فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (104)

قوله : { رَاعِنَا } أي : راقبنا ، واحفظنا ، وصيغة المفاعلة تدل على أن معنى { رَاعِنَا } : ارعنا ونرعاك ، واحفظنا ونحفظك ، وارقبنا ونرقبك ، ويجوز أن يكون من : أرعنا سمعك ، أي : فرغه لكلامنا ، وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سباً ، قيل إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت ؛ وقيل غير ذلك ، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم راعنا ؛ طلباً منه أن يراعيهم من المراعاة ، اغتنموا الفرصة ، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي ، مبطنين أنهم يقصدون السبّ الذي هو : معنى هذا اللفظ في لغتهم وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسبّ ، والنقص ، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم ؛ سداً للذريعة ودفعاً للوسيلة ، وقطعاً لمادة المفسدة ، والتطرق إليه ، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل النقص ، ولا يصلح للتعريض ، فقال : { وَقُولُوا انظرنا } أي : أقبل علينا ، وانظر إلينا ، فهو ، من باب الحذف ، والايصال ، كما قال الشاعر :

ظَاهِراتُ الْجَمَال والحَسُنِ يَنْظُر *** نَ كَمَا يَنْظُر الأرَاكَ الظِّباءُ

أي : إلى الأراك . وقيل : معناه : انتظرنا وتأنّ بنا ، ومنه قول الشاعر :

فإنكما إن تنظراني ساعةً *** من الدهر تنفعني لَدَى أمِّ جُنْدبَ

وقرأ الأعمش «أنظرنا » بقطع الهمزة ، وكسر الظاء ، بمعنى أخرنا وأمهلنا ، حتى نفهم عنك ، ومنه قول الشاعر :

أبا هندٍ فلا تعجل علينا *** وأنظرنا نخبرِّك اليقينا

وقرأ الحسن : «راعنا » بالتنوين ، وقال : الراعن من القول السخريِّ . منه . انتهى . وأمرهم بعد هذا النهي ، والأمر بأمر آخر وهو قوله : { واسمعوا } أي : اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه ، ومعناه : أطيعوا الله في ترك خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك اللفظ ، وخاطبوه ما أمرتم به ، ويحتمل أن يكون معناه : اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع ، حتى يحصل لكم المطلوب بدون طلب للمراعاة ، ثم توعد اليهود بقوله : { وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ } ويحتمل أن يكون وعيداً شاملاً لجنس الكفرة . قال ابن جرير : والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم : { راعنا } لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا الحَبَلَة ، ولا تقولوا عبدي ، ولكن قولوا فتاي » وما أشبه ذلك .

/خ105