104- يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم من هؤلاء اليهود فلا تقولوا للرسول حينما يتلوا عليكم الوحي : { راعنا } قاصدين أن يجعلكم موضع رعايته ، ويتمهل عليكم في تلاوته حتى تعوه وتحفظوه ، لأن خبثاء اليهود يتظاهرون بمحاكاتكم في ذلك ، ويلوون ألسنتهم بهذه الكلمة حتى تصير مطابقة لكلمة سباب يعرفونها ويوجهونها للرسول ليسخروا منه فيما بينهم ، ولكن استخدموا كلمة أخرى لا يجد اليهود فيها مجالا لخبثهم وسخريتهم : فقولوا : { انظرنا } وأحسنوا الإصغاء إلى ما يتلوه عليكم الرسول ، وأن الله ليدخر يوم القيامة عذاباً أليماً لهؤلاء المستهزئين بالرسول .
{ يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا فقال بعضهم : تأويله لا تقولوا خلافا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } قال : لا تقولوا خلافا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } لا تقولوا خلافا .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : تأويله : أرعنا سمعك : أي اسمع منا ونسمع منك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : { رَاعِنَا } أي أَرْعِنَا سمعك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جلّ وعزّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك .
وحدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رَاعِنا } قال : كان الرجل من المشركين يقول : أرْعني سمعك .
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا راعنا ، فقال بعضهم : هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبّة ، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا } قولٌ كانت تقوله اليهود استهزاءً ، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : { لا تَقُولُوا رَاعِنا } قال : كان أناس من اليهود يقولون : أرعنا سمعك ، حتى قالها أناس من المسلمين . فكره الله لهم ما قالت اليهود ، فقال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } كما قالت اليهود والنصارى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لا تَقُولوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } قال : كانوا يقولون راعنا سمعك ، فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين ، فقال الله : { لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا }قال : كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عَاطِنَا .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا } قال : راعنا القول الذي قاله القوم قَالُوا { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بألسِنَتِهِمْ وَطَعْنَا في الدّينِ } قال : قال هذا الراعن ، والراعن : الخطّاء . قال : فقال للمؤمنين : لا تقولوا خطاء كما قال القوم وقولوا انظرنا واسمعوا ، قال : كانوا ينظرون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ويكلمونه ويسمع منهم ، ويسألونه ويجيبهم .
وقال آخرون : بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها ، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثني هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن عطاء في قوله : { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } قال : كانت لغة في الأنصار في الجاهلية ، فنزلت هذه الآية : { لا تَقُولُوا رَاعِنا وَلكن قُولُوا انْظُرْنَا }إلى آخر الآية .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } قال : كانت لغة في الأنصار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا }قال : إن مشركي العرب كانوا إذا حدّث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه : أَرْعني سمعك فنهوا عن ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، راعنا قول الساخر ، فنهاهم أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه يقال له رفاعة بن زيد ، كان يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم به على وجه السبّ له ، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه ، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا }كان رجل من اليهود من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع كان يُدْعَى رفاعة بن زيد بن السائب .
قال أبو جعفر : هذا خطأ إنما هو ابن التابوت ليس ابن السائب كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك واسمع غير مسمع . فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخّم بهذا ، فكان ناس منهم يقولون : اسمع غير مسمع ، كقولك اسمع غير صاغر ، وهي التي في النساء : { مِنَ الّذِينَ هَادُوا يحَرّفُونَ الكَلمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ } يقول : إنما يريد بقوله : طَعْنا فِي الدّينِ . ثم تقدم إلى المؤمنين فقال : لا تقولوا راعنا .
والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيه : راعنا ، أن يقال إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لاَ تَقُولُوا للعِنَبِ الكَرْمَ ولَكِنْ قُولُوا الحَبلَة » ، و«لا تَقُولُوا عبْدِي وَلَكِنْ قُولُوا فَتَايَ » وما أشبه ذلك من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب ، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما واختيار الأخرى عليها في المخاطبات .
فإن قال لنا قائل : فإنا قد علمنا معنى نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم في العنب أن يقال له كرم ، وفي العبد أن يقال له عبد ، فما المعنى الذي في قوله : راعِنا حينئذٍ الذي من أجله كان النهي من الله جل ثناؤه للمؤمنين عن أن يقولوه ، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله : انْظُرْنا ؟ قيل : الذي فيه من ذلك ، نظير الذي في قول القائل الكرم للعنب ، والعبد للمملوك ، وذلك أن قول القائل عبدي ، لجميع عباد الله ، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يضاف بعض عباد الله ، بمعنى العبودية إلى غير الله ، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عزّ وجل ، فيقال : فتاي . وكذلك وجه نهيه في العنب أن يقال كرما خوفا من توهم وصفه بالكرم ، وإن كانت مسكّنة ، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد ، فكره أن يتصف بذلك العنب . فكذلك نهى الله عزّ وجل المؤمنين أن يقولوا «راعنا » ، لما كان قول القائل «راعنا » محتملاً أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك وارقبنا ونرقبك ، من قول العرب بعضهم لبعض : رعاك الله بمعنى حفظك الله وكلأك . ومحتملاً أن يكون بمعنى أرعنا سمعك ، من قولهم : أرعيت سمعي إرعاءً ، أو راعيته سمعي رعاء أو مراعاة ، بمعنى : فرّغته لسماع كلامه . كما قال الأعشى ميمون بن قيس :
يَرْعَى إلى قَوْلِ ساداتِ الرّجالِ إذَا أبْدَوْا لَهُ الحَزْمَ أوْ مَا شَاءهُ ابْتَدعَا .
يعني بقوله يرعى : يصغي بسمعه إليه مُفْرِغَهُ لذلك .
وكأن الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ، حتى نهاهم جلّ ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقوْل كجهر بعضهم لبعض وخوّفهم على ذلك حبوط أعمالهم ، فتقدّم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء ، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها ، ومن المعاني أرقها ، فكان من ذلك قولهم : راعِنا لِمَا فِيهِ من احتمال معنى ارعنا نرعاك ، إذْ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين ، كما يقول القائل : عاطنا وحادثنا وجالسنا ، بمعنى افعل بنا ونفعل بك . ومعنى أرعنا سمعك حتى نفهمك وتفهم عنا . فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم ، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له ، ولا بالفظاظة والغلظة ، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بقولهم له : اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنا . يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك قوله : { مَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أنْ يُنْزّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبّكُمْ } فدلّ بذلك أن الذي عاتبهم عليه مما يسرّ اليهود والمشركين .
فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله : رَاعِنا أنه بمعنى خلافا ، فمما لا يعقل في كلام العرب لأن «راعيت » في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين : أحدهما بمعنى فاعلت من «الرّعْية » ، وهي الرّقْبة والكلاءة . والاَخر بمعنى إفراغ السمع ، بمعنى أرعيته سمعي . وأما «راعيت » بمعنى «خالفت » ، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب ، إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد ، فيكون لذلك وإن كان مخالفا قراءة القراء معنى مفهوم حينئذٍ .
وأما القول الاَخر الذي حكي عن عطية ومن حَكَى ذلك عنه ، أن قوله : رَاعِنا كانت كلمة لليهود بمعنى السبّ والسخرية ، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم ، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي هي عند اليهود سبّ ، وهي عند العرب : أرْعنِي سمعك وفرّغه لتفهم عني . فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب ، فنهى الله عزّ وجلّ المؤمنين عن قيلها للنبيّ صلى الله عليه وسلم لئلا يجترىء من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به . وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك من الوجه الذي تقوم به الحجة . وإذْ كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا ، إذْ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره .
وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : «لا تَقُولُوا رَاعِنا » بالتنوين ، بمعنى : لا تقولوا قولاً راعنا ، من الرعونة وهي الحمق والجهل . وهذه قراءة لقراءة المسلمين مخالفة ، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين ، وخلافها ما جاءت به الحجة من المسلمين . ومن نوّن «راعنا » نوّنه بقوله : لا تَقُولُوا لأنه حينئذٍ عامل فيه . ومن لم ينوّنه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر محكيّ لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : راعِنا بمعنى مسألته إما أن يرعيهم سمعه ، وإما أن يرعاهم ويرقبهم على ما قد بينت فيما قد مضى فقيل لهم : لا تقولوا في مسألتكم إياه راعنا . فتكون الدلالة على معنى الأمر في «راعنا » حينئذٍ سقوط الياء التي كانت تكون في «يراعيه » . ويدلّ عليها أعني على الياء الساقطة كسرة العين من «راعنا » . وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود : «لا تقولوا راعونا » بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم . فإن كان ذلك من قراءته صحيحا وُجّه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا ، كان خطابهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لغيره ، ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصحّ منه الأخبار .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا انْظُرْنا .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَقُولُوا انْظُرْنَا } وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم : انتظرنا وارقبنا نفهم ونتبين ما تقول لنا وتعلمنا . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَقُولُوا انْظُرْنَا } فهّمْنا بيّنْ لنا يا محمد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَقُولُوا انْظُرْنَا } فَهّمنا بيّن لنا يا محمد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
يقال منه : نظرت الرجل أنظره نظرة بمعنى انتظرته ورقبته . ومنه قول الحطيئة :
وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أعْشاءَ صَادِرَةٍ *** للخمْسِ طالَ بِها حَوْزي وتَنْسَاسي
ومنه قول الله عز وجل : { يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ للّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } يعني به انتظرونا . وقد قرىء «أنْظِرنا » بقطع الألف في الموضعين جميعا ، فمن قرأ ذلك كذلك أراد أَخّرنا ، كما قال الله جل ثناؤه : { قَالَ رَبّ فأنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي أخّرني . ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أُمروا بالدنوّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستماع منه وإلطاف الخطاب له وخفض الجناح ، لا بالتأخر عنه ولا بمسألته تأخيرهم عنه . فالصواب إن كان ذلك كذلك من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله : انْظُرْنا ولم يقطعها بمعنى انتظرنا .
وقد قيل : إن معنى «أَنْظِرنا » بقطع الألف بمعنى «أمهلنا » ، حكي عن بعض العرب سماعا : أنظرني أكلمك وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه ، فأخبره أنه أراد أمهلني . فإن يكن ذلك صحيحا عنهم ف«انْظُرْنا » و«أنْظِرْنا » بقطع الألف ووصلها متقاربا المعنى . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن القراءة التي لا أستجيز غيرها قراءة من قرأ : وَقُولُوا انْظُرْنا بوصل الألف بمعنى انتظرنا ، لإجماع الحجة على تصويبها ورفضهم غيرها من القراءات .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسمَعُوا وللْكافِرِينَ عَذَابٌ ألِيمٌ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { واسمَعُوا } واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم وعوه وافهموه . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : واسمَعُوا اسمعوا ما يقال لكم .
فمعنى الآية إذا : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم راعنا سمعك وفرّغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول ، ولكن قولوا انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا ، واسمعوا منه ما يقول لكم فعوه واحفظوه وافهموه . ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته وخالف أمره ونهيه وكذب رسوله العذاب الموجع في الاَخرة ، فقال : وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم ، يعني بقوله الأليم : الموجع . وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل وما فيه من الاَثار .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }( 104 )
وقرأ جمهور الناس «راعِنا » من المراعاة بمعنى فاعلنا( {[1048]} ) أي أرعنا نرعك ، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه ، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره وتوقيره ، فقال من ذهب إلى هذا المعنى إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه العلة ، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على التأويل ، بل هو نهي عن كل مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم : وقالت طائفة : هي لغة كانت الأنصار تقولها ، فقالها رفاعة( {[1049]} ) بن زيد بن التابوت للنبي صلى الله عليه وسلم ليّاً بلسانه وطعناً كما كان يقول : اسمع غير مسمع ، فنهى الله المؤمنين أن تقال هذه اللفظة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير ، بل هي لغة لجميع العرب فاعل من المراعاة . فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة ، يظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل ، وحكى المهدوي عن قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحاً ؛ وليس في هذه الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً( {[1050]} ) . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة «راعناً » بالتنوين( {[1051]} ) ، وهذه من معنى الجهل ، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة( {[1052]} ) لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور ، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا » دون تنوين ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا » ، وهي شاذة ، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم كما تخاطب الجماعة ، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولاً من الرعونة .
و { انظُرنا } مضمومة الألف والظاء معناها انتظرنا وأمهل علينا ، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر ، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين ، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال( {[1053]} ) ، وهذا هو معنى { راعنا } ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود ، وقرأ الأعمش وغيره «أنظِرنا » بقطع الألف وكسر الظاء بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك .
ولما نهى الله تعالى في هذه الآية وأمر ، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة( {[1054]} ) ، واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذاباً أليماً ، وهو المؤلم ، { واسمعوا } معطوف على { قولوا } لا على معمولها .
يتعين في مثل هذه الآية{[154]} تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها ، فإن النهي عن أن يقول المؤمنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لا بد أن يكون لسبب ، وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبيء صلى الله عليه وسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له راعنا يا رسول الله أي لا تتحرج منا وارفق وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبيء صلى الله عليه وسلم في خلواتهم سراً وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية ومعناها في العبرانية سب ، وقيل معناها لا سمعت ، دعاء فقال بعضهم لبعض : كنا نسب محمداً سرّاً فأعلنوا به الآن أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالرعونة وسيأتي ، فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم .
ومناسبة نزول هاته الآية عقب الآيات المتقدمة في السحر وما نشأ عن ذمه ، أن السحر كما قدمنا راجع إلى التمويه ، وأن من ضروب السحر ما هو تمويه ألفاظ وما مبناه على اعتقاد تأثير الألفاظ في المسحور بحسب نية الساحر وتوجهه النفسي إلى المسحور ، وقد تأصل هذا عند اليهود واقتنعوا به في مقاومة أعدائهم . ولما كان أذى الشخص بقول أو فعل لا يعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم منه أذى ، أو كإهانة صورته أو الوطء على ظله ، كل ذلك راجعاً إلى الاكتفاء بالنية والتوجه في حصول الأذى ، كان هذا شبيهاً ببعض ضروب السحر ولذلك كان من شعار من استهواهم السحر واشتروه ناسب ذكر هاته الحالة من أحوالهم عقب الكلام على افتتانهم بالسحر وحبه دون بقية ما تقدم من أحوالهم وهاته المناسبة هي موجب التعقيب في الذكر .
وإنما فصلت هذه الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه . وقد كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح بالنداء والتنبيه ونحوه نحو { يا أيها الناس } ويا زيد وألا ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن يعتبر افتتاح كلام بحيث لا يعطف إلا بالفاء إذا كان مترتباً عما قبله لأن العطف بالفاء بعيد عن العطف بالواو وأوسع من جهة التناسب .
و { راعنا } أمر من راعاه يراعيه وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه بنظره من الهلاك والتلف وراعى مثل رعى قال طرفة : * خذول تراعى ربربا بخميلة * وأطلق مجازاً على حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية ومنه رعاك الله ورعى ذمامه ، فقول المسلمين للنبيء صلى الله عليه وسلم ( راعنا ) هو فعل طلب من الرعي بالمعنى المجازي أي الرفق والمراقبة أي لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا .
وقوله : { وقولوا انظرنا } أبدلهم بقولهم : { راعنا } كلمة تساويها في الحقيقة والمجاز وعدد الحروف والمقصود من غير أن يتذرع بها الكفار لأذى النبيء صلى الله عليه وسلم وهذا من أبدع البلاغة فإنَّ نَظَرَ في الحقيقة بمعنى حَرَسَ وصار مجازاً على تدبير المصالح ، ومنه قول الفقهاء هذا من النظر ، والمقصود منه الرفق والمراقبة في التيسير فيتعين أن قوله : { انظرنا } بضم همزة الوصل وضم الظاء وأنه من النظر لا من الانتظار .
وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه وهو من أصول المذهب المالكي يلقب بسد الذرائع وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور .
وقوله تعالى : { واسمعوا } أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا إلى طلب المراعاة أوالنظر وقيل : أراد من ( اسمعوا ) امتثلوا لأوامر الرسول قاله ابن عطية وهو أظهر .
وقوله : { وللكافرين عذاب أليم } التعريف للعهد . والمراد بالكافرين اليهود خاصة أي تأدبوا أنتم مع الرسول ولا تتأسوا باليهود في أقوالهم : فلهم عذاب أليم ، والتعبير بالكافرين دون اليهود زيادة في ذمهم . وليس هنا من التذييل لأن الكلام السابق مع المؤمنين فلا يصلح ما بعده من تعميم حكم الكافرين لتذييل ما قبله .