البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (104)

الرعاية والمراعاة : النظر في مصالح الإنسان وتدبير أموره .

والرعونة والرعن : الجهل والهوج .

{ يا أيها الذين آمنوا } : هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة ، بالنداء الدال على الإقبال عليهم ، وذلك أن أول نداء جاء أتى عامًّا : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } وثاني نداء أتى خاصاً : { يا بني إسرائيل اذكروا } وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين : اليهودية والنصرانية ، وثالث نداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنين .

فكان أول نداء عامًّا ، أمروا فيه بأصل الإسلام ، وهو عبادة الله .

وثاني نداء ، ذكروا فيه بالنعم الجزيلة ، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة ، وخوّفوا من حلول النقم الوبيلة وثالث نداء : علموا فيه أدباً من آداب الشريعة مع نبيهم ، إذ قد حصلت لهم عبادة الله ، والتذكير بالنعم ، والتخويف من النقم ، والاتعاظ بمن سبق من الأمم ، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل ، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه .

والتبجيل والخطاب بيا أيها الذين آمنوا متوجه إلى من بالمدينة من المؤمنين ، قيل : ويحتمل أن يكون إلى كل مؤمن في عصره .

وروي عن ابن عباس : أنه حيث جاء هذا الخطاب ، فالمراد به أهل المدينة ، وحيث ورد يا أيها الناس ، فالمراد أهل مكة .

{ لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } : بدئ بالنهي ، لأنه من باب التروك ، فهو أسهل .

ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس ، قبل بالنهي .

ثم لم يكن نهياً عن شيء سبق تحريمه ، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالباً ، فصار المعنى : ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك ، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم نهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة ، وأمروا بأن يقولوا : انظرنا ، إذ هو فعل من النبي صلى الله عليه وسلم ، لا مشاركة لهم فيه معه .

وقراءة الجمهور : راعنا .

وفي مصحف عبد الله وقراءته ، وقراءة أبي : راعونا ، على إسناد الفعل لضمير الجمع .

وذكر أيضاً أن في مصحف عبد الله : ارعونا .

خاطبوه بذلك إكباراً وتعظيماً ، إذ أقاموه مقام الجمع .

وتضمن هذا النهي ، النهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم .

وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو حياة ، وابن محيصن : راعنا بالتنوين ، جعله صفة لمصدر محذوف ، أي قولاً راعناً ، وهو على طريق النسب كلابن وتامر .

لما كان القول سبباً في السبب ، اتصف بالرعن ، فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه ، أو يوهم شيئاً من الغض ، مما يستحقه صلى الله عليه وسلم من التعظيم وتلطيف القول وأدبه .

وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك ، إذ خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرعونة ، وكذا قيل في راعونا ، إنه فاعولاً من الرعونة ، كعاشورا .

وقيل : كانت لليهود كلمة عبرانية ، أو سريانية يتسابون بها وهي : راعينا ، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا ، اقترضوه وخاطبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يعنون تلك المسبة ، فنهي المؤمنون عنها ، وأمروا بما هو في معناها .

ومن زعم أن راعنا لغة مختصة بالأنصار ، فليس قوله بشيء ، لأن ذلك محفوظ في جميع لغة العرب .

وكذلك قول من قال : إن هذه الآية ناسخة لفعل قد كان مباحاً ، لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً قبل .

وقيل في سبب نزولها غير ذلك .

وبالجملة ، فهي كما قال محمد بن جرير : كلمة كرهها الله أن يخاطب بها نبيه ، كما قال صلى الله عليه وسلم :

« لا تقولوا عبدي وأمتي وقولوا فتاي وفتاتي ولا تسموا العنب الكرم » وذكر في النهي وجوه : إن معناها اسمع لا سمعت ، أو إن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند المفر ، قاله قطرب ، أو أن اليهود كانوا يقولون : راعينا أي راعي غنمنا ، أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة ، أو معناه راع كلامنا ولا تغفل عنه ، أو لأنه يتوهم أنه من الرعونة .

وقوله : انظرنا ، قراءة الجمهور ، موصول الهمزة ، مضموم الظاء ، من النظرة ، وهي التأخير ، أي انتظرنا وتأنّ علينا ، نحو قوله :

فإنكما إن تنظراني ساعة***

من الدهر تنفعني لدى أم جندب

أو من النظر ، واتسع في الفعل فعدى بنفسه ، وأصله أن يتعدى بإلى ، كما قال الشاعر :

ظاهرات الجمال والحسن ينظر***

ن كما ينظر الأراك الظباء

يريد : إلى الأراك ، ومعناه : تفقدنا بنظرك .

وقال مجاهد : معناه فهمنا وبين لنا ، فسر باللازم في الأصل ، وهو انظر ، لأنه يلزم من الرفق والإمهال على السائل ، والتأني به أن يفهم بذلك .

وقيل : هو من نظر البصيرة بالتفكر والتدبر فيما يصلح للمنظور فيه ، فاتسع في الفعل أيضاً ، إذ أصله أن يتعدى بفي ، ويكون أيضاً على حذف مضاف ، أي انظر في أمرنا .

قال ابن عطية : وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال ، وهذا هو معنى : راعنا ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ، ليزول تعلق اليهود . انتهى .

وقرأ أبي والأعمش : أنظرنا ، بقطع الهمزة وكسر الظاء ، من الإنظار ، ومعناه : أخرنا وأمهلنا حتى نتلقى عنك .

وهذه القراءة تشهد للقول الأول في قراءة الجمهور .

{ واسمعوا } : أي سماع قبول وطاعة .

وقيل : معناه اقبلوا .

وقيل : فرغوا أسماعكم حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة .

وقيل : اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا تعودون إليه .

أكد عليهم ترك تلك الكلمة .

وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، فوالذي نفسي بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه .

{ وللكافرين عذاب أليم } : ظاهره العموم ، فيدخل فيه اليهود .

وقيل : المراد به اليهود ، أي ولليهود الذين تهاونوا بالرسول وسبوه .

/خ113