ف { قَالَ } يوسف طلبا للمصلحة العامة : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ } أي : على خزائن جبايات الأرض وغلالها ، وكيلا حافظا مدبرا .
{ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } أي : حفيظ للذي أتولاه ، فلا يضيع منه شيء في غير محله ، وضابط للداخل والخارج ، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع ، والتصرف في جميع أنواع التصرفات ، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية ، وإنما هو رغبة منه في النفع العام ، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه .
فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض ، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه إياها .
وهنا طلب يوسف - عليه السلام - من الملك بعزة وإباء أن يجعله في الوظيفة التي يحسن القيام بأعبائها { قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } والخزائن جمع خزانة - بكسر الخاء وهى اسم للمكان الذي يخزن فيه الشئ ، والمراد بالأرض : أرض مصر .
أى : قال يوسف - عليه السلام - للملك : اجعلنى - أيها الملك - المتصرف الأول في خزائن أرض مملتك ، المشتملة على ما يحتاج إليه الناس من أموال وأطعمة ، لأنى شديد الحفظ لما فيها ، عليم بوجوه تصريفها فيما يفيد وينفع . . .
فأنت ترى أن يوسف - عليه السلام - لم يسأل الملك شيئا لنفسه من أعراض الدنيا ، وإنما طلب منه أن يعينه في منصب يتمكن بواسطته من القيام برعاية مصالح الأمة ، وتدبير شئونها . . . لأنها مقبلة على سنوات عجاف ، تحتاج إلى خبرة يوسف وأمانته وكفاءته وعلمه . . .
قال صاحب الكشاف : " وصف يوسف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى - وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله - لا لحب الملك والدنيا "
وقال القرطبى ما ملخصه : " ودلت الآية - أيضاً - على جواز أن يطلب الإِنسان عملاً يكون له أهلاً .
فإن قيل : فإن ذلك يعارضه ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة من نهيه عن طلب الإِمارة . . .
فالجواب : أولاً : أن يوسف - عليه السلام - إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإِصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم ، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه ، فإنه لم يكن هناك غيره . . .
الثانى : أنه لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض لأنى حسيب كريم ، وإن كان كذلك ، ولم يقل إنى جميل مليح . . . وإنما قال { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فسألها بالحفظ والعلم لا بالنسب والجمال .
الثالث : إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه ، وصار ذلك مستثنى من قوله - تعالى - { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ . . } والخلاصة أن يوسف - عليه السلام - إنما قال ما قال للملك ، ، وطلب ما طلب منه ، لأنه علم أن هذا المنصب لا يصلح له أحد سواه في ذلك الوقت وفى تلك الظروف ، فهو يريد من ورائه خدمة الأمة لا لأجل منفعة شخصية لنفسه . . .
وما قاله إنما هو من باب التحدث بنعمة الله - تعالى - الذي أعطاه هذه الصفات الكريمة ، والمناقب العالية ، وليس من باب تزكية النفس المحظورة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىَ خَزَآئِنِ الأرْضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } .
يقول جلّ ثناؤه : قال يوسف للملك : اجعلني على خزائن أرضك ، وهي جمع خِزانة ، والألف واللام دخلتا في الأرض خلفا من الإضافة ، كما قال الشاعر .
*** والأحْلامُ غيرُ عَوَازِبِ ***
وهذا من يوسف صلوات الله عليه مسألة منه للملك أن يوليه أمر طعام بلده وخراجها ، والقيام بأسباب بلده ، ففعل ذلك الملك به فيما بلغني . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ قال : كان لفرعون خزائن غير الطعام ، قال : فأسلم سلطانه كله إليه ، وجعل القضاء إليه ، أمره وقضاؤه نافذ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي ، في قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأَرْضِ قال : على حفظ الطعام .
وقوله : { إنّي حَفيظٌ عَلِيمٌ } اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : إني حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما ولّيتني . قال : : قد فعلت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يقول : حفيظ لما وليتُ ، عليم بأمره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي في قوله : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يقول : إني حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني المجاعة .
وقال آخرون : إني حافظ للحساب ، عليم بالألسن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن الأشجعي : إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ : حافظ للحساب ، عليم بالألسن .
وأولى القولين عندنا بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما أوليتني ، لأن ذلك عقيب قوله : اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ ومسألته الملك استكفاءه خزائن الأرض ، فكان إعلامه بأن عنده خبرة في ذلك ، وكفايته إياه ، أشبه من إعلامه حفظه الحساب ومعرفته بالألسن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.