{ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } والخشوع في الصلاة : هو حضور القلب بين يدي الله تعالى ، مستحضرا لقربه ، فيسكن لذلك قلبه ، وتطمئن نفسه ، وتسكن حركاته ، ويقل التفاته ، متأدبا بين يدي ربه ، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته ، من أول صلاته إلى آخرها ، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الردية ، وهذا روح الصلاة ، والمقصود منها ، وهو الذي يكتب للعبد ، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب ، وإن كانت مجزئة مثابا عليها ، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها .
أخرج الإمام أحمد والترمذى والنسائى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال : كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحى ، نسمع عند وجهه كدوى النحل ، فأنزل عليه يوماً ، فمكثنا ساعة فسرى عنه ، فاستقبل القبلة ، فرفع يديه فقال : " اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا " .
ثم قال : لقد أنزلت على عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } إلى قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وأخرج النسائى عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة : يا أم المؤمنين ، كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان خلقه القرآن ، ثم قرأت : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } حتى انتهت إلى قوله - تعالى - : { والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وقالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفلاح : الظفر بالمراد ، وإدراك المأمول من الخير والبر مع البقاء فيه .
والخشوع : السكون والطمأنينة ، ومعناه شرعاً : خشية فى القلب من الله - تعالى - تظهر آثارها على الجوارح فتجعلها ساكنة مستشعرة أنها واقفة بين يدى الله - سبحانه - .
والمعنى : قد فاز وظفر بالمطلوب ، أولئك المؤمنون الصادقون ، الذين من صفاتهم أنهم فى صلاتهم خاشعون ، بحيث لا يشغلهم شىء وهم فى الصلاة عن مناجاة ربهم ، وعن أدائها بأسمى درجات التذلل والطاعة .
ومن مظاهر الخشوع : أن ينظر المصلى وهو قائم إلى موضع سجوده ، وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة ، وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشىء من جسده ، فقد أبصر النبى صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته فى الصلاة فقال : " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " .
قال القرطبى : " اختلف الناس فى الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو مكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحلق القلب ، وهو أول عمل يرفع من الناس . . . " .
وقوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ يقول تعالى ذكره : الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته ، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها . وقيل : إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها ، فنُهُوا بهذه الاَية عن ذلك . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت خالدا ، عن محمد بن سيرين ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى نظر إلى السماء ، فأنزلت هذه الاَية : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن أبي جعفر ، عن الحجاج الصوّاف ، عن ابن سيرين ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فقالوا بعد ذلك برؤوسهم هكذا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال : «نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت آية إن لم تكن الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فلا أدري أية آية هي قال : فطأطأ » . قال : وقال محمد : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصْره مصّلاه ، فإن كان قد استعاد رالنظر فليغْمِض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، عن محمد نحوه .
واختلف أهل التأويل في الذي عني به في هذا الموضع من الخشوع ، فقال بعضهم : عني به سكون الأطراف في الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : السكون فيها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : سكون المرء في صلاته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، عن الثوريّ ، عن أبي سفيان الشيباني ، عن رجل ، عن عليّ ، قال : سئل عن قوله : الّذِينَ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : لا تلتفت في صلاتك .
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرمليّ ، قال : قال ضَمْرة بن ربيعة ، عن أبي شَوْذب ، عن الحسن ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجَناح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم ، في قوله : خاشعُونَ قال : الخشوع في القلب ، وقال : ساكنون .
قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني خالد بن عبد الله ، عن المسعوديّ ، عن أبي سنان ، عن رجل من قومه ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : الخشوع في القلب ، وأن تُلِين للمرء المسلم كَنَفك ، ولا تلتفت .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جرَيج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشعُونَ قال : التخشع في الصلاة . وقال لي غير عطاء : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر عن يمينه ويساره ووُجاهه ، حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فما رُؤي بعد ذلك ينظر إلاّ إلى الأرض .
وقال آخرون : عني به الخوف في هذا الموضع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : خائفون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشِعُونَ قال الحسن : خائفون . وقال قتادة : الخشوع في القلب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ حاشعُونَ يقول : خائفون ساكنون .
وقد بيّنا فيما مضى قبل من كتابنا أن الخشوع التذلل والخضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر ، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام ما وصفت مِنْ قَبْلُ من أنه : والذين هم في صلاتهم متذللّون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته ، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فيها .
ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين فقال { الذين هم في صلاتهم خاشعون } والخشوع التطامن وسكون الأعضاء والوقار ، وهذا إنما يظهر ممن في قلبه خوف واستكانة ، وروي عن بعض العلماء أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع هذا خشعت جوارحه{[8452]} ، وروي أن سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يمنة ويسرة فنزلت هذه الآية وأمروا أن يكون بصر المصلي حذاء قبلته أو بين يديه ، وفي الحرم إلى الكعبة ، وروي عن ابن سيرين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلتفت في صلاته إلى السماء فنزلت الآية في ذلك{[8453]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال سبحانه: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}، يقول: متواضعون يعني: إذا صلى لم يعرف من عن يمينه ومن عن شماله.
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم: قال: سمعت مالكا يقول في تفسير: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}: قال: الإقبال عليها والخشوع فيها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها "خاشعون"، وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها...
وقيل: إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها، فنُهُوا بهذه الآية عن ذلك...
واختلف أهل التأويل في الذي عني به في هذا الموضع من الخشوع؛
فقال بعضهم: عني به سكون الأطراف في الصلاة... عن عليّ، قال: سئل عن قوله: الّذِينَ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال: لا تلتفت في صلاتك...
عن الحسن، في قوله: "الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ "قال: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجَناح...
وقال آخرون: عني به الخوف في هذا الموضع...
وقد بيّنا فيما مضى قبل من كتابنا أن الخشوع التذلل والخضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذ كان ذلك كذلك، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام ما وصفت مِنْ قَبْلُ من أنه: والذين هم في صلاتهم متذللّون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فيها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...أصل الخشوع، هو آثار ذل من خوف تظهر في الوجه والجوارح كلها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والخشوع في الصلاة هو الخضوع بجمع الهمة لها، والإعراض عما سواها، لتدبر ما يجري فيها: من التكبير، والتسبيح، والتحميد لله، وتلاوة القرآن. وهو موقف الخاضع لربه الطالب لمرضاته بطاعاته.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
والخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع في القلب والبدن والبصر والصوت...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومن الخشوع: أن يستعمل الآداب، فيتوقى كفّ الثوب، والعبث بجسده وثيابه والالتفات، والتمطي، والتثاؤب، والتغميض، وتغطية الفم، والسدل، والفرقعة، والتشبيك، والاختصار، وتقليب الحصا...
فإن قلت: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت: لأنّ الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له، فالمصلي هو المنتفع بها وحده، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته: وأمّا المصلى له، فغنيّ متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين فقال {الذين هم في صلاتهم خاشعون} والخشوع: التطامن وسكون الأعضاء والوقار، وهذا إنما يظهر ممن في قلبه خوف واستكانة، وروي عن بعض العلماء أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع هذا خشعت جوارحه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
[الخشوع] هُوَ الْخُضُوعُ، وَهُوَ الْإِخْبَاتُ، وَالِاسْتِكَانَةُ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَقَارِبَةٌ، أَوْ مُتَلَازِمَةٌ... وَحَقِيقَتُهُ السُّكُونُ عَلَى حَالَةِ الْإِقْبَالِ الَّتِي تَأَهَّبَ لَهَا وَاحْتَرَمَ بِهَا بِالسِّرِّ فِي الضَّمِيرِ، وَبِالْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ خَاشِعًا خَاضِعًا، وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يَلْتَفِتُ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَفِيدُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ... وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إذَا صَلَّى لَا يَتَحَرَّكُ مِنْهُ شَيْءٌ...
{الذين هم في صلاتهم خاشعون} واختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات، ومنهم من جمع بين الأمرين وهو الأولى...
فالخاشع في صلاته لابد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب من الأفعال نهاية الخضوع والتذلل للمعبود، ومن التروك أن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سوى التعظيم، ومما يتعلق بالجوارح أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده، ومن التروك أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا، ولكن الخشوع الذي يرى على الإنسان ليس إلا ما يتعلق بالجوارح فإن ما يتعلق بالقلب لا يرى...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
... والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فَرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقُرَّة عين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم قيدهم بما يلزم من الصدق في الإيمان، فقال: {الذين هم} أي بضمائرهم وظواهرهم {في صلاتهم} أضيفت إليهم ترغيباً لهم في حفظها، لأنها بينهم وبين الله تعالى، وهو غني عنها، فهم المنتفعون بها {خاشعون} أي أذلاء ساكنون متواضعون مطمئنون قاصرون بواطنَهم وظواهرهم على ما هم فيه؛ قال الرازي: خائفون خوفاً يملأ القلب حرمة، والأخلاق تهذيباً، والأطراف تأديباً، أي خشية أن ترد عليهم صلاتهم، ومن ذلك خفض البصر إلى موضع السجود، قال الرازي: فالعبد إذا دخل في الصلاة رفع الحجاب، وإذا التفت أرخى، قال: وهو خوف ممزوج بتيقظ واستكانة، ثم قد يكون في المعاملة إيثاراً ومجاملة و إنصافاً ومعدلة، وفي الخدمة حضوراً واستكانة. وفي السر تعظيماً وحياء وحرمة، والخشوع في الصلاة بجمع الهمة لها، والإعراض عما سواها، وذلك بحضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء، وإذا كان هذا حالهم في الصلاة التي هي أقرب القربات. فهم به فيما سواها أولى...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
... وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع، وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس، ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال: يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً...
وأخرج ابن أبي شيبة. وأحمد في الزهد، والحاكم وصححه عن حذيفة قال:"أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة"...
ولا خلاف في أنه لا ثواب في قول أو فعل من أقوال أو أفعال الصلاة أدي مع الغفلة؛ وما أقبح مصل يقول {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2] وهو غافل عن الرب جل شأنه متوجه بشراشره إلى الدرهم والدينار ثم يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وليس في قلبه وفكره غيرهما، ونحو هذا كثير،... وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن، أفترى مثل صلاة هذا تصلح لذلك، حاش لله تعالى من زعم ذلك فقد افترى...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} والخشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضرا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبا بين يدي ربه، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الردية، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإن كانت مجزئة مثابا عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد، وأعلن عن فلاحهم هذا الإعلان؟ من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض؟ والمكتوب لهم الفوز والنجاة، والثواب والرضوان في الآخرة؟ ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في الدارين مما لا يعلمه إلا الله؟ من هم المؤمنون. الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟ إنهم هؤلاء الذين يفصل السياق صفاتهم بعد آية الافتتاح: (الذين هم في صلاتهم خاشعون). (والذين هم عن اللغو معرضون). (والذين هم للزكاة فاعلون). والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم... الخ. (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. (والذين هم على صلواتهم يحافظون). فما قيمة هذه الصفات؟ قيمتها أنها ترسم شخصية المسلم في أفقها الأعلى. أفق محمد [صلى الله عليه وسلم] رسول الله، وخير خلق الله، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذي شهد له في كتابه بعظمة خلقه: (وإنك لعلى خلق عظيم).. فلقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقالت:كان خلقه القرآن. ثم قرأت. (قد أفلح المؤمنون) حتى (والذين هم على صلواتهم يحافظون). وقالت. هكذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. ومرة أخرى.. ما قيمة هذه الصفات في ذاتها؟ ما قيمتها في حياة الفرد، وفي حياة الجماعة، وفي حياة النوع الإنساني؟
(الذين هم في صلاتهم خاشعون).. تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات. ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه. ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه، ولا يتذوقون إلا معناه. ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة؛ فما يضمون جوانحهم على شيء من هذا مع جلال الله.. عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه. وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إجراء الصفات على {المؤمنون} [المؤمنون: 1] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلتِهِ، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم. وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح؛ لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلاّ بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبئ عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سبباً للفلاح، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فَي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِم المسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ} [المدثر: 42 46] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور...
والخشوع تقدم في قوله تعالى: {وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ} في سورة البقرة (45) وفي قوله: {وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} في سورة الأنبياء (90). وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه، ولا شك أن الخشوع، أي الخشوع لله، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح. وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها، إذ الخشوع محلّهُ القلب فليس من أفعال الصلاة، ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته. وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته ولذلك قدمت، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له. وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها. ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل موالياً للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
أصل الخشوع: الكون، والطمأنينة، والانخفاض،... وهو في الشرع: خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح. وقد عد الله الخشوع من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً في قوله في الأحزاب {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى قوله {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35]...
وقد عد الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين، الذين يرثون الفردوس، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الخشوع يتضمن أن يكون المصلي قد عمر قلبه بذكر الله تعالى، وإذا عمر قلبه استحضر الله في كل أركان الصلاة وأحس بأنه في حضرة الله تعالى، فلا يحس بسواه...
وابتدأ بهذا الوصف، لأنه الطهارة النفسية والقلبية التي هي الأصل في تربية المؤمن...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
عبر عن العلامة الأولى التي تميز المؤمنين المفلحين بقوله: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}، إشارة إلى أنهم لا يكتفون في صلاتهم باستيفاء شروطها الظاهرة، بل يدركون تمام الإدراك أن المصلي الذي يناجي ربه لا يمكن أن يدرك لذة المناجاة وسرها وهو مشغول الفكر بنفسه، غافل عن ربه في الوقت الذي يناجيه، فلا بد من أن يقبل على الصلاة وهو متفرغ لها من جميع الشواغل، وبذلك يتمكن من خشوع قلبه وحضوره مع الله، واستحضار جلاله وعظمته عند عبادته، ومراعاة منتهى الأدب اللازم للوقوف في حضرته، ومتى خشع قلبه خشعت جوارحه، ودخلت صلاته في عداد الأعمال الصالحة المقبولة عند الله، وإلا كانت صلاته شبحا بدون روح، وحركة مجردة بدون هدف، مع أن المصلي ليس له من صلاته إلا ما عقل ووعى...
وهنا جعل أول وصف للمؤمنين الذين أفلحوا {الذين هم في صلاتهم خاشعون} فلم يقل مثلا: مؤدون، لأن أمر أداء الصلاة في حق المؤمنين مفروغ منه، العبرة هنا بالهيئة والكيفية، العبرة بالخشوع والخضوع وسكينة القلب وطمأنينته واستحضار الله الذي تقف بين يديه. كما تقول لولدك: اجلس أمام المعلم باهتمام، واستمع إليه بإنصات، فأنت لا توصيه بالذهاب إلى المدرسة أو حضور الدرس، فهذا أمر مفروغ منه، لذلك تهتم بجوهر الموضوع والحالة التي ينبغي أن يكون عليها. والخشوع أن يكون القلب مطمئنا ساكنا في مهمته هذه، فلا ينشغل بشيء آخر غير الصلاة، لأن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه، وما دام في حضرة ربه عز وجل فلا ينبغي أن ينشغل بسواه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الصلاة ليست مجرد عمل عبادي يتجسد في حركات محددة يؤديها المؤمنون، بل هي حالة تعبيرية عن الذوبان في معنى العبودية، والاستغراق في الإحساس بعظمة الله، ورحلة روحية تلتقي فيها روح الإنسان بالله عندما تعرج إليه من خلال الكلمات التي يقولها، أو الأعمال التي يقوم بها، ولا تجسيد لذلك إلا في أجواء الخشوع، الذي يحمل سرّ الصلاة في معناها العبادي، ولهذا كان الثواب للمصلي، بمقدار خشوعه في قلبه، وإقباله على ربّه.. إن الصلاة هي التعبير الحيّ عن الإيمان العميق بالتوحيد لله، فلا بد من أن يخشع الإنسان فيها أمامه بكل كيانه...