محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ} (55)

وقوله تعالى : { قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم 55 } .

{ قال } أي يوسف للملك { اجعلني على خزائن الأرض } أي ولّني خزائن أرضك ، يعني جميع الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها ، فينصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح . ثم بين اقتداره في ذلك فقال : { إني حفيظ عليم } أي أمين أحفظ ما تستحفظنيه ، عالم بوجوه التصرف فيه .

قال الزمخشري : وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه .

وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى ، وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك فطلب التولية ابتغاء وجه الله ، لا لحب الملك والدنيا .

فإن قلت : كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ، ويكون تبعا له ، وتحت أمره وطاعته ؟

قلت : روى مجاهد أنه كان قد أسلم ، وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر . وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه . وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق ، فله أن يستظهر به .

وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه ، ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع له والمطيع . انتهى .

وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه ، لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه ، وجواز التولية عن الكافر والظالم . وأصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحته ، وفي أن المتولي أمرا ، شرطه أن يكون عالما به ، خبيرا ، ذكي الفطنة كذا في ( الإكليل ) .

قال أبو السعود : وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله ، عليه السلام ، من جعله على خزائن الأرض ، إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له ، غني عن التصريح ، لاسيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها ، من قوله : { إنك اليوم لدينا مكين أمين } ، وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عز وجل ، وإنما الملك آلة في ذلك .

تنبيه :

قال ابن كثير : خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات . . . الخ .

ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات ، ولم أقف عليه في كلام غيره .

و ( الأهرام ) بفتح الهمزة . جمع هرم بفتحتين ، وهي مبان مربعة الدوائر ، مخروطية الشكل ، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة ، بعيدة أميالا عن القاهرة ، معدودة من غرائب الدنيا . دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام 1321 ه وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم .

ففي كتاب ( الأثر الجليل لقدماء وادي النيل ) : جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس كما تميزوا عنهم مدة حياتهم ، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور ، وتراخي العصور . وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك ( خوفو ) ، والثاني للملك ( خفرع ) والثالث للملك ( منقرع ) وجميعهم من العائلة المنفيسية . ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب ، أو مدرسة للمعارف الكهنوتية ، أو غير ذلك . انتهى .