اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ} (55)

ثم حكى سبحانه وتعالى أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال في هذا المقام : { اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } قال المفسرون : لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه ، قال له الملك : فما ترى أيُّها الصديقُ ؟ فقال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً ، وتبني الخزائنن وتجمع فيها الطَّعام ، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات ، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشُّغل ؟ فقال يوسف : { اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض } ، أي : على خزائن أرض مصر . أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق .

روى ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : " رحِمَ اللهُ أخي يوسف ، لو لَمْ يقُل : اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً " .

قال ابن الخطيب : " وهذا من العجائب ؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن ، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه ، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ ، أخَّر الله ذلك المطلوب عنه ، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِ ، والتفويض إلى الله تعالى أولى .

فإن قيل : لِمَ طلب يوسف الإمارة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة : " يَا عَبْدَ الرَّحمنِ : لا تَسْألِ الإمَارَةَ " ؟ . وأيضاً : فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ ؟ وأيضاً : لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة ؟ وأيضاً : لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ ؟ وأيضاً : كيف مدح نفسه بقوله : { إني حفيظ عليم } مع أنه تعالى قال : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } ؟ [ النجم : 32 ] ، وأيضاً ما الفائدة في قوله : { إنِّي حفيظٌ عليمٌ } ؟ ولِمَ لَمْ يقل : إن شاء الله تعالى ؛ لقوله تعالى { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الكهف : 2324 ] ؟ .

فالجواب : أن الأصل في جواب هذه المسألةِ : أنَّ التَّصرف في أمور الخَلقِ كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه :

الأول : أنه كان رسُولاً حقًّا من الله تعالى إلى الخلق ، والرسول تجب عليه مصالحُ الأمةِ بقدر الإمكانِ .

والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام علمَ بالوحي أنًَّهُ سَيحْصُلُ القَحْطُ والضيقُ الشديد ، الذي ربَّما أفضى إلى هلاك الخلق ، فلعلَّه تعالى أمره بأن يدبِّر في ذلك الوقت ، ويأتي بطريقٍ في آجله يقلُّ ضَررُ ذلك القحْطِ في حق الخلق .

الثالث : أنَّ السَّعي في إيصال النفع إلى المُستضعفين ، ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسنٌ في العقول .

وإذا ثبت هذا ، فنقولُ : إنه صلى الله عليه وسلم كان مكلَّفاً برعاية المصالح من هذه الوجوه ، و ما كان يمكنه رعايتها إلاَّ بهذا الطريق ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به ، فهو واجبٌ ، فكان هذا الطريق واجباً ، ولمَّا كان واجباً ، سقطتِ الأسئلة بالكلية .

وأما تركُ الاستثناءِ ، فقال الواحديُّ : " كان ذلك من خطيئةٍ أوجبتْ عُقوبةٌ وهو أنه تعالى أخَّر عنه حصول ذلك المقصودِ سنةً " .

قال ابنُ الخطيب : " لعلَّ السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء ، لاعتقد الملكُ فيه أنه ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي ؛ فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء " .

وأما قوله لِمَ مَدحَ نفسه ؟ فجوابه من وجوه :

الأول : لا نُسلِّمُ أنه مدح نفسه ، بل بيَّن كونه موصوفاً بهاتين الصفتين الوافيتين بحصولِ هذا المطلوبِ ، فاحتاج إلى ذكر هذا الوصفِ ؛ لأنَّ الملك وإن علمَ كمالهُ في علومِ الدين ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر .

ثم نقول : هبْ أنَّه مدح نفسه ، إلاَّ أنَّ مدح النفس لا يكونُ مذموماً ؛ إلا إذا قصد به الرجل التَّطاول ، والتفاخر ، والتوصل إلى ما لا يحلُّ ، وأمَّا على هذا الوجه ، فلا نسلِّم أنه يحرمُ ، وقوله تعالى { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 23 ] ، والمراد منه : تزكيةٌ النفس وهو يعلمُ كونها غير زَكيَّةٍ ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى بعده : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } [ النجم : 23 ] أما إذا كان عالماً بأنه صدقٌ ، فهو غير ممنوعٍ منه ، والله أعلم .

وأما القول : ما الفائدة في وصف نفسه بأنه حفيظٌ عليمٌ ؟ .

قلنا : إنه جار مجرى أن يقول : حفيظٌ بجميع الوجوه التي منها يمكن الرجل تحصيل المالِ ، وعليمٌ بالجهاتِ التي تصلح لأن يصرف المال إليها ، أو حفيظ للخزائن عليمٌ بوجوه مصَالِحهَا أو كاتبٌ حَاسِبٌ ، أو حفيظٌ لِمَا اسْتودَعْتَنِي ، عليمٌ بما وليتني ، أو حفيظ للحساب ، عليمٌ بالألسن ، أعلمُ لغة من يأتيني .

وقال الكلبيُّ : " حفيظٌ بتقديره في السِّنين الخصبةِ ، عليم بوقت الجوعِ حين يقعُ في الأرض الجَدبةِ " .

فقال الملك : من أحقُّ به مِنْكَ فولاَّهُ ذلك ، وقال له : { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } ذُو مكانةٍ ومنزلةٍ ، أمينٌ على خزائنِ الأرض .