17- { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } .
أنزلناه كتابا عربيا مبينا ، مشتملا على ألوان المعارف والقصص ، والأمثال والحكم والتشريع ، وبيان عجائب الكون ، وأخبار القيامة والبعث والحشر والنشر ، ويسّرٍَنا تلاوته وقراءته ، وحفظه وفهمه والاتعاظ به .
فهل من معتبر بهذا الكتاب متأمل فيه ، متعظ بما فيه من المواعظ والأخبار ، مسارع إلى التأمل في فهمه ، والاستعانة بالله على حفظه .
وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به ، لأنّه قد يسره الله ، وسهله على من يشاء من عباده ، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير ، والعربي والعجمي .
يسرنا للحفظ والقراءة ، وليس من كتب الله تعالى يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن . انتهى من تفسير الخازن .
ألا ليت أمتنا تتواصى بتعليم أبنائها وبناتها ورجالها ونسائها ، وشبابها وفتياتها هذا الكتاب ، دراسة وحفظا ، وتجويدا وتلاوة ، لمعرفة أحكامه وآدابه ، والاهتداء بهديه ومواعظه ، وتنفيذ أوامره ونواهيه ، ليكون حياة لأرواحنا ، وقوة لأفئدتنا ، ونورا لنفوسنا ، وبعثا لأمتنا ، حتى نعتصم به ونعمل به كما عمل السابقون ، فعزُّوا وسادوا ، وقد أصاب أمتنا التدهور والاضمحلال بسبب بعدها عن كتاب الله ، وهو مصدر عزِّها ، بل هو الروح والحياة الكريمة لها .
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } . ( الشورى : 52-53 ) .
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر . . . } أي والله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه بلغتهم عربيا مبينا ، وشحناه بأنواع المواعظ والعبر ، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ؛ فهل من معتبر ومتعظ ! ؟
وقد وردت هذه الجملة القسمية في آخر قصة قوم نوح ، وقصة عاد ، وقصة ثمود ، وقصة قوم لوط ؛ تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى : " ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر . حكمة بالغة فما تغني النذر " . وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الإدّكار ، كامية في الاردجار ؛ ومع ذلك لم يحصل منهم اعتبار .
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي : ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ، ألفاظه للحفظ والأداء ، ومعانيه للفهم والعلم ، لأنه أحسن الكلام لفظا ، وأصدقه معنى ، وأبينه تفسيرا ، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير ، وسهله عليه ، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام ، وأحكام الأمر والنهي ، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر ، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة ، ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا ، أسهل العلوم ، وأجلها على الإطلاق ، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه ، قال بعض السلف عند هذه الآية : هل من طالب علم فيعان [ عليه ] ؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله : { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد يسرنا} يقول: هوّنا {القرآن للذكر} يعني ليتذكروا فيه. {فهل من مدكر} يعني فيتذكر فيه، ولولا أن الله تعالى يسر القرآن للذكر ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله تعالى، ولكن الله تعالى يسره على خلقه فيقرؤونه على كل حال.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَلَقَدْ يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ "يقول تعالى ذكره: ولقد سهّلنا القرآن، بيّناه وفصّلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ، وهوّناه... قال ابن زيد، في قوله: "وَلَقَدْ يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ" قال: يسّرنا: بيّنا.
وقوله: "فَهَلْ مِنْ مُدّكِر" يقول: فهل من معتبر متعظ يتذكر فيعتبر بما فيه من العبر والذكر.
وقد قال بعضهم في تأويل ذلك: هل من طالب علم أو خير فيُعان عليه، وذلك قريب المعنى مما قلناه، ولكنا اخترنا العبارة التي عبرناها في تأويله، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه على ظاهره...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد يسّرنا القرآن للذِّكر فهل من مُدّكر} هذا يحتمل وجوها:
أحدها: {ولقد يسّرنا القرآن للذّكر} أي للحفظ، أي صيّرناه بحيث يحفظه كل أحد من صغير وكبير وكافر ومؤمن، وكل أحد يتكلّف حفظه.
والثاني: {ولقد يسّرنا القرآن للذّكر} أي لذِكر ما نُسوا من نعم الله تعالى عليهم، ولذكر ما أنبأهم فيه من أخبار الأوائل من مُصدّقيهم ومكذّبيهم... {فهل من مُدّكر} خُرّج مخرج الأمر، أي: اذكروا، واتّعظوا بما فيه من الأنباء، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يَسَّرنا قراءَتَه على ألسنةِ الناس، ويسَّرنا عِلْمه على قلوبِ قوم، ويسَّرنا فَهْمَه على قلوب قوم، ويَسَّرْنا حِفْظَه على قلوبِ قومٍ، وكلُّهم أهلُ القرآن...
وكلُّهم أهل الله وخاصته. {فَهَلْ مِن مُّدَّكَرٍ} لهذا العهد الذي جرى لنا معه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} أي سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد {فَهَلْ مِن} متعظ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فهل من مدكر} استدعاء وحض على ذكره وحفظه لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس... الآية تعديد نعمة في أن الله يسر الهدى...
(الثاني): سهلناه للاتعاظ حيث أتينا فيه بكل حكمة.
(الثالث): جعلناه بحيث يعلق بالقلوب ويستلذ سماعه ومن لا يفهم يتفهمه ولا يسأم من سمعه وفهمه ولا يقول قد علمت فلا أسمعه بل كل ساعة يزداد منه لذة وعلما.
(الرابع): وهو الأظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر بحال نوح عليه السلام وكان له معجزة قيل له: إن معجزتك القرآن {ولقد يسرنا القرآن للذكر} تذكرة لكل أحد وتتحدى به في العالم ويبقى على مرور الدهور، ولا يحتاج كل من يحضرك إلى دعاء ومسألة في إظهار معجزة، وبعدك لا ينكر أحد وقوع ما وقع كما ينكر البعض انشقاق القمر...
{فهل من مدكر} أي متذكر لأن الافتعال والتفعل كثيرا ما يجيء بمعنى، وعلى هذا فلو قال قائل: هذا يقتضي وجود أمر سابق فنسي، نقول: ما في الفطرة من الانقياد للحق هو كالمنسي فهل من مدكر يرجع إلى ما فطر عليه وقيل: فهل من مدكر أي حافظ أو متعظ على ما فسرنا به قوله تعالى: {يسرنا القرآن للذكر} وقوله: {فهل من مدكر} وعلى قولنا المراد متذكر إشارة إلى ظهور الأمر فكأنه لا يحتاج إلى نكر، بل هو أمر حاصل عنده لا يحتاج إلى معاودة ما عند غيره.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله: "فهل من مذكر " لأن " هل " كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم، فاللام من " هل " للاستعراض والهاء للاستخراج.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير والعربي والعجمي وغيرهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{للذكر} أي الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والحفظ والتشريف لمن يراعيه، والآية ناظرة بالعطف والمعنى إلى {ولقد جاءهم من الأنباء} الآيتين، فالمعنى أنا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها، وبلاغات لا يهتدون إلى وجه معناها أصلاً، لكننا لم نفعل ذلك بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به فكان في ذلك إعجازان: أحدهما أنه فوق بلاغتهم، والثاني أنه مع علوه يشترك في أصل فهمه الذكي والغبي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا التيسير ينبئ بعناية الله به مثل قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] تبصرة للمسلمين ليزدادوا إقبالاً على مدارسته...
فالذكر هو تذكر ما في تذكره نفع ودفع ضر، وهو الاتعاظ والاعتبار...
وتأكيد الخبر باللام وحرف التحقيق مراعى فيه حَال المشركين الشاكين في أنه من عند الله. وإذ كان القرآن كلاماً فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يُراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به بدون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون: يدخل للأذن بلا إذن. وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني؛ فأما من جانب الألفاظ فلذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها، بحيث يخف حفظها على الألسنة. وأما من جانب المعاني، فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له. وبتولد معانٍ من معانٍ أُخر كلّما كرّر المتدبر تدبّره في فهمها...
{يسرنا القرآن للذكر} أن القرآن سُهلت دلالته لأجل انتفاع الذكر بذلك التيسير، فجعلت سرعة ترتب التذكر على سماع القرآن بمنزلة منفعة للذكر لأنه يشيع ويروج بها كما ينتفع طالب شيء إذا يُسرت له وسائل تحْصيله، وقربت له أباعدها.ويؤول المعنى إلى: يسرنا القرآن للمتذكرين. وفرع على هذا المعنى قوله: {فهل من مدكر}. والقول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفاً، إلا أن بين الادِّكارين فرقاً دقيقاً، فالادِّكار السالف ادّكار اعتبار عن مشاهدة آثار الأمة البائدة، والادّكار المذكور هنا ادكار عن سماع مواعظ القرآن البالغة وفهم معانيه والاهتداء به.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ} بما نقصُّ فيه من أخبار الماضين، وما نثيره من آيات العبرة، وما نحركه من المفاهيم العامة الحكيمة التي تبني لهم عقولهم، وتدير لهم حياتهم، ليخرجوا من أجواء الغفلة واللامبالاة، ليكون ذكرى لكل حياتهم، {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إنه السؤال الذي يطرح نفسه على كل فكر وشعورٍ ليهتز وليتذكر ولينفتح على الحقيقة الإلهية في كل مواقعها...
" ولقد يسرنا القرآن للذكر " أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر مأخوذ{[14465]} من يَسَّر ناقته للسفر : إذا رحلها ويَسَّر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ، قال :
وقمتُ إليه باللجام مُيَسِّراً *** هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القران . وقال غيره : ولم يكن هذا لبني إسرائيل ، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظرا ، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم ، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت ، على ما تقدم بيانه في سورة " التوبة{[14466]} " فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه ، أي يفتعلوا الذكر ، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب فيهم .
" فهل من مدكر " قارئ يقرؤه . وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب : فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه ، وكرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام . وقيل : إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين ، وما عاملتهم به الأمم ، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين{[14467]} ؛ فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر ، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله : " فهل من مذكر " لأن " هل " كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم ، فاللام من " هل " للاستعراض{[14468]} والهاء للاستخراج .
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي : يسرناه للحفظ وهذا معلوم بالمشاهدة فإنه يحفظه الأطفال الأصاغر وغيرهم حفظا بالغا بخلاف غيره من الكتب وقد روي : أنه لم يحفظ شيء من كتب الله عن ظهر قلب إلا القرآن ، وقيل : معنى الآية سهلناه للفهم والاتعاظ به لما تضمن من البراهين والحكم البليغة وإنما كرر هذه الآية البليغة وقوله فذوقوا عذابي ونذر لينبه السامع عند كل قصة فيعتبر بها إذ كل قصة من القصص التي ذكرت عبرة وموعظة فختم كل واحدة بما يوقظ السامع عند كل قصة فيعتبر بها إذ كل قصة من القصص التي ذكرت عبرة وموعظة فختم كل واحدة بما يوقظ السامع من الوعيد في قوله : { فكيف كان عذابي ونذر } ومن الملاطفة في قوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } .
ولما كان هذا التفصيل مما أنزل أول القرآن تيسيراً على الأمة ، نبه على ذلك بقوله : { ولقد يسرنا } أي على ما لنا من العظمة { القرآن } أي على ما له من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه صفة لنا { للذكر } أي الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والحفظ والتشريف لمن يراعيه ، قال ابن برجان : أنزلناه باللسان العربي وأنزلناه للأفهام تنزيلاً وخاطبناهم بعوائدهم وأعلمنا من قبل أعمالهم وأقبسناهم المعرفة واليقين من قبل ذواتهم وضربنا لهم الأمثال وأطلنا لهم في هذه الأعمال ليتذكروا الميثاق المأخوذ عليهم ، وقال القشيري : يسر قراءته على ألسنة قوم ، وعلمه على قلوب قوم ، وفهمه على قلوب قوم ، وحفظه على قلوب قوم ، وكلهم أهل القرآن وكلهم أهل الله وخاصته - انتهى . والآية ناظرة بالعطف والمعنى إلى { ولقد جاءهم من الأنباء } الآيتين ، فالمعنى أنا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها ، وبلاغات لا يهتدون إلى وجه معناها أصلاً لكننا لم نفعل ذلك بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به فكان في ذلك إعجازان : أحدهما أنه فوق بلاغتهم ، والثاني أنه مع علوه يشترك في أصل فهمه الذكي والغبي . ولما كان هذا القرآن العظيم الجامع ترجمة لأفعاله سبحانه في هذا الوجود الشاهد والغائب الذي أخبرنا عنه وشرحنا لما أنزل علينا من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعرف لنا بها ، وكان سبحانه قد جعل خلق الآدمي جامعاً ، فما من شيء من أفعاله إلا وفي نفسه منه أثر ظاهر ناظر للتفكر في القرآن والتعرف للأسرار منه بالتذكر الذي يكون . . . لما كان الإنسان يعرفه ثم نسيه حتى صار لا يستقل باستحضاره فإذا ذكر به ذكره ، فقال منبهاً على عظيم فعل العلم والقرآن الذي هو طريقه بالتكرار والتعبير بما هو من الذكر على أنه المحفوظ للإنسان بما هيأ له من تيسير أمره { فهل من مدكر * } قال البخاري في آخر صحيحه : قال مطر الوراق : هل من طالب علم فيعان عليه ، وقد تكررت هذه الموعظة في هذه السورة أربع مرات ، وذكرت الجملة الأخيرة منها منفكة عن تيسير القرآن مرتين : مرة في أول القصص وهي قصة نوح عليه السلام ، ومرة كما يأتي في آخرها ، وذلك عقب قصة فرعون وهو قوله : { فكيف كان عذابي ونذر } مثل ذلك ، وكررت { فبأي ألاء ربكما تكذبان } في الرحمن إحدى وثلاثين مرة ، فنظرت في سر ذلك فظهر لي - والله الهادي - أن الذي تقدم في سورة المفصل على هذه السورة أربع سور هذه السورة خاتمتها فأشير إلى التذكر بكل سورة منها حثاً على تدبرها بآية ختمت كلماتها بكلمة عادت حروفها في السور الخمس وأدغم حرف منها في آخر بعد قلب كل منهما ، فكانت هذه الكلمة التي مدلولها الذكر مشيرة إلى الحواس الخمس الظاهرة التي هي مبادئ العلم ، وكان ما في أول هذه المواعظ وآخرها لخلوه عن ذكر القرآن موازياً للحرفين اللذين طرفهما للوهن بالتعبير والقلب لكن كان الحرفان بالإدغام كحرف واحد ، كانت الجملتان الموازيتان لهما كآية واحدة من تلك الأربع ، وكان هذا الأول والآخر مشاراً به إلى هذه السورة التي جمعت التذكير بالسورة الأربع ، وأعريت عن ذكر تيسير القرآن لافتتاح السور بمحو وما يقرب من المحو وهو آية الليل والتيسير فيها والساعة التي هي أغيب الغيب ، وكل من فيها سوى الله محو صرف لسلب الأمر كله عنهم وخصت بها الأولى والآخرة لجامع بينهما من غرق العصاة في الماء ونجاة المطيعين بعضهم بالسفينة وبعضهم بنفس البحر الذي هو مسرح السفن ، وكانت الموعظة المذكور فيها القرآن في ختام قصة نوح عليه السلام مع عمومها لجميع القرآن إشارة إلى خصوص التذكير بسورة ق لما بينهما من جامع الإحاطة بإحاطة جبل ق بالأرض كلها وطوفان قوم نوح عليه السلام بعموم جميع الأرض والتي في سورة عاد إشارة إلى سورة الذاريات لأن كلاهم كان بالريح ، والتي في قصة ثمود إشارة إلى التذكير بالطور بجامع ما بينهما من الرج والرجف والذل والصعق ، أما في قصة ثمود فظاهر ، وأما في الطور فلما كان من دكه وصعق بني إسرائيل فيه ، وقد ذكر الصعق في آخر الطور ، وما في قصة لوط إشارة إلى النجم لأن مدائنهم ارتفعت إلى عنان السماء ثم أهويت وأتبعت الحجارة ، فلما كان الأمر هكذا ، وكانت النعم محيطة بالإنسان من جهاته الست ، فضربت الحواس الخمس في الجهات الست ، فكانت ثلاثين ، كأنه قيل : هل مدكر بهذا القرآن ، ولا سيما ما تقدم على هذه السورة منه في المفصل ما لله عليه من النعم في نفسه وفي الآفاق المشار إلى القسم الأول منها بمدكر وإلى الثاني بتكرير ذكر الآلاء فكل آية تكرير انتهى إلى العدد المخصوص وإلى المجموع بالمجموع ليعلم أن نعم الله محيطة به على وجه لا يقدر على صنعه إلا الله الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال التي أعظمها - من حيث كونه أساساً يبنى عليه - الوحدانية المنزهة عن الشركة فيخشى من معصيته أن يسلبه نعمه أو واحدة منها فلا يجد من يقوم بها ولا بشيء منها غيره أو يعذبه بشيء مثل عذاب هذه الأمم أو بغير ذلك مما له من إحاطة القدرة والعلم فلا يجد من يرد عنه شيئاً منه سبحانه ، وأما الواحد الزائد فهو إشارة إلى أن المدار في ذلك الإدراك هو العقل والحواس كما أن المقصود بذلك كله واحد وهو الله تعالى ، وكل هذه الأشياء أسباب لمعرفته وأيضاً فالواحد إشارة إلى أن زيادة الآلاء من فضل الله تعالى لا تنقطع كما أن الواحد الذي هو أصل العدد لا يزال ، فكلما أغنت زيادتها ابتدأ دور ثم ابتدأ دور آخر دائماً أبداً ، وللتكرير نكتة أخرى بديعة جداً ، وهي تأكيد التقرير دلالة على اشتداد الغضب المقتضي لأنهى العقوبة كما أن من اشتد غضبه من إنكار شخص لشيء من قتله إذا بينه غاية البيان بأمور متنوعة وهو يتمرد ويلد غاية اللدد يأخذه فيجمع له جمعاً لا يقدر على العدول عن الحق بحضرتهم .
وهو يذعن وهو في قبضته فيذكر تلك المعاني بين ذلك الجمع ، فيصير كلما ذكر له نوعاً منها بحضرتهم ، قال له : هل ظهر لك هذا ؟ فيقول ذاك المنكر : نعم ظهر لي ، فلا يريد ذلك إلا غضباً لما تقدم له من عظيم غضبه ولدده فيذكر له معنى آخر ثم يقول : هل ظهر لك هذا ؟ فيقول : نعم والله لا يعرج على اعترافه ذلك ويذكر له نوعاً آخر ، ويقول مثل ذلك يريد الزيادة في تبكيته وتخجيله ، وهكذا إلى أن يشتفي - كل ذلك للتنبيه على لدده وكفاية كل نوع منها لما أريد منه من البيان ، وقال في الكشاف : فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين أدكاراً واتعاظاً وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث عليه والبعث على ذلك كله وأن يقرع لهم العصى مرات ويقعقع لهم السن تارات ، لئلا يغلبهم السهود ويستولي عليهم حكم الغفلة ، وهكذا حكم التكريرات لتكون العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية في أوان - انتهى ، ولمثل ما مضى أو قريب منه كرر التهويل بالعذاب ست مرات : أربع منها { فكيف كان عذابي ونذر } واثنان منها { فذوقوا عذابي ونذر } فهما بمنزلة واحدة من الأربع ليرجع الست إلى الخمس الدال عليها { مدكر } إشارة إلى أن الحواس الخمس كما ضربت في الجهات الست لأجل النعم التي هي جلب المصالح ضربت فيها للتذكير بدفع النقم الذي هو درأ المفاسد والتحذير منها ، ومن فوائد تكرر الست الراجعة إلى الخمس مرتين : مرة لجلب النعم وأخرى لدفع النقم أن الحواس مكررة ظاهراً وباطناً ، فمن ذل لسانه بالقرآن ظاهراً صحت حواسه الظاهرة ونورت له الباطنة ، ومن أبى عذب بسبب الباطنة فتفسد الظاهرة ، واختير للموعظتين عدد الست مع إرادة جماعة إلى خمس لأن الست عدد تام وذلك لأن عدد كسورها إذا جمعت سادتها ولم تزد عنها ولم تنقص وهي النصف والثلث والسدس ، وهذا العدد مساو لدعائم الإسلام الخمس وحظيرته الجهاد التي هي عماد تقوى المتقين أهل مقعد الصدق الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله المشار به إلى الصيام
كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم }[ البقرة : 183 ] والحج
{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً }[ البقرة : 125 ] والجهاد
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة }[ البقرة : 214 ] إلى قوله :
{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم }[ البقرة :216 ] وذلك إشارة إلى أن هذا الدين تام لا زيادة فيه ولا نقص لأن النبي الذي أرسل ختام الأنبياء ، وتمام الرسل الأصفياء . ولما كان قوم عاد قد تكبروا بشدتهم وقوتهم ، وكانت حال قريش قريبة من ذلك لقولهم إنهم أمنع العرب وأقواهم وأجمعهم للكمالات وأعلاهم ، كرر ذلك في قصتهم مرتين زيادة في تذكير قريش وتحذيرهم ولا سيما وقد كان بدء عذابهم من بلدهم مكة المشرفة كما هو مشروح في قصتهم ، وكرر الأمر بالذوق في قصة لوط عليه السلام لأنهم عذبوا بما يردع من كان له قلب بالطمس ، فلما لم ينفعهم ذلك أتاهم أكبر منه فكانوا كأمس الدابر ، فلكل مرة من العذاب من الأمر بالذوق ، وخصوا بالأمر بالذوق لما في فاحشتهم الخبيثة ما يستلذونه ، وقد عم عذاب هذه الأمم جميع الجهات بما لقوم نوح ولوط عليهما السلام من جهة الغرق بالماء الماطر وحجارة السجيل ومن البحث من الماء النابع والخسف ، وما في عموم عذابهم من استغراق بقية الجهات - والله الهادي .
قوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي سهلنا القرآن وجعلناه هينا ميسورا { للذكر } لمن أراد أن يتذكر ويعتبر بما فيه من الآيات والبينات والعبر فإنه لا يسلك سبيل القرآن الحكيم فيتبع منهجه وأحكامه وهداه إلا الراشدون المهتدون الذين كتب الله لهم السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة{[4403]} .