القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام إنّنِي هَدَانِي رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول : قل لهم : إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم ، هو دين الله الذي ابتعثه به ، وذلك الحنيفية المسلمة ، فوفقني له . دِينا قِيَما يقول : مستقيما . ملّةَ إبْرَاهِيمَ يقول : دين إبراهيم . حَنِيفا يقول : مستقيما . وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ يقول : وما كان من المشركين بالله ، يعني : إبراهيم صلوات الله عليه ، لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : دِينا قِيَما فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض البصريين : «دِينا قَيّما » بفتح القاف وتشديد الياء إلحاقا منهم ذلك بقول الله : ذلكَ الدّينُ القَيّمُ وبقوله : ذلكَ دِينُ القَيّمَةِ . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفيين : دِينا قِيَما بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها ، وقالوا : القَيّمُ والقِيَم بمعنى واحد ، وهم لغتان معناهما : الدين المستقيم .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار ، متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو للصواب مصيب ، غير أن فتح القاف وتشديد الياء أعجب إليّ ، لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما . ونصب قوله : دِينا على المصدر من معنى قوله : إنّنِي هَدَانِي رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وذلك أن المعنى هداني ربي إلى دين قويم ، فاهتديت له دينا قيما ، فالدين منصوب من المحذوف الذي هو اهتديت الذي ناب عنه قوله : إنني هَدَاني رَبّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وقال بعض نحويي البصرة : إنما نصب ذلك لأنه لما قال : هَدَانِي رَبي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قد أخبر أنه عرف شيئا ، فقال : «دِينا قَيّما » كأنه قال : عرفت دينا قيما ملة إبراهيم . وأما معنى الحنيف ، فقد بينته في مكانه في سورة البقرة بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج . { دينا } بدل من محل إلى صراط إذ المعنى ، هداني صراطا كقوله : { ويهديكم صراطا مستقيما } أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ .
{ قيما } فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة والمستقيم باعتبار الصيغة . وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي { قيما } على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعل لإعلال فعله كالقيام . { ملة إبراهيم } عطف بيان لدينا . { حنيفا } حال من إبراهيم . { وما كان من المشركين } عطف عليه .
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه عليه السلام بالإعلان بشريعته ونبذ ما سواها من أضاليلهم ، ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة ، و { هداني } معناه أرشدني بخلق الهدى في قلبي . والرب المالك ، ولفظه مصدر من قولك ربه يربه ، وإنما هو مثل عدل ورضى في أنه مصدر وصف به . وأصله ذو الرب ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل الرب . و «الصراط » الطريق و { ديناً } منصوب ب { هداني } المقدر الذي يدل عليه { هداني } الأول ، وهذا الضمير إنما يصل وحده دون أن يحتاج إلى إضمار إلى . إذ هدى يصل بنفسه إلى مفعوله الثاني وبحرف الجر ، فهو فعل متردد وقيل نصب { ديناً } فعل مضمر تقديره عرفني ديناً . وقيل تقديره فاتبعوا ديناً فالزموا ديناً ، وقيل نصب على البدل من { صراط } على الموضع ، أن تقديره هداني ربي صراطاً مستقيماً ، و { قيماً } نعت للدين ، ومعناه مستقيماً معتدلاً . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «قَيِّماً » بفتح القاف وكسر الياء وشدها . وأصله قيوم عللت كتعليل سيد وميت ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «قِيَماً » بكسر القاف وفتح الياء على وزن فعل ، وكأن الأصل أن يجيء فيه قوماً كعوض وحول إلا أنه شذ كشذوذ قولهم جياد في جمع جواد وثيرة في جمع ثور ، و { ملة } بدل من الدين ، والملة الشريعة و { حنيفاً } نصب على الحال من { إبراهيم } ، والحنف في كلام العرب الميل فقد يكون الميل إلى فساد كحنف الرجل .
وكقوله { فمن خاف من موص حنفاً }{[5178]} على قراءة من قرأ بالحاء غير المنقوطة ونحو ذلك . وقد يكون الحنف إلى الصلاح كقوله عليه السلام : «الحنيفية السمحة »{[5179]} و «الدين الحنيف » ونحوه ، وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة{[5180]} وإنما سمي الأحنف في الرجل على جهة التفاؤل له . { وما كان من المشركين } نفي للنقيصة عنه صلى الله عليه وسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.