التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ} (55)

وهنا طلب يوسف - عليه السلام - من الملك بعزة وإباء أن يجعله في الوظيفة التي يحسن القيام بأعبائها { قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } والخزائن جمع خزانة - بكسر الخاء وهى اسم للمكان الذي يخزن فيه الشئ ، والمراد بالأرض : أرض مصر .

أى : قال يوسف - عليه السلام - للملك : اجعلنى - أيها الملك - المتصرف الأول في خزائن أرض مملتك ، المشتملة على ما يحتاج إليه الناس من أموال وأطعمة ، لأنى شديد الحفظ لما فيها ، عليم بوجوه تصريفها فيما يفيد وينفع . . .

فأنت ترى أن يوسف - عليه السلام - لم يسأل الملك شيئا لنفسه من أعراض الدنيا ، وإنما طلب منه أن يعينه في منصب يتمكن بواسطته من القيام برعاية مصالح الأمة ، وتدبير شئونها . . . لأنها مقبلة على سنوات عجاف ، تحتاج إلى خبرة يوسف وأمانته وكفاءته وعلمه . . .

قال صاحب الكشاف : " وصف يوسف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى - وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله - لا لحب الملك والدنيا "

وقال القرطبى ما ملخصه : " ودلت الآية - أيضاً - على جواز أن يطلب الإِنسان عملاً يكون له أهلاً .

فإن قيل : فإن ذلك يعارضه ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة من نهيه عن طلب الإِمارة . . .

فالجواب : أولاً : أن يوسف - عليه السلام - إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإِصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم ، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه ، فإنه لم يكن هناك غيره . . .

الثانى : أنه لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض لأنى حسيب كريم ، وإن كان كذلك ، ولم يقل إنى جميل مليح . . . وإنما قال { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فسألها بالحفظ والعلم لا بالنسب والجمال .

الثالث : إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه ، وصار ذلك مستثنى من قوله - تعالى - { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ . . } والخلاصة أن يوسف - عليه السلام - إنما قال ما قال للملك ، ، وطلب ما طلب منه ، لأنه علم أن هذا المنصب لا يصلح له أحد سواه في ذلك الوقت وفى تلك الظروف ، فهو يريد من ورائه خدمة الأمة لا لأجل منفعة شخصية لنفسه . . .

وما قاله إنما هو من باب التحدث بنعمة الله - تعالى - الذي أعطاه هذه الصفات الكريمة ، والمناقب العالية ، وليس من باب تزكية النفس المحظورة .