190- ومن تقوى الله تحمل المشاق في طاعته ، وأشد المشاق على النفس هو قتال أعداء الله{[15]} ولكن إذا اعتدى عليكم فقاتلوا المعتدين ، وقد أذن لكم برد اعتداءاتهم ، ولكن لا تعتدوا بمبادأتهم أو بقتل من لا يقاتل ولا رأى له في القتال فإن الله لا يحب المعتدين .
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ }
هذه الآيات ، تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله ، وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة ، لما قوي المسلمون للقتال ، أمرهم الله به ، بعد ما كانوا مأمورين بكف أيديهم ، وفي تخصيص القتال { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } حث على الإخلاص ، ونهي عن الاقتتال في الفتن بين المسلمين .
{ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } أي : الذين هم مستعدون لقتالكم وهم المكلفون ؛ الرجال غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال .
والنهي عن الاعتداء ، يشمل أنواع الاعتداء كلها ، من قتل من لا يقاتل ، من النساء ، والمجانين والأطفال ، والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى ، وقتل الحيوانات ، وقطع الأشجار [ ونحوها ] ، لغير مصلحة تعود للمسلمين .
ومن الاعتداء ، مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها ، فإن ذلك لا يجوز .
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بطاعته وتقواه ، وحضهم على الجهاد في سبيله إذ هو من أجل مظاهرها ، وبصرهم بحكمته وآدابه فقال - تعالى - :
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ . . . }
قال ابن كثير : قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أسن عن أبي العالية في قوله - تعالى - { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذا أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قالته وكيف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة .
ويرى بعض العلماء أن هذه الآيات قد وردت في الأذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرام إذا فوجئوا بالقتال بغياً وعدواناً . فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال ، لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرماً في الجاهلية . فقد أخرج الواحدي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلة في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صده المشركون عن البيت الحرام - ثم صالحوه فرضى على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ألا تفى لهم قريش ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام فأنزل الله - تعالى الآيات .
والقتال والمقاتلة : محاولة الرجل قتل من يحاول قتله ، والتقاتل محاولة كل واحد من المتعاديين قتل الآخر .
قال أبو حيان : وقوله : { فِي سَبِيلِ الله } السبيل هو الطريق . واستعير لدين الله وشرائعه لأن المتبع لذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية ، فشبه بالطريق الموصل الإِنسان إلى ما يقصده ، وهذا من استعارة الأجرام للمعاني ويتعلق { فِي سَبِيلِ الله } بقوله : { وَقَاتِلُواْ } وهو ظرف مجازي ، لأنه لما وقع القتال بسبب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه ، وو على حذف مضاف والتقدير في نصرة دين الله .
والمراد بالقتال في سبيل الله : الجهاد من أجل إعلاء كلمته حتى يكون أهل دينه الحق أعزاء لا يسومهم أعداؤه ضيماً ، وأحراراً في الدعوة إليه وإقامة شرائعه العادلة في ظل سلطان مهيب .
أي : قاتلوا أيها المؤمنون لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه أعداءكم الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم ومناجزتكم وتحققتم منهم سوء النية ، وفساد الطوية .
فالآية الكريمة تهييج للمؤمنين وإغراء لهم على قتال أعدائهم بدون تردد أو تهيب ، وإرشاد لهم إلى أن يجعلوا جهادهم من أجل نصرة الحق ، لا من أجل المطامع أو الشهوات .
فقد روى الشيخان أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي موسى - رضي الله عنه - " أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل ليذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه - أي : ليتحدث الناس بشجاعته وليظهر بينهم - أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .
والأحاديث في الدعوة إلى أن يكون الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته كثيرة متعددة . وقوله { وَلاَ تعتدوا } نهى عن الاعتداء بشتى صورة ويدخل فيه دخولا أولياء الاعتداء في القتال .
والاعتداء : مجازة الحد فيما أمر الله به أو نهى عنه .
أي : قاتلوا في سبيل الله من يناصبكم القتال من المخالفين ، ولا تتجاوزوا في قتالهم إلى من ليس شأنهم قتالكم ، كنسائهم ، وصبيانهم ورهبانهم ، وشيوخهم الطاعنين في السن إلى حد الهرم ، ويلحق بهؤلاء المريض والمقعد والأعمى والمجنون . وقد وردت في النهي عن قتل هؤلاء الأحاديث النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين لقواد جيوشهم ، فهؤلاء يتجنب قتالهم إلا من قامت الشواهد على أن له أثراً من رأى أو عمل في الحرب ، يؤازر به المحارين لينتصروا على المجاهدين .
قال ابن كثير : ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، أغزوا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع " وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وُجِدَتْ امرأة في بعض المغازي مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان .
وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } كالتعليل لما قبله في النهي عن مجاوزة ما حده الله - تعالى - في قتال المخالفين .
ومحبة الله لعباده : صفة من صفاته - تعالى - من أثرها الرعاية والإِنعام . وإذا نفى الله - تعالى - محبته لطائفة من الناس فهو كناية عن بغضه لهم ، واستحقاقهم لعقوبته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ }
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم : هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك . وقالوا : أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين ، والكفّ عمن كفّ عنهم ، ثم نسخت ببراءة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، وابن أبي جعفر ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزلت براءة . ولم يذكر عبد الرحمن «المدينة » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ }إلى آخر الآية . قال : قد نسخ هذا ، وقرأ قول الله : { وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلَونَكُمْ كافّةً }وهذه الناسخة ، وقرأ : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } حتى بلغ : { فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدَتْمُوُهُمْ إلى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيم . }
وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار لم ينسخ ، وإنما الاعتداء الذي نهاهم الله عنه هو نهيه عن قتل النساء والذراري . قالوا : والنهي عن قتلهم ثابت حكمه اليوم . قالوا : فلا شيء نسخ من حكم هذه الآية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن صدقة الدمشقي ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، قال : كتبت إلى عمر بن العزيز أسأله عن قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ }قال : فكتب إليّ أن ذلك في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : { وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ } لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بقتال الكفار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } يقول : لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ يده ، فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم .
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطأة : إني وجدت آية في كتاب الله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } أي لا تقاتل من لا يقاتلك ، يعني النساء والصبيان والرهبان .
وأولى هذين القولين بالصواب ، القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .
وقد دللنا على معنى النسخ والمعنى الذي من قبله يثبت صحة النسخ بما قد أغنى عن إعادته في هذه الموضع .
فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما وصفنا : وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله وسبيله : طريقه الذي أوضحه ودينه الذي شرعه لعباده . يقول لهم تعالى ذكره : قاتلوا في طاعتي ، وعلى ما شرعت لكم من ديني ، وادعوا إليه من ولَّى عنه ، واستكبر بالأيدي والألسن ، حتى ينيبوا إلى طاعتي ، أو يعطوكم الجزية صغارا إن كانوا أهل كتاب . وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم ، فإنهم أموال وخول لهم إذا غلب المقاتلون منهم فقهروا ، فذلك معنى قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ }لأنه أباح الكفّ عمن كفّ ، فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا .
فمعنى قوله : وَلا تَعْتَدُوا لا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِين الذين يجاوزون حدوده ، فيستحلون ما حرّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حرم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم .
{ وقاتلوا في سبيل الله } جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه . { الذين يقاتلونكم } قيل : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة :المقاتلين منهم والمحاجزين . وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده . ويؤيد الأول ما روى : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة -شرفها الله- ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم . أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت { ولا تعتدوا } بابتداء القتال ، أو بقتال المعاهد ، أو المفاجأة به من غير دعوة ، أو المثلة ، أو قتل من نهيتم عن قتله . { إن الله لا يحب المعتدين } لا يريد بهم الخير .
جملة { وقاتلوا } معطوفة على جملة { وليس البر } [ البقرة : 189 ] الخ ، وهو استطراد دعا إليه استعداد النبي صلى الله عليه وسلم لعُمرة القضاء سنة ست وتوقعُ المسلمين غدر المشركين بالعهد ، وهو قتال متوقع لقَصْد الدفاع لقوله : { الذين يقاتلونكم } ، وهذه الآية أول آية نزلت في القتال وعن أبي بكر الصديق أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } في [ سورة الحج : 39 ] ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة فأرجف بأنهم قتلوه فبايع الناس الرسولَ على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان .
ونزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شأن الخروج إلى الحديبية ينبىء بأن المشركين كانوا قد أضمروا ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤ المسلمين لقتالهم ، فقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذٍ ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته وذلك قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، الآيات على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألاّ يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك .
وهذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية براءة : { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخاً ، وهي أيضاً ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخاً ولا يرى نسخ المفهوم ، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادىء المشركون فيه المسلمين بالقتال ، لأن السبب لا يخصص .
وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ ، لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتِلوا الشيوخ والنساء والصبيان ، أي القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين ، وقيل : المراد الكفار كلهم ، فإنهم بصدد أن يقاتلوا . ذكره في « الكشاف » ، أي ففعل { يقاتلونكم } مستعمل في مقارنة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى : { إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] .
والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين ، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين ؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يَقْتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة ، فقوله { وقاتلوا } بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون .
وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعلَيْها فالمقصود أنه هو المبتدىء بالفعل ، ولهذا قال تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال : { الذين يقاتلونكم } فجعل فاعله ضمير عدوهم ، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم .
والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا ؛ لأن تلك الحالة يفوت على المسلمين تداركها ، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة ، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين ، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع ، ولهذا قال تعالى بعد ذلك : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه } [ البقرة : 191 ] تخصيصاً أو تقييداً ببعض البقاع .
فقوله : { ولا تعتدوا أي لا تبتدئوا بالقتال وقوله : إن الله لا يحب المعتدين } تحذير من الاعتداء ؛ وذلك مسالمة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين ، وقيل : أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم وتقدم عند قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } آنفاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}: وذلك أن الله عز وجل نهى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن الشهر الحرام أن يقاتلوا في الحرم إلا أن يبدأهم المشركون بالقتال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو وأصحابه معتمرون إلى مكة في ذي القعدة، وهم محرمون عام الحديبية، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة رجل، فصدهم مشركو مكة عن المسجد الحرام وبدأوهم بالقتال، فرخص الله في القتال، فقال سبحانه: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}، {ولا تعتدوا}: فتبدأوا بقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فإنه عدوان.
ابن العربي: قال مالك: سبل الله كثيرة، وأفضلها الجهاد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية؛
فقال بعضهم: هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا: أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكفّ عمن كفّ عنهم، ثم نسخت ببراءة.
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار لم ينسخ، وإنما الاعتداء الذي نهاهم الله عنه هو نهيه عن قتل النساء والذراري، قالوا: والنهي عن قتلهم ثابت حكمه اليوم، قالوا: فلا شيء نسخ من حكم هذه الآية... عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: كتبت إلى عمر بن العزيز أسأله عن قوله: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ} قال: فكتب إليّ أن ذلك في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم.
وأولى هذين القولين بالصواب، القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحد.
فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما وصفنا: وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله، وسبيله: طريقه الذي أوضحه ودينه الذي شرعه لعباده. يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي، وعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من ولَّى عنه، واستكبر بالأيدي والألسن، حتى ينيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صغارا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخول لهم إذا غلب المقاتلون منهم فقهروا، فذلك معنى قوله: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ}، لأنه أباح الكفّ عمن كفّ، فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا.
"وَلا تَعْتَدُوا": لا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس.
"إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِين": الذين يجاوزون حدوده، فيستحلون ما حرّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حرم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في قوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن الاعتداء قتال من لم يقاتل.
والثاني: أنه قتل النساء والولدان.
والثالث: أنه القتال على غير الدِّين...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله:"لا يحب المعتدين" معناه لا يريد ثوابهم، ولا مدحهم، كما يحب ثواب المؤمنين...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مُقَدّمَة لَهَا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ، وَأَوْعَزَ إلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ بِالْمُعْجِزَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، وَفَسَّحَ لَهُمْ فِي الْمَهْلِ، وَأَرْخَى لَهُمْ فِي الطِّيَلِ مَا شَاءَ مِن الْمُدَّةِ بِمَا اقْتَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ الَّتِي أَنْفَذهَا، وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ، وَالْكُفَّارُ يُقَابِلُونَهُ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَيَتَعَمَّدُونَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْإِذَايَةِ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ تَارَةً وَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ أُخْرَى، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْقِتَالِ. فَقِيلَ: إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَاتَلَ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ قِتَالَهُمْ وَقَتْلَهُمْ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضًا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}. ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُلِّ، فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ...} الْآيَةَ. وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ. وَالصَّحِيحُ مَا رَتَّبْنَاهُ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَكِّيَّةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إلَى الْعُمْرَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ، فَبَايَعَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ إلَى أَمْرٍ رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ بَرَاءَةَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ هَاهُنَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ، وَكَذَلِكَ أُمِرَ بِذَا بَعْدَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، بَيْدَ أَنَّ أَشْهَبَ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، أُمِرُوا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ أُمِرَ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ، إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَاهُ؛ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ}؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فَتَعَيَّنَتِ الْبِدَايَةُ بِهِمْ وَبِكُلِّ مَنْ عَرَضَ دُونَهُمْ أَوْ عَاوَنَهُمْ؛ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ كَانَ الْقِتَالُ لِمَنْ يَلِي مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي، حَتَّى تَعُمَّ الدَّعْوَةُ وَتَبْلُغَ الْكَلِمَةُ جَمِيعَ الْآفَاقِ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِن الْكَفَرَةِ، وَذَلِكَ مُتَمَادٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مُمْتَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ». وَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْقِتَالِ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}. وَقِيلَ غَايَتُهُ نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ». وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ نُزُولَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَسَيُقَاتِلُ الدَّجَّالَ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُوَ آخِرُ الْأَمْرِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْجِهَادَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ لَيْسَ بِفَرْضٍ إلَّا أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْإِمَامُ أَحَدًا مِنْهُمْ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ، وَظَنَّهُ قَوْمٌ بِابْنِ عُمَرَ حِينَ رَأَوْهُ مُوَاظِبًا عَلَى الْحَجِّ تَارِكًا لِلْجِهَادِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا». ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْجِهَادَ بَاقٍ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْفَتْحُ الْهِجْرَةَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ يَعْنِي كُفْرًا {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}. وَمُوَاظَبَةُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْحَجِّ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ الْحَقَّ، وَهُوَ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي زَمَانِهِ عُدُولٌ وَجَائِرُونَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُؤْثِرٌ لِلْحَجِّ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ...
المسألة الأولى: أنه تعالى أمر بالاستقامة في الآية المتقدمة بالتقوى في طريق معرفة الله تعالى فقال: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها} وأمر بالتقوى في طريق طاعة الله، وهو عبارة عن ترك المحظورات وفعل الواجبات فالاستقامة علم، والتقوى عمل، وليس التكليف إلا في هذين، ثم لما أمر في هذه الآية بأشد أقسام التقوى وأشقها على النفس، وهو قتل أعداء الله فقال: {وقاتلوا في سبيل الله}...
المسألة الثالثة: {وقاتلوا في سبيل الله} أي في طاعته وطلب رضوانه، روى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يقاتل في سبيل الله، فقال: « هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولا يقاتل رياء ولا سمعة»...
المسألة الرابعة: اختلفوا في المراد بقوله: {الذين يقاتلونكم} على وجوه
أحدها: وهو قول ابن عباس، المراد منه: قاتلوا الذين يقاتلونكم إما على وجه الدفع عن الحج، أو على وجه المقاتلة ابتداء، وهذا الوجه موافق لما رويناه عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية
وثانيها: قاتلوا كل من له قدرة وأهلية على القتال
وثالثها: قاتلوا كل من له قدرة على القتال وأهلية كذلك سوى من جنح للسلم، قال تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}.
واعلم أن القول الأول أقرب إلى الظاهر لأن ظاهر قوله تعالى: {الذين يقاتلونكم} يقتضي كونهم فاعلين للقتال، فأما المستعد للقتال والمتأهل له قبل إقدامه عليه، فإنه لا يوصف بكونه مقاتلا إلا على سبيل المجاز...
المسألة الخامسة: من الناس من قال: هذه الآية منسوخة، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن الله تعالى أوجب قتال المقاتلين، ونهى عن قتال غير المقاتلين، بدليل أنه قال: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} ثم بعده: ولا تعتدوا هذا القدر، ولا تقاتلوا من لا يقاتلكم فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين، ثم قال تعالى بعد ذلك: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} فاقتضي هذا حصول الأول في قتال من لم يقاتل، فدل على أن هذه الآية منسوخة.
ولقائل أن يقول: نسلم أن هذه الآية دالة على الأمر بقتال من لم يقاتلنا، لكن هذا الحكم ما صار منسوخا. أما قوله: إنها دالة على المنع من قتال من لم يقاتلنا، فهذا غير مسلم، وأما قوله تعالى: {ولا تعتدوا} فهذا يحتمل وجوها أخر سوى ما ذكرتم، منها أن يكون المعنى: ولا تبدؤوا في الحرم بقتال، ومنها أن يكون المراد: ولا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من الذين بينكم وبينهم عهد، أو بالحيلة أو بالمفاجأة من غير تقديم دعوة، أو بقتل النساء والصبيان والشيخ الفاني، وعلى جميع هذه التقديرات لا تكون الآية منسوخة.
فإن قيل: هب أنه لا نسخ في الآية، ولكن ما السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل، ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا. قلنا: لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين، فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع، وأقام من أقام منهم على الشرك، بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حالا بعد حال، حصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها، لأن ما قبلها متضمن شيئاً من متعلقات الحج، ويظهر أيضاً أن المناسب هو: أنه لما أمر تعالى بالتقوى، وكان أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله، فأمر به فقال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته، وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال، أمر فيها بقتال من قاتل، والكف عن من كف، فهي ناسخة لآيات الموادعة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه الحج في هذه السورة المدنية وكان سبيله إذ ذاك ممنوعاً عن أهل الإسلام بأهل الحرب الذين أخرجوهم من بلدهم ومنعوهم من المسجد الذي هم أحق به من غيرهم وكان الحج من الجهاد وكان كل من الصوم والجهاد تخلياً من الدنيا... وكانت أمهات العبادات موقتة وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، وغير موقتة وهي: الذكر والجهاد وهو قتال أهل الحرب خلافاً لما كان عند أهل الجاهلية من توقيته مكاناً بغير الحرم وزماناً بغير الأشهر الحرم وكان القتال في الأشهر الحرم وفي الحرم في غاية المنع فكيف عند المسجد وكان سبحانه قد ذكر العبادات الموقتة أتبعها بغير الموقتة وهي الجهاد الذي هو حظيرة الموقتة الذي لا سلامة لها بدونه التفاتاً إلى الظالمين بالمنع عن المسجد الحرام والإخراج منه، فأمر بأن يفعل معهم مثل ما فعلوا من القتال والإخراج فعل الحكيم الذي يوصي بالشيء العظيم، فهو يلقيه بالتدريج في أساليب البلاغة وأفانين البيان تشويقاً إليه وتحريضاً عليه بعد أن أشار لأهل هذا الدين أولاً بأنه يخزي ظالميهم وثانياً بأن المقتول منهم حي يرزق وثالثاً بمدحهم على الصبر في مواطن البأس بأنهم الذين صدقوا وأنهم المتقون
فلما شوقهم إلى جهاد أهل البغي والعناد ألزمهم القتال بصيغة الأمر لتيسير باب الحج الذي افترضه وسبيله ممنوع بأهل الحرب فقال تعالى وقيل: إنها أول آية نزلت في القتال، قاله الأصبهاني: {وقاتلوا في سبيل الله} أي الذي لا كفوء له إشعاراً بذكره على سبيل الإطلاق بعد الموقت بالهلال إلى أنه غير موقت به.
قال الحرالي: من حيث إنه حظيرة على دين الإسلام المقيد بالمواقيت من حيث إن الإسلام عمل يقيده الوقت، والدفع عنه أمر لا يقيده وقت بل أيان طرق الضر لبناء الإسلام دفع عنه كما هو حكم الدفع في الأمور الدينية، فكانت الصلاة لمواقيت اليوم والليلة، والصوم والحج لمواقيت الأهلة، والزكاة لميقات الشمس، والجهاد لمطلق الميقات حيث ما وقع من مكان وزمان ناظراً بوجه ما لما يقابله من عمود الإسلام الذي هو ذكر كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله على الدوام
{يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41]...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا. فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة. وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتل فيها محرما في الجاهلية
أخرج الواحدي... عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صد عن البيت ثم صالحه المشركون فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء. فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}. علل الإذن بأنه مدافعة في سبيل الله...
وعلل النهي بقوله {إن الله لا يحب المعتدين} أي أن الاعتداء من السيئات المكروهة عند الله تعالى لذاتها فكيف إذا كان في حال الإحرام، وفي أرض الحرم والشهر الحرام؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال. نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا. وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم، وللتمكين لهم في الأرض، كما وعدهم الله في آيات سورة الحج: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور}.. ومن ثم كانوا يعرفون لم أذن لهم بأنهم ظلموا، وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة، وقيل لهم:
{كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.. وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله.. نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى.
وأول ما نراه من أسباب هذا الكف، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالا للأمر، وخضوعا للقيادة، وانتظارا للإذن. وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة، يستجيبون لأول ناعق، ولا يصبرون على الضيم.. وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر، وتطاع فيما تقدر وتدبر، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع.. ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة؛ وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله [ص] وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم: {كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.. ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي، والحماسة والتدبر، والحمية والطاعة.. في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم..
والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة.. هو أن البيئة العربية، كانت بيئة نخوة ونجدة. وقد كان صبر المسلمين على الأذى، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام؛ وقد حدث بالفعل عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب، كي يتخلوا عن حماية الرسول [ص] أنه عندما اشتد الاضطهاد لبني هاشم، ثارت نفوس نجدة ونخوة، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة. وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة. ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حربا دموية داخل البيوت. فقد كان المسلمون حينذاك فروعا من البيوت. وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم؛ ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام. ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة.. مما كان يجعل الإسلام -في نظر البيئة العربية- يبدو دعوة تفتت البيوت، وتشعل النار فيها من داخلها.. فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة، تواجه سلطة أخرى في مكة، تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها.. وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة، بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته.
هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى. وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة، وهم محصورون في مكة، وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين، في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة. فشاء الله أن يكثروا، وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة، ثم أذن لهم بعد هذا في القتال.. وعلى أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة [ثم خارج الجزيرة].
وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين. معسكر الإسلام ومعسكر الشرك. وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام، ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلا يسيرا في سورة براءة... ومع تحديد الهدف، تحديد المدى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.. والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطرا على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين.. كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام، ووضع بها حدا للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء.. تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام، وتأباها تقوى الإسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وقاتلوا في سبيل الله} فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال: {الذين يقاتلونكم} فجعل فاعله ضمير عدوهم، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم.
والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا؛ لأن تلك الحالة يفوت على المسلمين تداركها، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه} [البقرة: 191] تخصيصاً أو تقييداً ببعض البقاع. فقوله: {ولا تعتدوا أي لا تبتدئوا بالقتال وقوله: إن الله لا يحب المعتدين} تحذير من الاعتداء؛ وذلك مسالمة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين، وقيل: أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم... {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وإنها لمبادئ في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءاً أو عدواناً لحمل الناس على الإسلام. ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [39-43] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله، والردّ على البغاة المعتدين لنقول: إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لرداًّ آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضاً مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.
ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجاباً، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.
كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق – وهذا ما تعنيه جملة: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} على ما ذكره المؤولون – عظيم المغزى من أجل ذلك.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين، وأجازهم أن يواجهوا السلاح بالسلاح، بعد أن انتهت مرحلة صبر المسلمين على الأذى، وحلّت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.
تقول الآية: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم).
عبارة (فِي سَبِيلِ الله) توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للانتقام ولا للعلوّ في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام. حمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله وفي سبيل نشر أحكام الله، أي نشر الحقّ والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف.
وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن ساير الحروب في العالم، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الاسرى وأمثال ذلك بصبغة «في سبيل الله».
«سبيل» كما يقول الراغب في مفرداته أنها في الأصل تعني الطريق السهل، ويرى بعض أنه ينحصر في طريق الحقّ. ولكن مع الالتفات إلى أن هذه المفردة جاءت في القرآن الكريم تارة بمعنى طريق الحقّ، وأخرى طريق الباطل، فإن مرادهم قد يكون إطلاقها على طريق الحقّ مع القرائن.
ولا شكّ أن سلوك طريق الحقّ «سبيل الله» أي طريق الدين الإلهي مع احتوائه على مشاكل ومصاعب كثيرة إلاّ أنه سهل يسير لتوافقه مع الفطرة والروح الإنسانية للأشخاص المؤمنين، ولهذا السبب نجد المؤمنين يستقبلون تلك الصعوبات برحابة صدر حتّى لو ادّى بهم إلى القتل والشهادة.
وعبارة (الذين يقاتلونكم) تدلّ بصراحة أن هذا الحكم الشرعي يختّص بمن شهروا السلاح ضد المسلمين، فلا تجوز مقاتلة العدو ما لم يشهر سيفاً ولم يبدأ بقتال باستثناء موارد خاصّة سيأتي ذكرها في آيات الجهاد.
وذهب جمع من المفسرين إلى أن مفهوم (الذين يقاتلونكم) محدود بدائرة خاصّة، في حين أن مفهوم الآية عام وواسع. ويشمل جميع الذين يقاتلون المسلمين بنحو من الأنحاء.
ويستفاد من الآية أيضاً أن المدنيين خاصّةً النساء والأطفال لا يجوز أن يتعرّضوا لهجوم، فهم مصونون لأنّهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح.
ثمّ توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتّى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء، وتقول: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
أجل، فالحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان. لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأُصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الافتقار. يوصي مثلاً بعدم الاعتداء على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب، أو ليست لديهم أصلاً قدرة على الحرب كالشيوخ والنساء والأطفال، وهكذا يجب عدم التعرّض للمزارع والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدوّ...