القول في تأويل قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمنين لأهل النفاق ، بعد أن ميز بينهم في القيامة فالْيَوْمَ أيها المنافقون لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ يعني : عوضا وبدلاً يقول : لا يؤخذ ذلك منكم بدلاً من عقابكم وعذابكم ، فيخلصكم من عذاب الله وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا يقول : ولا تؤخذ الفدية أيضا من الذين كفروا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين ، ولا من الذين كفروا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ من المنافقين وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا معكم مأوَاكُمُ النّارُ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فقرأت ذلك عامة القرّاء بالياء يُؤْخَذُ ، وقرأه أبو جعفر القارىء بالتاء .
وأولى القراءتين بالصواب الياء وإن كانت الأخرى جائزة .
وقوله : مأْوَاكُمُ النّارُ يقول : مثواكم ومسكنكم الذي تسكنونه يوم القيامة النار .
وقوله : هِيَ مَوْلاكُمْ يقول : النار أولى بكم .
وقوله : وَبِئْسَ المَصِيرُ يقول : وبئس مصير من صار إلى النار .
فاليوم لا يؤخذ منكم فدية فداء وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتاء ولا من الذين كفروا ظاهرا وباطنا مأواكم النار هي مولاكم هي أولى بكم كقول لبيد فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها وحقيقته مجراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كقولك هو مئنة الكرم أي مكان قول القائل إنه لكريم أو مكانكم عما قريب من الولي وهو القرب أو ناصركم على طريقة قوله تحية بينهم ضرب وجيع أو متوليكم يتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا وبئس المصير النار .
قوله تعالى : { فاليوم لا يؤخذ } استمرار في مخاطبة المنافقين . قاله قتادة وغيره : وروي في معنى قوله : { ولا من الذين كفروا } حديث ، وهو أن الله تعالى يقرر الكافرين فيقول له : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تعالى : قد سألتك ما هو أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك{[10974]} .
وقرأ جمهور القراء والناس : «يؤخذ » بالياء من تحت . وقرأ أبو جعفر القارئ : «تؤخذ » بالتاء من فوق ، وهي قراءة ابن عامر في رواية هشام عنه ، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج
وقوله : { هي مولاكم } قال المفسرون معناه : هي أولى بكم ، وهذا تفسير بالمعنى ، وإنما هي استعارة ، لأنها من حيث تضمنهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى ، وهذا نحو قول الشاعر [ عمرو بن معد يكرب ] : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . تحية بينهم ضرب وجميع{[10975]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فاليوم} في الآخرة {لا يؤخذ منكم} معشر المنافقين {فدية ولا من الذين كفروا} بتوحيد الله تعالى... {مأواكم النار} يعني مأوى المنافقين والمشركين في النار {هي مولاكم} يعني وليكم {وبئس المصير} وذلك أنه يعطي كل مؤمن كافر، فيقال: هذا فداؤك من النار، فذلك قوله: {لا يؤخذ منكم فدية} يعني من المنافقين، ولا من الذين كفروا، إنما تؤخذ الفدية من المؤمنين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمنين لأهل النفاق، بعد أن ميز بينهم في القيامة" فالْيَوْمَ "أيها المنافقون "لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ" يعني: عوضا وبدلاً يقول: لا يؤخذ ذلك منكم بدلاً من عقابكم وعذابكم، فيخلصكم من عذاب الله، "وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا" يقول: ولا تؤخذ الفدية أيضا من الذين كفروا...
وقوله: "مأْوَاكُمُ النّارُ" يقول: مثواكم ومسكنكم الذي تسكنونه يوم القيامة النار.
وقوله: "هِيَ مَوْلاكُمْ" يقول: النار أولى بكم.
وقوله: "وَبِئْسَ المَصِيرُ" يقول: وبئس مصير من صار إلى النار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... يخبر أن أمر الآخرة على خلاف ما يكون في الدنيا؛ إذ في الدنيا ربما يحتال لدفع البلاء بالفداء مرة وبالشفاعة ثانيا...
{مأواكم النار} أي تأوون إليها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لا يؤخذ} بناء للمفعول لأن الضار عدم الأخذ لا كونه من آخذ معين وليفيد سد باب الأخذ مطلقاً.. {النار} لا مقر لكم غيرها، تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات، وإضاعتكم حقوق ذوي الحاجات، وأكد ذلك بقوله: {هي} أي لا غيرها {مولاكم}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كني بنفي أخذ الفدية عن تحقق جزائهم على الكفر، وإلا فإنهم لم يبذلوا فدية، ولا كان النفاق من أنواع الفدية ولكن الكلام جرى على الكناية لما هو مشهور من أن الأسير والجاني قد يتخلصان من المؤاخذة بفدية تبذل عنهما،... {ولا من الذين كفروا} قُصد منه تعليل أن لا محيص لهم من عذاب الكفر، مثل الذين كفروا، أي الذين أعلنوا الكفر حتى كان حالةً يعرفون بها. وهذا يقتضي أن المنافقين كانوا هم والكافرون في صعيد واحد عندَ أبوابِ جهنم، ففيه احتراس من أن يتوهم الكافرون الصرحاء من ضمير {لا يؤخذ منكم فدية} أن ذلك حكم خاص بالمنافقين تعلقاً بأقل طمع، فليس ذكر {ولا من الذين كفروا} مجرد استطراد.
هذا قطع لآمالهم في النجاة، فالمصير الذي ينتظرهم لا مفر منه ولا مهرب، حتى الفدية لا تؤخذ منهم إذا أراد الواحد منهم أنْ يفتدي نفسه من عذاب الله. وقد يظن ظان أن هذا الحكم خاص بالمنافقين الذين سبق الحديث عنهم، لأن الله أخبر عنهم بأنهم {في الدّركِ الأسْفَلِ من النَّارِ ولن تجد لهم نصيراً 145}
فيوضح سبحانه وتعالى أن هذا الحكم يشمل أيضاً أمثالهم من الكافرين: {ولا من الذين كفروا..} لأن الكافرين أقلّ جُرْماً من المنافقين، فقال: لا تُقبل الفدية لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، ولا بد أنْ يواجهوا هذا المصير.
{مأوَاكُم النّارُ..} مرجعكم ومثواكم الأخير {هي مولاَكُم..} أي: النار مولاكم، لأن الإنسان يحتاج في هذا الموقف إلى وليّ يواليه ونصير ينصره، ومن لم يكن الله وليّه ونصيره في هذا اليوم، فالنار والعياذ بالله هي وليّه.
لذلك قال في آية النساء: {ولن تجدَ لهُمْ نَصيراً 145} [النساء] وقال: {ما لهُم من وليّ ولا نصيرٍ 8} [الشورى] ومنْ كانت النار وليه ونصيره فبئس المولى وبئس النصير، وبئس المرجع والمصير.