السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ} (55)

{ اجعلني على خزائن الأرض } جمع خزانة وأراد خزائن الطعام والأموال ، والأرض أرض مصر ، أي : خزائن أرضك مصر ، وقال الربيع بن أنس : أي : خرج مصر ودخله .

وروى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره الله تعالى سنة فأقام في بيته سنة مع الملك » . قال الرازي : وهذا من العجائب ؛ لأنه لما تثاقل عند الخروج من السجن سهل الله تعالى عليه ذلك على أحسن الوجوه . ولما سارع في ذكر هذا الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه ، وهذا يدل على أنّ ترك التصرف أتم ، والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى ، ثم قال : { إني حفيظ عليم } ، أي : ذو حفظ وعلم بأمرها ، وقيل : كاتب وحاسب . فإن قيل : لم طلب يوسف عليه السلام الإمارة والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة : «لا تسأل الإمارة » . ولم طلب الإمارة من سلطان كافر ، ولم لم يصبر مدّة ، ولم أظهر الرغبة في طلبها في الحال ، ولم طلب أمر الخزائن في أوّل الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة ، ولم مدح نفسه وقد قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } [ النجم ، 32 ] ولم ترك الاستثناء في هذا وقد قال تعالى : { ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً 23 إلا أن يشاء الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] فهذه سبعة أسئلة ؟ .

أجيب عنها : بأنّ الأصل في جواب هذه الأسئلة أنّ التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان . وإنما كان ذلك واجباً عليه لوجوه :

الأوّل : أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه مراعاة الأمة بقدر الإمكان .

والثاني : أنه علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد ، فلعله تعالى أمره أن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق .

والثالث : أن السعي أيضاً في إيصال النفع إلى المستحقين ورفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول ، فكان مكلفاً عليه السلام برعاية المصالح من هذه الوجوه ، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وإنما مدح نفسه ؛ لأنّ الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكن ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر ، وأيضاً مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد به الشخص التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل ، وأمّا هذا الوجه فليس بمذموم وقوله تعالى { فلا تزكوا أنفسكم } [ النجم ، 32 ] المراد به تزكية حال من لا يعلم كونها مزكاة والدليل قوله تعالى بعد هذه الآية : { هو أعلم بمن اتقى } [ النجم ، 32 ] أمّا إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه ، وإنما ترك الاستثناء ؛ لأنه لو ذكره بما اعتقد الملك فيه إنه إنما ذكره لعلمه أنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي ، فلهذا المعنى ترك الاستثناء .