{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : الأتباع منهم ، بدليل ما بعده ، على وجه الحنق ، على من أضلهم : { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } أي : الصنفين اللذين ، قادانا إلى الضلال والعذاب ، من شياطين الجن ، وشياطين الإنس ، الدعاة إلى جهنم .
{ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } أي : الأذلين المهانين كما أضلونا ، وفتنونا ، وصاروا سببًا لنزولنا . ففي هذا ، بيان حنق بعضهم على بعض ، وتبرِّي بعضهم من بعض .
ثم صور - سبحانه - أحوالهم وهم يتقلبون فى النار وحكى بعض أقوالهم التى يقولونها وهم فى ذلك العذاب الأليم فقال : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } على من أضلوهم .
{ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس . . . } أى : قالوا يا ربنا أطلعنا على الفريقين اللذين زينوا لنا الكفر والفسوق والعصيان من أفراد الجن والإِنس { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } أى : أرنا إياهم لننتقم منهم ، بأن ندوسها بأقدامنا احتقارا لهم ، وغضبا عليهم ، ليكونا بذلك فى أسفل مكان من النار ، وفى أحقره وأكثرهم سعيرا .
وهكذا تتحول الصداقة التى كانت بين الزعماء والأتباع فى الدنيا ، إلى عداوة تجعل كل فريق يحتقر صاحبه ، ويتمنى له أسوأ العذاب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَال الّذِينَ كَفَرُواْ رَبّنَآ أَرِنَا اللّذَيْنِ أَضَلاّنَا مِنَ الْجِنّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال الذين كفروا بالله ورسوله يوم القيامة بعد ما أدخلوا جهنم : يا ربنا أرنا اللذين أضلاّنا من خلقك من جنهم وإنسهم . وقيل : إن الذي هو من الجنّ إبليس ، والذي هو من الإنس ابن آدم الذي قتل أخاه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ثابت الحداد ، عن حبة العرنيّ ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله : أرِنا اللّذَيْنِ أضَلاّنا مِنَ الجِنّ والإنْسِ قال : إبليس الأبالسة وابن آدم الذي قتل أخاه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مالك بن حصين ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه في قوله : رَبّنا أرِنا اللّذَيْنِ أضَلاّنا مِنَ الجِنّ والإنْسِ قال : إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي مالك وابن مالك ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه رَبّنا أرِنا اللّذَيْنِ أضَلاّنا مِنَ الجِنّ والإنْسِ قال : ابن آدم الذي قتل أخاه ، وإبليس الأبالسة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، في قوله : رَبّنا أرِنا اللّذَيْنِ أضَلاّنا مِنَ الجِنّ والإنْسِ . . . الاَية ، فإنهما ابن آدم القاتل ، وإبليس الأبالسة . فأما ابن آدم فيدعو به كلّ صاحب كبيرة دخل النار من أجل الدعوة . وأما إبليس فيدعو به كلّ صاحب شرك ، يدعوانهما في النار .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة رَبّنا أرِنا اللّذَيْنِ أضَلاّنا مِنَ الجِنّ والإنْسِ هو الشيطان ، وابن آدم الذي قتل أخاه .
وقوله : نَجْعَلْهُما تحْتَ أقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الأسْفَلِينَ يقول : نجعل هذين اللذين أضلانا تحت أقدامنا ، لأن أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض ، وكلّ ما سفل منها فهو أشدّ على أهله ، وعذاب أهله أغلظ ، ولذلك سأل هؤلاء الكفار ربهم أن يريهم اللذين أضلاهم ليجعلوهما أسفل منهم ليكونا في أشدّ العذاب في الدرك الأسفل من النار .
{ وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس } يعني شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة والعصيان . وقيل هما إبليس وقابيل فإنهما سنا الكفر والقتل ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والسوسي { أرنا } بالتخفيف كفخذ في فخذ ، وقرأ الدوري باختلاس كسرة الراء . { نجعلهما تحت أقدامنا } ندوسهما انتقاما منهما ، وقيل نجعلهما في الدرك الأسفل . { ليكونا من الأسفلين } مكانا أو ذلا .
ثم ذكر عز وجل مقالة كفار يوم القيامة إذا دخلوا النار فإنهم يرون عظيم ما حل بهم وسوء منقلبهم فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم وبادي ضلالتهم فيعظم غيظهم وحنقهم عليه ويودون أن يحصل في أشد عذاب فحينئذ يقولون { ربنا أرنا اللذين أضلانا } ، وظاهر اللفظ يقتضي أن الذي في قولهم : { اللذين } إنما هو للجنس ، أي { أرنا } كل مغوٍ ومضل { من الجن والإنس } ، وهذا قول جماعة من المفسرين . وقال علي بن أبي طالب وقتادة . وطلبوا ولد آدم الذي سن القتل والمعصية من البشر وإبليس الأبالسة من الجن .
قال القاضي أبو محمد : وتأمل هل يصح هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لأن ولد آدم مؤمن عاص ، وهؤلاء إنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود ، وإنما القوي أنهم طلبوا النوعين ، وقد أصلح بعضهم هذا القول بأن قال : يطلب ولد آدم كل عاص دخل النار من أهل الكبائر ، ويطلب إبليس كل كافر ، ولفظ الآية يزحم هذا التأويل ، لأنه يقتضي أن الكفرة إنما طلبوا اللذين أضلا .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي : «أرِنا » بكسر الراء ، وهي رؤية عين ، ولذلك فهو فعل يتعدى إلى مفعولين . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : «أرْنا » بسكون الراء ، فقال هشام بن عمار : هو خطأ . وقال أبو علي : هي مخففة من : { أرنا } كما قالوا : ضحك وفخذ . وقرأ أبو عمرو : بإشمام الراء الكسر ، ورويت عن أهل مكة .
وقوله : { نجعلهما تحت أقدامنا } يريدون في أسفل طبقة من النار ، وهي أشد عذاباً . وهي درك المنافقين{[10070]} .