النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ} (55)

قوله عز وجل : { قال اجعلني على خزائن الأرض } أي على خزائن أرضك ، وفيها قولان :

أحدهما : هو قول بعض{[1496]} المتعمقة أن الخزائن ها هنا الرجال ، لأن الأفعال والأقوال مخزونة فيهم فصاروا خزائن لها .

الثاني : وهو قول أصحاب الظاهر أنها خزائن الأموال ، وفيها قولان : أحدهما : أنه سأله جميع الخزائن ، قاله ابن زيد .

الثاني : أنه سأله خزائن الطعام ، قاله شيبة بن نعامة الضبي .

وفي هذا دليل على جواز أن يخطب الإنسان عملاً يكون له أهلاً وهو بحقوقه وشروطه قائم .

فيما حكى ابن سيرين عن أبي هريرة قال : نزعني عمر بن الخطاب عن عمل البحرين ثم دعاني إليها فأبيت ، فقال : لم ؟ وقد سأل يوسف العمل .

فإن كان المولي ظالماً فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين :

أحدهما : جوازها إن عمل بالحق فيما تقلده ، لأن يوسف عليه السلام ولي من قبل فرعون ، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره .

الثاني : لا يجوز ذلك له لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم وتزكيتهم بتنفيذ أعمالهم .

وأجاب من ذهب إلى هذا القول عن ولايته من قبل فرعون بجوابين :

أحدهما : أن فرعون يوسف كان صالحاً ، وإنما الطاغي فرعون موسى .

الثاني : أنه نظر له في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه .

والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات فيجوز توليته من جهة الظالمين لأن النص على مستحقيه قد أغنى عن الاجتهاد فيه ، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التنفيذ .

والقسم الثاني : ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء فلا يجوز توليته من جهة الظالم لأنه يتصرف بغير حقٍ ويجتهد فيما لا يستحق .

والقسم الثالث : ما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام ، فعقد التقليد فيه محلول ، فإن كان النظر تنفيذاً لحكم بين متراضيين أو توسطاً بين مجبورين جاز ، وإن كان إلزام إجبار لم يجز{[1497]} .

{ إني حفيظ عليم } فيه أربعة تأويلات :

أحدها : حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني ، قاله ابن زيد .

الثاني : حفيظ بالكتاب ، عليم بالحساب ، حكاه ابن سراقة ، وأنه أول من كتب في القراطيس{[1498]} .

الثالث : حفيظ بالحساب ، عليم بالألسن ، قاله الأشجع عن سفيان .

الرابع : حفيظ لما وليتني ، قاله قتادة ، عليم بسني المجاعة ، قاله شيبة الضبي . وفي هذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل ، وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات ولكن مخصوص فيما اقترن بوصلة أو تعلق بظاهر من مكسب وممنوع منه فيما سواه لما فيه من تزكية ومراءاة ، ولو تنزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله ، فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله ولما يرجوه من الظفر بأهله .

قوله عز وجل : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } قال ابن جرير الطبري : استخلصه الملك الأكبر الوليد بن الريان على عمل إظفير وعزله . قال مجاهد : وأسلم على يده . قال ابن عباس : ملك بعد سنة ونصف . فروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن يوسف قال : إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ذلك " .


[1496]:سقط من ق.
[1497]:نقل القرطبي هذا التفصيل بأقسامه الثلاثة. والحق أن الماوردي صاحب الأحكام السلطانية وأدب القاضي قد فصل هذه المسألة تفصيلا ليس بعده من مزيد. انظر تفسير القرطبي 9/215 حيث نقل الصفحة كلها.
[1498]:هذا القول في حاجة إلى دليل وقد سقط من ق هو والقول الرابع.