة وحكمة الصنع لم يجيء خلاله بخطاب للمشركين كما جاء في قوله في الآية قبلها { وأنزل لكم من السماء ماء } [ النمل : 60 ] الآية ، وإن كان هذا الصنع العجيب لا يخلو من لطف بالمخلوقات أراده خالقها ، ولكن ذلك غير مقصود بالقصد الأول من سوق الدليل هنا .
والقرار : مصدر قرّ ، إذا ثبت وسكن . ووصف الأرض به للمبالغة ، أي ذات قرار . والمعنى جعل الأرض ثابتة قارّة غير مضطربة . وهذا تدبير عجيب ولا يُدرك تمام هذا الصنع العجيب إلا عند العلم بأن هذه الأرض سابحة في الهواء متحركة في كل لحظة وهي مع ذلك قارّة فيما يبدو لسكانها فهذا تدبير أعجب ، وفيه مع ذلك رحمة ونعمة . ولولا قرارها لكان الناس عليها متزلزلين مضطربين ولكانت أشغالهم مُعنتة لهم .
ومع جعلها قراراً شقّ فيها الأنهار فجعلها خلالها . وخلال الشيء : منفرج ما بين أجزائه . والأنهار تشق الأرض في أخاديد فتجري خلال الأرض .
والرواسي : الجبال ، جمع راسسٍ وهو الثابت . واللام في { لها } لام العلة ، أي الرواسي لأجلها أي لفائدتها ، فإن في تكوين الجبال حكمة لدفع الملاسة عن الأرض ليكون سيرها في الكرة الهوائية معدلاً غير شديد السرعة وبذلك دوام سيرها .
وجعل الحاجز بين البحرين من بديع الحكمة ، وهو حاجز معنوي حاصل من دفع كلا الماءين : أحدهما الآخر عن الاختلاط به ، بسبب تفاوت الثقل النسبي لاختلاف الأجزاء المركب منها الماء الملح والماء العذب . فالحاحز حاجز من طبعهما وليس جسماً آخر فاصلاً بينهما ، وتقدم في سورة النحل .
وهذا الجعل كناية عن خلق البحرين أيضاً لأن الحجز بينهما يقتضي خلقهما وخلق الملوحة والعذوبة فيهما .
ثم ذيّل بالاستفهام الإنكاري وبالاستدراك بجملة مماثلة لما ذُيّل به الاستدلال الذي قبلها على طريقة التكرير تعديداً للإنكار وتمهيداً للتوبيخ بقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } . وأوثر هنا نفي صفة العلم عن أكثر المشركين لقلة من ينظر في دقائق هذه المصنوعات وخصائصها منهم فإن اعتياد مشاهدتها من أول نشأة الناظر يذهله عما فيها من دلائل بديع الصنع . فأكثر المشركين يجهل ذلك ولا يهتدي بما فيه ، أما المؤمنون فقد نبههم القرآن إلى ذلك فهم يقرأون آياته المتكرر فيها الاستدلال والنظر .
وهذه الدلائل لا تخلو عن نعمة من ورائها كما علمته آنفاً ولكنها سيقت هنا لإرادة الاستدلال لا للامتنان .