سورة الحجر سورة مكية وهي تشتمل علي تسع وتسعين آية ، ابتدأت بالحروف الصوتية تنبيها إلي أن القرآن مكون من الحروف التي تتكون منها كلماتكم ، ومع ذلك كان معجزا لكم ، لأن منزله هو الله سبحانه وتعالى وتتكون تلك الحروف بأصواتها الممدودة تنبيها للمعرضين عن القرآن الذي يدعوهم إلي الاستماع ، فعساهم ينتفعون ويهديهم الله تعالى .
والسورة الكريمة تبين العبر بما نزل بالأمم السابقة ، والإشارة إلي أخبار الأنبياء السابقين ، وما لقيتهم به أممهم ، وتشير إلي آيات الله في الكون من سماء مرفوعة ذات بروج محفوظة ، وأرض ممهدة مبسوطة ، وجبال راسيات ، ورياح حاملة للماء ، وما يلقح الأشجار ، وتشير إلي المعركة الأولي في الخليقة بين إبليس اللعين وآدم وزوجه ، واستمرار هذه المعركة بين الخير والشر إلي أن تنتهي هذه الدنيا ، ثم عاقبة الشر يوم القيامة ، وعاقبة الخير ، وبعد ذلك قص الله سبحانه قصص النبيين إبراهيم ولوط ، وأصحاب الحجر ، وتشير إلي منزلة القرآن وحال المشركين في تلقيه ، وما يجب علي النبي إزاء جحودهم وهو أن يعلن رسالته ويجهر بها ، ويعبد الله حتى يأتيه الأمر اليقين .
القول في تأويل قوله تعالى : { الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مّبِينٍ } .
أما قوله جلّ ثناؤه ، وتقدّست أسماؤه الر ، فقد تقدم بيانها فيما مضى قبل . وأما قوله : تِلْكَ آياتُ الكِتابِ فإنه يعني : هذه الاَيات ، آيات الكتب التي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل . وقُرآنٍ يقول : وآيات قرآن مُبِينٍ يقول : يُبِين من تأمله وتدبّره رشدَه وهداه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقُرآنٍ مُبِينٍ قال : تبين والله هداه ورشده وخيره .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : الر فواتح يفتتح بها كلامه . تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال : التوراة والإنجيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله : الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال : الكتُب التي كانت قبل القرآن .
سميت هذه السورة الحجر ، ولا يعرف لها اسم غيره . ووجه التسمية أن اسم الحجر لم يذكر في غيرها .
والحجر اسم البلاد المعروفة به وهو حجر ثمود . وثمود هم أصحاب الحجر . وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى { ولقد كذب أصحاب الحجر } . والمكتبون في كتاتيب تونس يدعونها سورة { ربما } لأن كلمة { ربما } لم تقع في القرآن كله إلا في أول هذه السورة .
وهي مكية كلها وحكي الاتفاق عليه .
وعن الحسن استثناء قوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } بناء على أن سبعا من المثاني هي سورة الفاتحة وعلى أنها مدنية . وهذا لا يصح لأن الأصح أن الفاتحة مكية .
واستثناء قوله تعالى { كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين } بناء على تفسيرهم { المقتسمين } بأهل الكتاب وهو صحيح ، وتفسير { جعلوا القرآن عضين } أنهم قالوا : ما وافق منه كتابنا فهو صدق وما خالف كتابنا فهو كذب . ولم يقل ذلك إلا يهود المدينة ، وهذا لا نصححه كما نبينه عند الكلام على تلك الآية .
ولو سلم هذا التفسير من جهتيه فقد يكون لأن اليهود سمعوا القرآن قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل فقالوا ذلك حينئذ ، على أنه قد روي أن قريشا لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم استشاروا في أمره يهود المدينة .
وقال في الاتفاق ينبغي استثناء قوله { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة اهـ .
وهو يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي من طريق نوح بن قيس الجذامي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر أي من صفوف الرجال فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } . قال الترمذي ورواه جعفر بن سليمان ولم يذكر ابن عباس . وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح اهـ . وهذا توهين لطريق نوح .
قال ابن كثير في تفسيره : وهذا الحديث فيه نكارة شديدة . والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر ، فلا اعتماد إلا على حديث جعفر بن سليمان وهو مقطوع .
وعلى تصحيح أنها مكية فقد عدت الرابعة والخمسين في عدد نزول السور ؛ نزلت بعد سورة يوسف وقبل سورة الأنعام .
ومن العجيب اختلافهم في وقت نزول هذه السورة وهي مشتملة على آية { فاصدع بما تؤمر } وقد نزلت عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم في آخر السنة الرابعة من بعثته .
وعدد آيها تسع وتسعون باتفاق العادين .
افتتحت بالحروف المقطعة التي فيها تعريض بالتحدي بأعجاز القرآن .
وعلى التنويه بفضل القرآن وهديه .
وإنذار المشركين بندم يندمونه على عدم إسلامهم .
وتوبيخهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسهم في شهواتهم .
وإنذارهم بالهلاك عند حلول إبان الوعيد الذي عينه الله في علمه .
وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم إيمان من لم يؤمنوا ، وما يقولونه في شأنه وما يتوركون بطلبه منه ، وأن تلك عادة المكذبين مع رسلهم .
وأنهم لا تجدي فيهم الآيات والنذر لو أسعفوا بمجيء آيات حسب اقتراحهم به وأن الله حافظ كتابه من كيدهم .
ثم إقامة الحجة عليهم بعظيم صنع الله وما فيه من نعم عليهم .
وانتقل إلى خلق نوع الإنسان وما شرف الله به هذا النوع .
ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر .
وختمت بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وانتظار ساعة النصر ، وأن يصفح عن الذين يؤذونه ، ويكل أمرهم إلى الله ، ويشتغل بالمؤمنين ، وأن الله كافيه أعداءه .
مع ما تخلل ذلك من الاعتراض والإدماج من ذكر خلق الجن ، واستراقهم السمع ، ووصف أحوال المتقين ، والترغيب في المغفرة ، والترهيب من العذاب .
تقدم الكلام على نظير فاتحة هذه السورة في أول سورة يونس .
وتقدم في أول سورة البقرة ما في مثل هذه الفواتح من إعلان التحديد بإعجاز القرآن .
{ تلك ءايات الكتاب وقرآن مبين }
الإشارة إلى ما هو معروف قبل هذه السورة من مقدار ما نزل بالقرآن ، أي الآيات المعروفة عندكم المتميزة لديكم تميزاً كتميز الشيء الذي تمكن الإشارة إليه هي آيات الكتاب . وهذه الإشارة لتنزيل آيات القرآن منزلة الحاضر المشاهد .
و { الكتاب } علم بالغلبة على القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للهدى والإرشاد إلى الشريعة . وسمي كتاباً لأنهم مأمورون بكتابة ما ينزل منه لحفظه ومُراجعته ؛ فقد سمي القرآن كتاباً قبل أن يُكتب ويجمع لأنه بحيث يكون كتاباً .
ووقعت هذه الآية في مفتتح تهديد المكذبين بالقرآن لقصد الإعذار إليهم باستدعائهم للنظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة دينه .
ولمّا كان أصل التعريف باللام في الاسم المجعول علماً بالغلبة جائياً من التوسل بحرف التعريف إلى الدلالة على معنى كمالِ الجنس في المعرف به لم ينقطع عن العلَم بالغلَبة أنه فائق في جنسه بمعونة المقام ، فاقتضى أن تلك الآيات هي آيات كتاب بالغ منتهى كمال جنسه ، أي من كتب الشرائع .
وعطف { وقرآن } على { الكتاب } لأن اسم القرآن جعل علماً على ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتشريع ، فهو الاسم العلَم لكتاب الإسلام مثل اسم التوراة والإنجيل والزبور للكتب المشتهرة بتلك الأسماء .
فاسم القرآن أرسخ في التعريف به من الكتاب لأن العلَم الأصلي أدخل في تعريف المسمى من العلَم بالغلبة ، فسواء نكّر لفظ القرآن أو عرف باللام فهو علم على كتاب الإسلام . فإن نكّر فتنكيره على أصل الأعلام ، وإن عُرّف فتعريفه لِلَمْح الأصل قبل العلمية كتعريف الأعلام المنقولة من أسماء الفاعلين لأن « القرآن » منقول من المصدر الدال على القراءة ، أي المقروء الذي إذا قرىء فهو منتهى القراءة .
وفي التسمية بالمصدر من معنى قوة الاتصاف بمادة المصدر ما هو معلوم .
وللإشارة إلى ما في كل من العلمين من معنى ليس في العلم الآخر حسن الجمع بينهما بطريق العطف ، وهو من عطف ما يعبر عنه بعطف التفسير لأن « قرآن » بمنزلة عطف البيان من « كتاب » وهو شبيه بعطف الصفة على الموصوف ومَا هو منه ، ولكنه أشبهه لأن المعطوف متبوع بوصف وهو { مبين } . وهذا كله اعتبار بالمعنى .
وابتُدىء بالمعرّف باللام لما في التعريف من إيذان بالشهرة والوضوح وما فيه من الدلالة على معنى الكمال ، ولأن المعرّف هو أصل الإخبار والأوصاف . ثم جيء بالمنكر لأنه أريد وصفه بالمبين ، والمنكّر أنسب بإجراء الأوصاف عليه ، ولأن التنكير يدل على التفخيم والتعظيم ، فوزعت الدلالتان على نكتة التعريف ونكتة التنكير .
فأما تقديم الكتاب على القرآن في الذكر فلأن سياق الكلام توبيخ الكافرين وتهديدهم بأنهم سيجيء وقت يتمنون فيه أن لو كانوا مؤمنين . فلما كان الكلام موجهاً إلى المنكرين ناسب أن يستحضر المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم بعنوانه الأعم وهو كونه كتاباً ، لأنهم حين جادلوا ما جادلوا إلا في كتاب فقالوا : { لَوْ أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 157 ] ولأنهم يعرفون ما عند الأمم الآخرين بعنوان كتاب ، ويعرفونهم بعنوان أهل الكتاب .
فأما عنوان القرآن فهو مناسب لكون الكتاب مقروءاً مدروساً وإنما يقرأه ويدرسه المؤمنون به . ولذلك قدم عنوان القرآن في سورة النمل كما سيأتي .
والمبين : اسم فاعل من أبان القاصر الذي هو بمعنى بَان مبالغة في ظهوره ، أي ظهور قُرآنيته العظيمة ، أي ظهور إعجازه الذي تحققه المعاندون وغيرهم .
وإنما لم نجعل المبين بمعنى أبان المتعدي لأن كونه بيّنا في نفسه أشد في توبيخ منكريه من وصفه بأنه مظهر لما اشتمل عليه . وسيجيء قريب من هذه الآية في أول سورة النمل .