وقوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ يقول تعالى ذكره : الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته ، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها . وقيل : إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها ، فنُهُوا بهذه الاَية عن ذلك . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت خالدا ، عن محمد بن سيرين ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى نظر إلى السماء ، فأنزلت هذه الاَية : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن أبي جعفر ، عن الحجاج الصوّاف ، عن ابن سيرين ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فقالوا بعد ذلك برؤوسهم هكذا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال : «نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت آية إن لم تكن الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فلا أدري أية آية هي قال : فطأطأ » . قال : وقال محمد : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصْره مصّلاه ، فإن كان قد استعاد رالنظر فليغْمِض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، عن محمد نحوه .
واختلف أهل التأويل في الذي عني به في هذا الموضع من الخشوع ، فقال بعضهم : عني به سكون الأطراف في الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : السكون فيها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : سكون المرء في صلاته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، عن الثوريّ ، عن أبي سفيان الشيباني ، عن رجل ، عن عليّ ، قال : سئل عن قوله : الّذِينَ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : لا تلتفت في صلاتك .
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرمليّ ، قال : قال ضَمْرة بن ربيعة ، عن أبي شَوْذب ، عن الحسن ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجَناح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم ، في قوله : خاشعُونَ قال : الخشوع في القلب ، وقال : ساكنون .
قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني خالد بن عبد الله ، عن المسعوديّ ، عن أبي سنان ، عن رجل من قومه ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : الخشوع في القلب ، وأن تُلِين للمرء المسلم كَنَفك ، ولا تلتفت .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جرَيج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشعُونَ قال : التخشع في الصلاة . وقال لي غير عطاء : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر عن يمينه ويساره ووُجاهه ، حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فما رُؤي بعد ذلك ينظر إلاّ إلى الأرض .
وقال آخرون : عني به الخوف في هذا الموضع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : خائفون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشِعُونَ قال الحسن : خائفون . وقال قتادة : الخشوع في القلب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ حاشعُونَ يقول : خائفون ساكنون .
وقد بيّنا فيما مضى قبل من كتابنا أن الخشوع التذلل والخضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر ، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام ما وصفت مِنْ قَبْلُ من أنه : والذين هم في صلاتهم متذللّون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته ، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فيها .
ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين فقال { الذين هم في صلاتهم خاشعون } والخشوع التطامن وسكون الأعضاء والوقار ، وهذا إنما يظهر ممن في قلبه خوف واستكانة ، وروي عن بعض العلماء أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع هذا خشعت جوارحه{[8452]} ، وروي أن سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يمنة ويسرة فنزلت هذه الآية وأمروا أن يكون بصر المصلي حذاء قبلته أو بين يديه ، وفي الحرم إلى الكعبة ، وروي عن ابن سيرين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلتفت في صلاته إلى السماء فنزلت الآية في ذلك{[8453]} .
إجراء الصفات على { المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلتِهِ ، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم . وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلاّ بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى ، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبىء عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سبباً للفلاح ، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى { مَا سَلَكَكُمْ فَي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِم المسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْممِ الدّينِ } [ المدثر : 42 46 ] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور .
والخشوع تقدم في قوله تعالى : { وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ } في سورة البقرة ( 45 ) وفي قوله : { وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } في سورة الأنبياء ( 90 ) . وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه ، ولا شك أن الخشوع ، أي الخشوع لله ، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح .
وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها ، إذ الخشوع محلّهُ القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته . وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته ولذلك قدمت ، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له ، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له . وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها .
ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل موالياً للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين .
وتقديمُ { في صلاتهم } على { خاشعون } للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقاً شديداً بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لاَم الاختصاص . فلو قيل : الذين إذا صلوا خشعوا ، فات هذا المعنى ، وأيضاً لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلاّ بواسطة كلمة أخرى نحو : كانوا خاشعين . وإلاّ يفتْ ما تدل عليه الجملة الاسميّة من ثبات الخشوع لهم ودوَامِهِ ، أي كون الخشوع خُلقاً لهم بخلاف نحو : الذين خشعوا ، فحصل الإيجاز ، ولم يفت الإعجاز .