ثم خوفهم ما فعل بالأمم المكذبين [ قبلهم ] فقال : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا } أي : ما بلغ هؤلاء المخاطبون { مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ } { فَكَذَّبُوا } أي : الأمم الذين من قبلهم { رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : إنكاري عليهم ، وعقوبتي إياهم . قد أعلمنا ما فعل بهم من النكال ، وأن منهم من أغرقه ، ومنهم من أهلكه بالريح العقيم ، وبالصيحة ، وبالرجفة ، وبالخسف بالأرض ، وبإرسال الحاصب من السماء ، فاحذروا يا هؤلاء المكذبون ، أن تدوموا على التكذيب ، فيأخذكم كما أخذ من قبلكم ، ويصيبكم ما أصابهم .
ثم بين لهم - سبحانه - بعد ذلك هوان أمرهم . وتفاهة شأنهم بالنسبة لمن سبقوهم ، فقال : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } .
والمعشار بمعنى العشر وهو لغة فيه . تقول : عندى عشر يدنار ومعشار دينار ، قال أبو حيان : والمعشار مفعال من العشر ، ولم يبين على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع . ومعناهما : العشر والربع . .
والضمير فى قوله { وَمَا بَلَغُواْ } يعود لكفار مكة ، وقوله : { مَآ آتَيْنَاهُمْ } وفى قوله : { فَكَذَّبُواْ رُسُلِي } يعود إلى الأمم السابقة .
والنكير : مصدر كالإِنكار ، وهو من المصادر التى جاءت على وزن فعيل .
والمعنى : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لتكذيب قومك لك ، فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم ، وإن قومك لم يبلغوا من القوة والغنى والكثرة . . عشر ما اكن عليه سابقوهم ، ولكن لما كذب أولئك السابقون أنبياءهم ، أخذتهم أخذ عزيز مقتدر ، بأن دمرناهم جميعا .
والاستفهام فى قوله - تعالى - { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } للتهويل . والجملة الكريمة معطوفة على مقدر والمعنى : فحين تمادوا فى تكذيب رسلى ، جاءهم إنكارى بالتدمير ، فكيف كان إنكارى عليهم بالتدمير والإهلاك ؟ لقد كان شيئا هائلا فظيعا تركهم فى ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ، فعلى قومك أن يحذروا من أن يصيبهم مثله .
وجعل - سبحانه - التدمير إنكارا ، تنزيلا للفعل منزلة القول ، كما فى قول بعضهم : ونشتم بالأفعال لا بالتكلم .
ويرى بعضهم أن الضمير فى قوله { وَمَا بَلَغُواْ } يعود على الذين من قبلهم ، وفى قوله { آتَيْنَاهُمْ } يعود إلى كفار مكة .
وقد رجح الإِمام الرازى هذا الرأى فقال ما ملخصه : قال المفسرون : معنى الآية : ما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين . . ثم إن الهل أخذ هؤلاء المتقدمين دون أن تنفعهم قوتهم ، لما كذبوا رسلهم ، فكيف حال هؤلاء الضعفاء - وهم قومك .
ثم قال - رحمه الله - : وعندى وجه آخر فى معنى الآية ، وهو أن يقال : وكذب الذين من قبلهم ، وما بلغوا معشار ما آتيناهم ، أى : الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قومك من البيان والبرهان .
وذلك لأن كتابك يا محمد أكمل من سائر الكتب .
فإذا كنت قد أنكرت على المتقدمين لما كذبوا رسلهم - مع أنهم لم يؤتوا معشار ما أوتى قومك من البيان - ، فكيف لا أنكر على قومك بعد تكذيبهم لأوضح الكتب ، وأفصح الرسل . .
ويبدو لنا أن المعنى الأول الذى عبر عنه الإِمام الرازى بقوله : قال المفسرون ، هو الأرجح لأنه هو المتبادر من معنى الآية الكريمة ، لأنه يفيد التقليل من شأن مشركى مكة ، بالنسبة لمن سبقهم من الأمم ، من ناحية القوة والغنى .
وفى القرآن الكريم آيات متعددة هذا المعنى ، منها قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
وبعد هذا الحديث عن أقوال المشركين فى شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفى شأن القرآن . . وبعد هذا الرد الملزم لهم والمزهق لباطلهم .
وقوله : وكَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول : وكذّب الذين من قبلهم من الأمم رسلنا وتنزيلنا وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ يقول : ولم يبلغ قومك يا محمد عُشْر ما أعطينا الذين من قبلهم من الأمم من القوّة والأيدي والبطْش ، وغير ذلك من النعم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما ءاتَيْناهُمْ من القوّة في الدنيا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما ءاتَيْناهُمْ يقول : ما جاوزوا معشار ما أنعمنا عليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما ءاتَيْناهُمْ يخبركم أنه أَعْطَى القوم ما لم يُعْطكم من القوّة وغير ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما ءاتَيْنَاهُمْ قال : ما بلغ هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم معشار ما آتينا الذين من قبلهم ، وما أعطيناهم من الدنيا ، وبسطنا عليهم فَكَذّبوا رسلي فكَيْفَ كانَ نَكِيرِ يقول : فكذّبوا رسلي فيما أتوهم به من رسالتي ، فعاقبناهم بتغييرنا بهم ما كنا آتيناهم من النعم ، فانظر يا محمد كيف كان نكير . يقول : كيف كان تغييري بهم وعقوبتي .
هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للذين كذّبوه ، فموقع التسلية منه قوله : { وكذب الذين من قبلهم } ، وموقع التهديد بقية الآية ، فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين ، والتهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذَّبتْ رُسلَها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من قريش وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى : { فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً } [ الزخرف : 8 ] .
ومفعول { كذّب } محذوف دل عليه ما بعده ، أي كذبوا الرسل ، دل عليه قوله : { فكذبوا رسلي } .
وضمير { بلغوا } عائد إلى { الذين من قبلهم } ، والضمير المنصوب في { آتيناهم } عائد إلى { الذين كفروا } في قوله : { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا سحر مبين } [ سبأ : 43 ] . والمقام يردّ على كل ضمير إلى معاده ، كما تقدم قريباً عند قوله تعالى : { أكثرهم بهم مؤمنون } [ سبأ : 41 ] .
والمِعشار : العشر ، وهو الجزء العاشر مثل المِرباع الذي كان يجعل لقائد الكتيبة من غنائم الجيش في الجاهلية .
وذُكر احتمالان آخران في معاد الضميرين من قوله : { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } لا يستقيم معهما سياق الآية .
وجملة { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } معترضة ، والاعتراض بها تمهيد للتهديد وتقريب له بأن عقاب هؤلاء أيسر من عقاب الذين من قبلهم في متعارف الناس مثل قوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] .
والفاء في قوله : { فكذبوا رسلي } للتفريع على قوله : { وكذب الذين من قبلهم } باعتبار أن المفرع عطف عليه قوله : { فكيف كان نكير } ، وبذلك كانت جملة { فكذبوا رسلي } تأكيداً لجملة { وكذب الذين من قبلهم } ونظيره قوله تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا } في سورة القمر ( 9 ) ، ولكون الفاء الثانية في قوله : فكيف كان نكير } تأكيداً لفظياً للفاء في قوله : { فكذبوا رسلي } .
وقوله : { فكيف كان نكير } مفرع على قوله : { وكذب الذين من قبلهم } .
و ( كيف ) استفهام عن الحالة وهو مستعمل في التقرير والتفريع كقول الحجاج للعُدَيل ابن الفرخ « فكيفَ رأيتَ الله أمْكَنَ منك » ، أي أمكنني منك ، في قصة هروبه .
فجملتا { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } في قوة جملة واحدة مفرعة على جملة { وكذب الذين من قبلهم } . والتقدير : وكذب الذين من قبلهم فكيف كان نكيري على تكذيبهم الرسل ، ولكن لما كانت جملة { وكذب الذين من قبلهم } مقصوداً منها تسلية الرسول ابتداءً جعلت مقصورة على ذلك اهتماماً بذلك الغرض وانتصاراً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ثم خُصّت عِبرة تسبب التكذيب في العقاب بجملة تخصها تهويلاً للتكذيب وهو من مقامات الإِطناب ، فصادف أن كان مضمون الجملتين متحداً اتحاد السبب لمسببين أو العلةِ لمعلولين كعلة السرقة للقطع والغرم . وبني النظم على هذا الأسلوب الشيق تجنباً لثقل إعادة الجملة إعادةً ساذجة ففرعت الثانية على الأولى وأظهر فيها مفعول { كذب } وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي ، أو فرع للتكذيب الخاص على التكذيب الذي هو سجيتهم العامة على الوجه الثاني في معنى : { وكذَّب الذين من قبلهم } كما تقدم ، ونظيره قوله تعالى :
{ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر } [ القمر : 9 ] .
والنكير : اسم للإِنكار وهو عدّ الشيء منكراً ، أي مكروهاً ، واستعمل هنا كناية عن الغضب وتسليط العقاب على الآتي بذلك المنكر فهي كناية رمزية .
والمعنى : فكيف كان عقابي لهم على ما جاءوا به مما أنكره ، أي كان عقاباً عظيماً على وفق إنكارنا تكذيبهم .
و { نكير } بكسر الراء وهو مضاف إلى ياء المتكلم ، وحذفت الياء للتخفيف مع التنبيه عليها ببقاء الكسرة على آخر الكلمة وليناسب الفاصلة وأختها . وكتب في المصحف بدون ياء وبوقف عليه بالسكون .