141- الله - وحده - هو الذي خلق حدائق من الكرم ، منها ما يغرس ويرفع على دعائم ، ومنها ما لا يقوم على دعائم وخلق النخل والزرع الذي يخرج ثمراً مختلفاً في اللون والطعم والشكل والرائحة وغير ذلك ، وخلق الزيتون والرمان متشابهاً في بعض الصفات وغير متشابه في بعضها الآخر ، مع أن التربة قد تكون واحدة وتسقى جميعها بماء واحد . فكلوا من ثمرها إذا طاب لكم ، وأخرجوا منها الصدقة عند نضجها وجمعها ، ولا تسرفوا في الأكل فتضروا أنفسكم وتضروا الفقراء في حقهم ، إن الله لا يرضى عن المسرفين في تصرفاتهم وأعمالهم .
ثم بين - سبحانه - أنه هو الخالق لكل شىء من الزروع والثمار والأنعام التى تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة ، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت لهم فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي أَنشَأَ . . . . } .
قوله - تعالى - { وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } .
أنشأ : أى أوجد وخلق . والجنات : البساتين والكروم المتلفة الأشجار .
ومعروشات : أصل العرش فى اللغة شىء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش ، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً من بابى - ضرب ونصر - ، وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف . فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك . قال ابن عباس : المعروشات . ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه ، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك . وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر .
وقيل المعروشات وغي المعروشات كلاهما فى الكرم خاصة ، لأن منه ما يعرش ومنه مالا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا .
وقيل المعروشات ما غرسه الناس فى البساتين واهتمووا به فعرشوه من كرم أو غيره ، وغير المعروشات . هو ما أنبته الله فى البرارى والجبال من كرم وشجر .
أى : وهو - سبحانه - الذى أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التى منها المرفوعات عن الأرض ، ومنها غير المرفوعات عنها ، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع .
وقوله : { والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } عطف على جنات ، أى : أنشأ جنات ، وأنشأ النخل والزرع ، والمراد بالزرع جميع الحبوب التى يقتات بها .
وإنما أفردها مع أنهما داخلان فى الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت فى الجنات .
و { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أى ، ثمره وحبه فى اللون والطعم والحجم والرائحة .
والضمير فى أكله راجع إلى كل واحد منهما ، أى : النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى ، مختلف المأكول فى كل منهما فى الهيئة والطعم .
قال الجمل : وجملة . { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } حال مقدرة ، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا ، فهو مثل قولهم : مررت برجل معه صقر صائداً له غدا " .
وقوله : { والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } أى : وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر وغير متشابه فى الطعم أو متشابها بعض أفرادها فى اللون أو الطعم أو الهيئة " وغير متشابه فى بعضها .
قال القرطبى : وفيه ألدة ثلاثة .
أحدها : ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير .
الثانى : على المنة منه - سبحانه - علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ، لأنه لا يجب عليه شىء .
الثالث : على القدرة فى أن يكون الماء الذى من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها وأي الفلاسفة وأسسها ، هل هى فى قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب .
كلا ، لا يتم ذلك فى العقول إلا لحى قادر عالم مريد ، فسبحان من له فى كل شىء آية ونهاية .
ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب . وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم " .
ثم ذكر - سب-انه - المقصود من خلق هذه الأشياء فقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } أى : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التى أنشأناها لكم ، شاكرين الله على ذلك . والأمر للإباحة . وفائدة التقييد بقوله { إِذَآ أَثْمَرَ } إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك .
وقيل فائدته : الترخيص للمالك فى الأكل من قبل أداء حق الله - تعالى - لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شىء منه لمكان شركة المساكين له فيه ، فأباح الله له هذا الأكل .
ثم أمرهم - سبحانه - بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أى ، كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم ، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده .
ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها ، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير .
وأصحاب هذا الراى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة .
وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة ، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده .
ويرى بعض آخر من العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات ، وفى الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد ، مبالغة فى العزم على المبادرة إليه .
والمعنى : اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء .
وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله .
ثم ختمت الآية بالنهى عن الإسراف فقالت ، { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } . أى لا تسرفوا فى أكلكم قبل الحصاد ولا فى صدقاتكم ولا فى أى شأن من شئونكم ، لأنه - سبحانه - لا يحب المسرفين .
وقال ابن جريج ، نزلت فى ثبات بن قيس ، قطع نخلا له فقال . لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فنزلت هذه الآية .
{ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه }
الواو في : { وهو الذي أنشأ } للعطف ، فيكون عطف هذه الجملة على جملة { وحرّموا ما رزقهم الله } [ الأنعام : 140 ] تذكيراً بمنة الله تعالى على النّاس بما أنشأ لهم في الأرض ممّا ينفعهم ، فبعد أن بيّن سوء تصرّف المشركين فيما مَنّ به على النّاس كلّهم مع تسفيه آرائهم في تحريم بعضها على أنفسهم ، عطف عليه المنّة بذلك استنزالاً بهم إلى إدراك الحقّ والرّجوعِ عن الغي ، ولذلك أعيد في هذه الآية غالب ما ذكر في نظيرتها المتقدّمة في قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خَضِراً نُخرِج منه حبّاً متراكباً ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرمّان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } [ الأنعام : 99 ] لأنّ المقصود من الآية الأولى الاستدلال على أنَّه الصّانع ، وأنَّه المنفرد بالخلق ، فكيف يشركون به غيره . ولذلك ذيّلها بقوله : { إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] ، وعطف عليها قوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } [ الأنعام : 100 ] الآيات .
والمقصود من هذه : الامتنانُ وإبطالُ ما ينافي الامتنان ولذلك ذيّلت هذه بقوله : { كلوا من ثمره إذا أثمر } .
والكلام موجّه إلى المؤمنين والمشركين ، لأنَّه اعتبار وامتنان ، وللمؤمنين الحظّ العظيم من ذلك ، ولذلك أعقب بالأمر بأداء حق الله في ذلك بقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } إذ لا يصلح ذلك الخطاب للمشركين .
وتعريف المسند يفيد الاختصاص ، أي هو الّذي أنشأ لا غيره ، والمقصود من هذا الحصرِ إبطالُ أن يكون لغيره حظّ فيها ، لإبطال ما جعلوه من الحرث والأنعام من نصيب أنصامهم مع أنّ الله أنشأه .
والإنشاءُ : الإيجاد والخلق ، قال تعالى : { إنَّا أنشأناهنّ إنشاءً } [ الواقعة : 35 ] أي نساء الجنّة .
والجنّات هي المكان من الأرض النّابت فيه شجر كثير بحيث يَجِنّ أي يَستر الكائن فيه ، وقد تقدّم عند قوله : { كمثل جنّة برُبْوة } في سورة البقرة ( 265 ) . وإنشاؤها إنباتها وتيسير ذلك بإعطائها ما يعينها على النماء ، ودفععِ ما يفسدها أو يقطع نبتها ، كقوله : { أنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون } [ الواقعة : 64 ] .
والمعروشات : المرفوعات . يقال : عرش الكرمة إذا رفعها على أعمدة ليكون نماؤها في ارتفاع لا على وجه الأرض ، لأنّ ذلك أجود لعنبها إذ لم يكن ملقى على وجه الأرض . وعَرش فعل مشتقّ من العَرْش وهو السقف ، ويقال للأعمدة التي تُرفع فوقها أغصان الشّجر فتصير كالسّقف يَستظلّ تحته الجالسُ : العَريشُ . ومنه ما يذكر في السيرة : العريش الّذي جُعل للنّبيء صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ، وهو الّذي بني على بقعته مسجد بعد ذلك هو اليوم موجود ببدر . ووصف الجنّات بمعروشات مجاز عقلي ، وإنَّما هي معروش فيها ، والمعروش أشجارها .
وغير المعروشات المبقاة كرومها منبسطة على وجه الأرض وأرفع بقليل ، ومن محاسنها أنَّها تزيّن وجه الأرض فيرى الرائي جميعها أخضر .
وقوله : { معروشات وغير معروشات } صفة : ل { جنّات } قصد منها تحسين الموصوف والتّذكيرُ بنعمة الله أن ألْهَم الإنسان إلى جعلها على صفتين ، فإنّ ذكر محاسن ما أنشأه الله يزيد في المنّة ، كقوله في شأن الأنعام { ولكم فيها جَمَالٌ حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] .
و { مختلفا أكلهُ } حال من الزّرع ، وهو أقرب المذكورات إلى اسم الحال ، ويعلم أنّ النّخل والجنّات كذلك ، والمقصود التّذكير بعجيب خلق الله ، فيفيد ذكرُ الحال مع أحد الأنواع تذكّر مثله في النوع الآخر ، وهذا كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها } [ الجمعة : 11 ] أي وإليه ، وهي حال مقدّرة على ظاهر قول النّحويين لأنَّها مستقبلة عن الإنشاء ، وعندي أنّ عامل الحال إذا كان ممّا يحصل مَعناه في أزمنة ، وكانت الحال مقارنة لبعض أزمنة عاملها ، فهي جديرة بأن تكون مقارنة ، كما هنا .
( والأُكْل ) بضمّ الهمزة وسكون الكاف لنافع وابن كثير ، و بضمّهما قرأه الباقون ، هو الشّيء الّذي يؤكل ، أي مختلفا مَا يؤكل منه .
وعُطف : { والزيتون والرمان } على : { جنّاتٍ . . . والنّخلَ والزّرعَ } . والمراد شجر الزّيتون وشجر الرمّان . وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السّماء ماء } الآية في هذه السّورة ( 99 ) .
إلاّ أنَّه قال هناك : { مُشْتَبِها } [ الأنعام : 99 ] وقال هنا : { متشابها } وهما بمعنى واحد لأنّ التّشابه حاصل من جانبين فليست صيغة التّفاعل للمبالغة ألا ترى أنَّهما استويا في قوله : { وغير متشابه } في الآيتين .
{ كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }
غُيّر أسلوبُ الحكاية عن أحوال المشركين فأُقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنّة وهذا الحكم ؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما مَنّ الله به عليهم .
والثَمَر : بفتح الثّاء والميم وبضمّهما وقرىء بهما كما تقدّم بيانه في نظيرتها .
والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حقّ الإنسان الّذي لا يجب عليه أن يفعله ، فالقرينة ظاهرة . والمقصود الردّ على الّذين حجّروا على أنفسِهِم بعض الحرث .
و { إذا } مفيدة للتّوقيت لأنها ظرف ، أي : حين إثماره ، والمقصود من التّقييد بهذا الظّرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيداً لقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } أي : كلوا منه قبل أداء حقّه . وهذه رخصة ومنّة ، لأنّ العزيمة أن لا يأكلوا إلاّ بعد إعطاء حقّه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحقّ ، إلاّ أنّ الله رخّص للنّاس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه لأنَّهم يستطيبونه كذلك ، ولذلك عقّبه بقوله : { ولا تسرفوا } كما سيأتي .
وإفراد الضّميرين في قوله : { من ثمره إذا أثمر } على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور .
والأمر في قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } خطاب خاصّ بالمؤمنين كما تقدم . وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقّاً .
وأضيف الحقّ إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة ، أي الحقّ الكائن فيه .
وقد أُجمل الحقّ اعتماداً على ما يعرفونه ، وهو : حقّ الفقير ، والقربى ، والضّعفاء ، والجيرة . فقد كان العرب ، إذا جَذّوا ثمارهم ، أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : { فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } [ القلم : 23 ، 24 ] . فلمّا جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحقّ وسمَّاه حقاً كما في قوله تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ المعارج : 24 ، 25 ] ، وسمّاه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنّه أجمل مقداره وأجمل الأنواعَ الّتي فيها الحقّ ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير ، وكان هذا قبل شرع نصُبُها ومقاديرها . ثمّ شرعت الزّكاة وبيّنت السنّة نصبها ومقاديرها .
والحِصاد بكسر الحاء وبفتحها قطع الثّمر والحبّ من أصوله ، وهو مصدر على وزننِ الفِعال أو الفَعال . قال سيبويه « جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزّمان على مثال فِعال وذلك الصِّرام والجِزاز والجِدَاد والقِطاع والحِصاد ، وربَّما دخلتِ اللّغة في بعض هذا ( أي اختلفت اللّغاتُ فقال بعض القبائل حَصاد بفتح الحاء وقال بعضهم حصاد بكسر الحاء ) فكان فيه فعال وفَعال فإذا أرادوا الفعل على فَعَلْت قالوا حَصَدته حَصْداً وقَطَعْته قطعاً إنَّما تريد العمل لا انتهاء الغاية » .
وقرأه نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بكسر الحاء . وقرأ أبُو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الحاء .
وقد فرضت الزّكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصّلاة ، أو بعده بقليل ، لأنّ افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلمين وهم كثيرون في صدر الإسلام ، لأنّ الّذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم ، وجحدوا حقوقهم ، واستباحوا أموالهم ، فكان من الضّروري أن يسدّ أهل الجدة والقوّة من المسلمين خَلَّتهم . وقد جاء ذكر الزّكاة في آيات كثيرة ممّا نزل بمكّة مثل سورة المزمّل وسورة البيّنة وهي من أوائل سور القرآن ، فالزّكاة قرينة الصّلاة . وقول بعض المفسّرين : الزّكاة فرضت بالمدينة ، يحمل على ضبط مقاديرها بآية { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] وهي مدنيَّة ، ثمّ تطرّقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحقّ هنا الزّكاة ، لأنّ هذه السّورة مكّيّة بالاتّفاق ، وإنَّما تلك الآية مؤكّدة للوجوب بعد الحلول بالمدينة ، ولأنّ المراد منها أخذها من المنافقين أيضاً ، وإنَّما ضبطت الزّكاة . ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النُّصب والمُخْرَج منه ، بالمدينة ، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في مكّة ، وقد حملها مالك على الزّكاة المعيّنة المضبوطة في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وجمع من التّابعين كثير . ولعلّهم يرون الزّكاة فرضت ابتداء بتعيين النّصب والمقادير ، وحَملها ابنُ عمر ، وابنُ الحنفية ، وعليّ بن الحسين ، وعطاء ، وحمَّاد ، وابن جبير ، ومجاهد ، على غير الزّكاة وجعلوا الأمر للنّدب ، وحملها السُدّي ، والحسن ، وعطيّة العوفي ، والنّخعي ، وسعيد بن جبير ، في رواية عنه ، على صدقة واجبة ثمّ نسختها الزّكاة .
وإنَّما أوجب الله الحقّ في الثّمار والحبّ يوم الحصاد : لأنّ الحصاد إنَّما يراد للادّخار وإنَّما يَدّخِر المرء ما يريده للقوت ، فالادّخار هو مظنة الغني الموجبة لإعطاء الزّكاة ، والحصاد مبدأ تلك المظنة ، فالّذي ليست له إلاّ شجرة أو شجرتان فإنَّما يأكلُ ثمرها مخضوراً قبل أن ييبس ، فلذلك رخَّصت الشّريعة لصاحب الثّمرة أن يأكل من الثّمر إذا أثمر ، ولم توجب عليه إعطاء حقّ الفقراء إلاّ عند الحصاد . ثمّ إنّ حصاد الثّمار ، وهو جذاذها ، هو قطعها لادّخارها ، وأمَّا حصاد الزّرع فهو قطع السّنبل من جذور الزّرع ثمّ يُفرك الحبّ الّذي في السّنبل ليدّخر ، فاعتبر ذلك الفرك بقيّة للحصاد . ويظهر من هذا أنّ الحقّ إنَّما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزّبيب والتَّمر والزّرع والزّيتون ، من زيته أو من حبّه ، بخلاف الرمّان والفواكه .
وعلى القول المختار : فهذه الآية غير منسوخة ، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبيء صلى الله عليه وسلم فلا يُتعلّق بإطلاقها ، وعن السدّي أنَّها نسخت بآية الزّكاة يعني : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخاً .
وقوله : { ولا تسرفوا } عطف على { كلوا } ، أي : كلوا غيرَ مسرفين . والإسراف والسّرف : تجاوز الكافي من إرضاء النّفس بالشّيء المشتهى . وتقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) . وهذا إدماج للنّهي عن الإسراف ، وهو نهي إرشاد وإصلاح ، أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] . والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التّوسّع في تحصيل المرغوبات ، فيرتكب لذلك مَذمَّات كثيرة ، وينتقل من ملذّة إلى ملذّة فلا يقف عند حدّ .
وقيل عطف على { وآتوا حقه } أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقّه فتنفقوا أكثر ممّا يجب ، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق والأكل ونحوه ، فأمَّا بذله في الخيرْ ونفع النّاس فليس من السّرف ، ولذلك يعدّ من خطأ التّفسير : تفسيرُها بالنَّهي عن الإسراف في الصّدقة ، وبما ذكروه أنّ ثابتَ بن قيس صَرَم خمسمائة نخلة وفرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله ، وأنّ الآية نزلت بسبب ذلك .
وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } استئناف قصد به تعميم حكم النّهي عن الإسراف . وأكّد ب { إنّ } لزيادة تقرير الحكم ، فبيّن أنّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبّها ، فهو من الأخلاق الّتي يلزم الانتهاء عنها ، ونفي المحبّة مختلف المراتب ، فيعلم أنّ نفي المحبّة يشتدّ بمقدار قوّة الإسراف ، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التّحريم ، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلّة أخرى والإجمال مقصود .
ولغموض تأويل هذا النّهي وقوله : { إنَّه لا يحبّ المسرفين } تفرّقت آراء المفسّرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه ، ليعينوه في إسراف حرام ، حتّى قال بعضهم : إنَّها منسوخة ، وقد علمت المنجى من ذلك كلّه .
فوجه عدم محبّة الله إيّاهم أنّ الإفراط في تناول اللّذّات والطّيّبات ، والإكثار من بذل المال في تحصيلها ، يفضي غالباً إلى استنزاف الأموال والشّره إلى الاستكثار منها ، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة ، ليخمد بذلك نهمته إلى اللّذات ، فيكون ذلك دأبه ، فربَّما ضاق عليه ماله ، فشقّ عليه الإقلاع عن معتاده ، فعاش في كرب وضيق ، وربَّما تطلّب المال من وجوه غير مشروعة ، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدّنيا أو في الآخرة ، ثمّ إنّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة . وينشأ عن ذلك مَلام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة . فأمَّا كثرة الإنفاق في وجوه البرّ فإنَّها لا توقع في مثل هذا ، لأنّ المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبّة لَذّاته ، لأنّ داعي الحكمة قابل للتأمّل والتّحديد بخلاف داعي الشّهوة . ولذلك قيل في الكلام الّذي يصحّ طَرْداً وعكساً : « لاَ خَيْرَ في السَّرف ، ولا سرف في الخير » وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف ( 31 ) : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] وقول النَّبيء صلى الله عليه وسلم " ويُكره لكم قيل وقال وكثرة السُّؤال وإضاعة المال " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات}، يعنى الكروم وما يعرش، {وغير معروشات}، يعني قائمة على أصولها، {والنخل والزرع مختلفا أكله}، يعني طعمه، منه الجيد، ومنه الدون، ثم قال: {والزيتون والرمان متشابها}، ورقها في النظير يشبه ورق الزيتون ورق الرمان، {وغير متشابه} ثمرها وطعمها، وهما متشابهان في اللون، مختلفان في الطعم، يقول الله: {كلوا من ثمره إذا أثمر}، حين يكون غضا، ثم قال: {وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}، يقول: ولا تشركوا الآلهة في تحريم الحرث والأنعام...
..ابن رشد: وسئل مالك عن تفسير قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} يقول: أيها الزارع اتق الله وأد حق ما رفعت. وأنت أيها الوالي لا تأخذ أكثر من حقك، فتكون من المسرفين.
- ابن العربي: روى ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك في تفسير هذه الآية، أنه: الصدقة المفروضة...
231- قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا بلغ ما أخرجت الأرض ما يكون فيه الزكاة أخذت صدقته ولم ينتظر بها حول لقول الله عز وجل: {وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حِصَادِهِ} ولم يجعل له وقتا إلا الحصاد، واحتمل قول الله عز وجل: {يَوْمَ حِصَادِهِ}: إذا صلح بعد الحصاد، واحتمل: يوم يحصد وإن لم يصلح. فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تأخذ بعدما يجف، لا يوم يحصد النخل والعنب، والأخذ منهما زبيبا وتمرا، فكان كذلك كل ما يصلح بجفوف ودرس مما فيه الزكاة مما أخرجت الأرض. وهكذا زكاة ما أخرج من الأرض من معدن، لا يؤخذ حتى يصلح فيصير ذهبا أو فضة، ويؤخذ يوم يصلح. قال الشافعي: وزكاة الركاز يوم يؤخذ لأنه صالح بحاله لا يحتاج إلى إصلاح، وكله مما أخرجت الأرض. (الأم: 2/36-37. ون مختصر المنزني ص: 130 و ص: 48. وأحكام الشافعي: 1/103.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا إعلام من الله تعالى ذكره ما أنعم به عليهم من فضله، وتنبيه منه لهم على موضع إحسانه، وتعريف منه لهم ما أحلّ وحرّم وقسمَ في أموالهم من الحقوق لمن قسم له فيها حقّا. يقول تعالى ذكره: وربكم أيها الناس "أنْشَأ": أي أحدث وابتدع خلقا، لا الآلهة والأصنام، "جَنّاتٍ "يعني: بساتين، "مَعْرُوشاتٍ" وهي ما عرش الناس من الكروم، "وغيرَ مَعْرُوشاتٍ": غير مرفوعات مبنيات، لا ينبته الناس ولا يرفعونه، ولكن الله يرفعه وينبته وينميه... عن ابن عباس، قوله: مَعْرُوشاتٍ يقول: مسموكات...فالمعروشات: ما عَرَش الناس وغير معروشات: ما خرج في البرّ والجبال من الثمرات...
"والنّخْلَ وَالزّرْعَ مُخْتَلِفا أُكُلُهُ والزّيْتُونَ والرّمّانَ مُتَشابها وغيرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَره إذَا أثْمَرَ" يقول جلّ ثناؤه: وأنشأ النخل والزرع مختلفا أكله، يعني بالأُكل: الثمر، يقول: وخلق النخل والزرع مختلفا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحبّ والزيتون والرمان، متشابها وغير متشابه في الطعم، منه الحلو والحامض والمزّ... وأما قوله: "كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أْثمَرَ" فإنه يقول: كلوا من رطبه ما كان رطبا ثمره... "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: هذا أمر من الله بإيتاء الصدقة المفروضة من الثمر والحبّ... عن الحسن، في قوله: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَاده" قال: الزكاة...
وقال آخرون: بل ذلك حقّ أوجبه الله في أموال أهل الأموال، غير الصدقة المفروضة...
وقال آخرون: كان هذا شيئا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة، ثم نسخته الصدقة المعلومة، فلا فرض في مال كائنا ما كان زرعا كان أو غرسا، إلا الصدقة التي فرضها الله فيه... وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: كان ذلك فرضا فرضه الله على المؤمنين في طعامهم وثمارهم التي تخرجها زروعهم وغروسهم، ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة، والوظيفة المعلومة من العشر ونصف العشر وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم أن صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدياس والتنقية والتذرية، وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف. فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله جلّ ثناؤه: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ" ينبئ عن أنه أمر من الله جلّ ثناؤه بإيتاء حقه يوم حصاده، وكان يوم حصاده هو يوم جدّه وقطعه والحبّ لا شكّ أنه في ذلك اليوم في سنبله، والثمر وإن كان ثمر نخل أو كرم غير مستحكم جفوفه ويبسه، وكانت الصدقة من الحبّ إنما تؤخذ بعد دياسه وتذريته وتنقيته كيلاً، والتمر إنما تؤخذ صدقته بعد استحكام يبسه وجفوفه كيلاً، عُلم أن ما يؤخذ صدقة بعد حين حصده غير الذي يجب إيتاؤه المساكين يوم حصاده.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك إيجابا من الله في المال حقا سوى الصدقة المفروضة؟ قيل: لأنه لا يخلو أن يكون ذلك فرضا واجبا أو نفلاً، فإن يكن فرضا واجبا فقد وجب أن يكون سبيله سبيل الصدقات المفروضات التي من فرّط في أدائها إلى أهلها كان بربه آثما ولأمره مخالفا، وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة يجب وجوب الزكاة سوى ما يجب من النفقة لمن يلزم المرء نفقته ما ينبئ عن أن ذلك ليس كذلك. أو يكون ذلك نفلاً، فإن يكن ذلك كذلك فقد وجب أن يكون الخيار في إعطاء ذلك إلى ربّ الحرث والثمر، وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك ما ينبئ عن أن ذلك ليس كذلك. وإذا خرجت الآية من أن يكون مرادا بها الندب، وكان غير جائز أن يكون لها مخرج في وجوب الفرض بها في هذا الوقت، علم أنها منسوخة. ومما يؤيد ما قلنا في ذلك من القول دليلاً على صحته، أنه جلّ ثناؤه أتبع قوله: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ" ومعلوم أن من حكم الله في عباده مذ فرض في أموالهم الصدقة المفروضة المؤقتة القدر، أن القائم بأخذ ذلك ساستهم ورعاتهم. وإذا كان ذلك كذلك، فما وجه نهي ربّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك، والآخذ مجبرٌ، وإنما يأخذ الحقّ الذي فرض الله فيه؟.
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك إنما هو نهي من الله القّيمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدّي في مال ربّ المال والتجاوز إلى أخذ ما لم يبح له أخذه، فإن آخر الآية، وهو قوله: "وَلا تُسْرِفُوا" معطوف على أوّله وهو قوله: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ"، فإن كان المنهي عن الإسراف القيم بقبض ذلك، فقد يجب أن يكون المأمور بإيتائه المنهي عن الإسراف فيه، وهو السلطان. وذلك قولٌ إن قاله قائل، كان خارجا من قول جميع أهل التأويل ومخالفا المعهود من الخطاب، وكفى بذلك شاهدا على خطئه...
"وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ" اختلف أهل التأويل في الإسراف الذي نهى الله عنه بهذه الآية، ومن المنهي عنه؛ فقال بعضهم: المنهيّ عنه: ربّ النخل والزرع والثمر، والسرف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف بربّ المال...
وقال آخرون: الإسراف الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: منع الصدقة والحقّ الذي أمر الله ربّ المال بإيتائه أهله بقوله: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ"...
وقال آخرون: إنما خوطب بهذا السلطان: نهي أن يأخذ من ربّ المال فوق الذي ألزم الله ماله...
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: "ولاَ تُسْرِفُوا" عن جميع معاني الإسراف، ولم يخصص منها معنى دون معنى. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الإسرف في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحقّ في العطية، إما بتجاوز حدّه في الزيادة وإما بتقصير عن حدّه الواجب، كان معلوما أن المفرق ماله مباراة، والباذله للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حدّ الله إلى ما كيفته له، وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: "وَلا تُسْرِفُوا" في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم، إذ كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده، فإن الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاص من الأمور والحكم بها على العامّ، بل عامة آي القرآن كذلك، فكذلك قوله: "وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهو الذي أنشأ جنات معروشات} ذكر هذا، والله أعلم، مقابل ما كان منهم من تحريم ما أحل الله لهم، ورزقهم من الحرث والزرع والأنعام والانتفاع بها، فقال: {أنشأ جنات} وبساتين، من تأمل فيها، وتفكر، عرف أن منشئها مالك حكيم مدبر؛ لأنه ينبتها. ويخرجها من الأرض، في لحظة ما لو اجتمع الخلائق على تقديرها أن كيف خرج؟ وكم خرج؟ وأي قدر ثبت؟ ما قدروا على ذلك كقوله تعالى: {وأنبتنا فيها من كل شيء موزون} [الحجر: 19]. ويخرج من الورد والثمار على ميزان واحد ما لو جهدوا كل الجهد أن يعرفوا الفضل والتفاوت بين الأوراق والثمار ما قدروا، وما وجدوا فيها تقاربا. ويخرج أيضا كل عام من الثمار والأوراق ما يشبه العام الأول. فدل ذلك كله أن منشئها ومحدثها مالك حكيم، وضع كل شيء موضعه، وأن ما أنشأ أنشأ لحكمة وتدبير لم ينشئها عبثا؛ فله الحكم والتدبير في الحل والحرمة والقسمة، ليس لأحد دونه حكم ولا تدبير في التحريم والتحليل: هذا حلال، وهذا حرام، وهذا لهذا، وهذا لهذا 1498؛ إنما ذلك إلى مالكها فخرج هذا، والله أعلم، يقابل ما كان منهم من قوله تعالى: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} [الأنعام: 138] [وقوله تعالى] 1499: {وهذا لشركائنا} [الأنعام: 136] وقوله تعالى {وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه} [الأنعام: 138] وغير ذلك من الآيات التي كانت فيها ذكر حكمهم 1500 على الله وإشراك أنفسهم في حكمهم. ثم اختلف في قوله: {معروشات} قيل: {معروشات} 1501 مبسوطات: ما تنبت منبسطا على وجه الأرض
{وغير معروشات}: ما يقوم بساقه، لا ينبسط على الأرض... {والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه} منها ما يكون متشابها في اللون مختلفا في الأكل والطعم، ومنها ما يكون مختلفا في اللون والمنظر متشابها في الطعم الأكل ليعلموا أن منشئها واحد وأنه حكيم؛ أنشأها على حكمة، وأنه مدبر؛ أنشأها عن تدبير؛ لم ينشئها عبثا... وقوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر} ولا تحرموا؛ خرج على مقابلة ما كان منهم من التحريم؛ أي كلوا منها، ولا تحرموا ليضيع ويفسد...
وقيل في قوله تعالى: {ولا تسرفوا} أي: لا تمنعوا الأكل، ولكن كلوا من بعضه، وآتوا حقه من بعضه،... والإسراف هو الذي لا ينتفع به أحد، وما كانوا جعلوا لشركائهم لا ينتفعون به هم، ولا انتفع به أحد، يكون مقابل قوله تعالى: {هذه أنعام وحرث حجر} الآية [الأنعام: 138]...
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر، وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول، وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة من أنكر البعث والقيامة، ثم أتبعه بحكاية أقوالهم الركيكة، وكلماتهم الفاسدة في مسائل أربعة. والمقصود التنبيه على ضعف عقولهم، وقلة محصولهم، وتنفير الناس عن الالتفات إلى قولهم، والاغترار بشبهاتهم فلما تمم هذه الأشياء عاد بعدها إلى ما هو المقصود الأصلي، وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد فقال: {وهو الذى أنشأ جنات معروشات}. واعلم أنه قد سبق ذكر هذا الدليل في هذه السورة، وهو قوله: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} فالآية المتقدمة ذكر تعالى فيها خمسة أنواع، وهي: الزرع والنخل، وجنات من أعناب والزيتون والرمان، وفي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ذكر هذه الخمسة بأعيانها لكن على خلاف ذلك الترتيب لأنه ذكر العنب، ثم النخل، ثم الزرع، ثم الزيتون ثم الرمان وذكر في الآية المتقدمة {مشتبها وغير متشابه} وفي هذه الآية {متشابها وغير متشابه} ثم ذكر في الآية المتقدمة {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} فأمر تعالى هناك بالنظر في أحوالها والاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم، وذكر في هذه الآية {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} فأذن في الانتفاع بها، وأمر بصرف جزء منها إلى الفقراء، فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أن هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم. وههنا أذن في الانتفاع بها، وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم مقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية. والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء، والأول أولى بالتقديم، فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الإذن بالانتفاع بها...
ثم قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر} وفيه مباحث. البحث الأول: أنه تعالى لما ذكر كيفية خلقه لهذه الأشياء ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها، وهو انتفاع المكلفين بها، فقال: {كلوا من ثمره} واختلفوا ما الفائدة منه؟ فقال بعضهم: الإباحة. وقال آخرون: بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق، لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه، كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المساكين فيه، بل هذا هو الظاهر فأباح تعالى هذا الأكل، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعا من هذا التصرف. وقال بعضهم: بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل وإما التصدق، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق، لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير. قال تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات إلى تمام العشر بعدها في تتمة سياق مسألة تحريم المشركين ما لم يحرم الله تعالى من الأنعام وغيرها من الأغذية وما يتعلق به، وقد قلنا إنه ذكر في هذه السورة المنزلة في أصول الدين وما يقابلها من أصول الشرك والكفر لأنه من هذه الأصول لا لمجرد كونه من جهالاتهم وضلالاتهم العملية. ذلك بأن أصل الدين الأعظم توحيد الله تعالى باعتقاد الألوهية والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع بأن نؤمن بأنه لا رب ولا خالق غيره ولا إله يعبد معه أو من دونه ولا شارع سواه لعبادة ولا حلال ولا حرام، وفي هذه العقيدة منتهى تكريم الإنسان فتأمل ذلك كله في هذه الآيات البينات. {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} الإنشاء: إيجاد الأحياء وتربيتها، وكذا كل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب وكتب العلم والشعر والدور. والجنات البساتين والكروم الملتفة الأشجار بحيث تجن الأرض وتسترها. والمعروشات: المسموكات على العرائش وهي ما يرفع من الدعائم ويجعل عليها مثل السقوف من العيدان والقصب. ومادة عرش تدل على الرفع ومنها عرش الملك.
والمعروشات معروفة عند العامة والخاصة يقال عرش دوالي العنب عرشا وعروشا وعرشها تعريشا إذا رفعه على العريش. ويقال عرشت الدوالي تعرش (بكسر الراء) إذا ارتفعت بنفسها. وعن ابن عباس أن المعروشات ما يعرش من الكرم وغيره وغير المعروشات ما لا يعرش منها. وفي رواية عنه أن الأول ما عرش الناس أي في الأرياف والعمران والثاني ما خرج في الجبال والبرية من الثمرات.
والمعهود أن الكرم منه ما يعرش ومنه ما يترك منبسطا على الأرض وكله من جنس المعروشات التي أودع الله فيها خاصية التسلق والاستمساك بما تتسلق عليه من عريش مصنوع أو شجر أو جدار ونحوه فالمتبادر من صيغة الجمع في القسمين أن المراد بالأول أنواع المعروشات بالقوة كالكرم وإن لم يوجد ما تعرش عليه بالفعل وبالثاني غير المعروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوي على سوقه ولا يتسلق على غيره، وخصهما بعضهم بالكرم، وعلى هذا يكون عطف النخل عليه وقرنه به لأنه قسيمه في كون ثمرها من أصول الأقوات وقرينه فيما سيأتي بيانه من الفوائد والشبه.
وأما على القول بأن النخل من قسم الجنات غير المعروشات فيكون ذكره تخصيصا له من أفراد العام لما فيه من المنافع الكثيرة ولا سيما للعرب فإن يسره ورطبه فاكهة وغداء، وتمره من أفضل الأقوات التي تدخر، وأيسرها تناولا في السفر والحضر ليس فيه مؤنة ولا يحتاج إلى طبخ ولا معالجة، ونواه علف للرواحل، ولهم منه شراب حلال لذيذ إذا نبذ في الماء زمنا قليلا وهو النبيذ أي النقوع وكان أكثر خمرهم منه ومن بسره (ولا منة في الرجس) دع ما في جريد النخل وليفه من المنافع والفوائد فهو بمجموع هذه المزايا يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه وأشبه به شكلا ولونا في عنبه وزبيبه ومنافعه تفكها وتغذيا وتحليا وشربا.
ثم عطف عليه الزرع وهو النبات الذي يكون بحرث الناس وهو عام لكل ما يزرع على القول بالعموم فيما قبله. وأما على القول بتخصيص الجنات بالكرم فينبغي أن يخص بما يأتي منه القوت كالقمح والشعير ويكون ترتيب المعطوفات على طريقة الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم فإن الحبوب هي التي عليها معول أكثر البشر في أقواتهم وهذا عكس الترتيب في قوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه} (الأنعام 98) فترتيب الأقوات في هذه الآية على طريق التدلي من الأعلى في الاقتيات إلى الأدنى فالأدنى، والفرق بينهما أن هذه جاءت في مقام سرد الآيات الكونية على وحدانية الله وقدرته وحكمته ورحمته بعباده. وقبلها آيات في آياته في العالم العلوي وفي خلق الإنسان وهو دونه وعالم النبات أدنى منهما فروعي التدلي في أنواعه كما روعي فيما بينه وبين ما قبله.
والمقام في الآية التي نفسرها وما بعدها مقام ذكر الأقوات لبيان شرع منشئها في إباحتها في مقابلة ضلال المشركين فيما ذكر قبلها من التحليل والتحريم بأهواء الشرك وهو قوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا...} (الأنعام 136) فقدم هناك الحرث على الأنعام لأن ضلالهم فيه أقل من ضلالهم فيها وجرى هنا على الترتيب فذكر الحرث أولا لما ذكر وترقى إلى ذكر الأنعام لكثرة ضلالهم فيها وما يحتاج إليه من تفضيل القول الحق في ذلك، وهو انتقال من المهم إلى الأهم في المعنى المراد وتأخير لما اقتضت الحال إطالة القول فيه على الأصل. فحسن الترقي في ذكر أنواع الأقوات النباتية تفصيلا كما حسن فيها بينها بجملتها وبين الأقوات الحيوانية. ولما ذكرنا من اختلاف المقام في الآيتين قال في آية: {انظروا إلى ثمره} (الأنعام 99) وقال هنا {كلوا من ثمره} ولم أر أحدا تعرض لهذه النكت هنا.
أنشأ تعالى ما ذكر {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} الأكل: ما يؤكل... والضمير فيه قيل إنه راجع إلى الزرع ومنه يعلم حكم ما قبله وقيل بالعكس، والأرجح أنه راجع إلى كل ما قبله. والمعنى أنه أنشأ ما ذكر من الجنات والنخل والزرع حال كونه مختلفا ثمره الذي يؤكل منه في شكله ولونه وطعمه وريحه عندما يوجد أي قدر ذلك فيه عند إنشائه،...
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم، قاله ابن جريج، قيل إن المراد التشابه بين الزيتون والرمان في شكل الورق دون الثمر، وقيل بل المراد ما بين أنواع الرمان من التشابه في الشجر والثمر مع التفاوت في الطعم من حلو وحامض ومر وفي لون الحب من أحمر قاني قمد أو فقاعي وأبيض ناصع أو أزهر مشرب بحمرة. ويراجع في هذا وفي مكان الزيتون والرمان مما ذكر قبله تفسير الآية (98) من هذه السورة ومنه تعلم وجه تخصيص هذين النوعين بالذكر.
{كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي كلوا من ثمر ذلك الذي ذكر من أول الآية على ما اخترناه في قوله مختلفا أكله وسيأتي معنى هذا الشرط. وقد قالوا إن الأمر هنا للإباحة أي بعد أن آذن الله تعالى عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما في الأرض من الشجر والنبات الذي يستغلون منه أقواتهم آذنهم بأنه أباحه كله لهم فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم، لأن التحريم حق للرب الخالق للعباد والأقوات جميعا فمن انتحله لنفسه فقد جعل نفسه شريكا له تعالى، ومن أذعن لتحريم غير الله وأطاعه فيه فقد أشركه معه سبحانه وتعالى، كما علم من تفسير الآيات التي قبل هذه ويؤكده ما في الآيات بعدها والكلام في التحريم الديني كما هو ظاهر. وأما منع بعض الناس من بعض هذا الثمر لسبب غير التشريع الديني فلا شرك فيه، وقد يوافق بعض أدلة الشرع فيكون منعا شرعيا أي تحريما كمنع الطبيب بعض المرضى من أكل الخبز أو الثمر لأنه يضره، فمن ثبت عنده بشهادة الطبيب الثقة أن التمر يضره مثلا حرم عليه أن يأكله، وهذا التحريم ليس تشريعا من الطبيب بل الله تعالى هو الذي حرم كل ضار وإنما الطبيب معرف للمريض بأنه ضار فلا فرق بينه وبين من يخبر بأن هذا الطعام قد طبخ بلحم الخنزير أو لحم كبش أهل به لغير الله فيحرم على كل من صدقه أكله ما لم يكن مضطرا إليه. وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطير في بعض الأحوال للمصلحة العامة كالحاجة إلى كثرته في حفظ بعض الزرع لأنه يأكل الحشرات المهلكة له مثلا. ولكن مثل هذين ليس تحريما ذاتيا لما ذكر يدوم بدوامه بل موقت بدوام سببه، ولا هو مبني على أن للسلطان أن يحرم بمحض إرادته وإنما هو مكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد فإذا أخطأ في اجتهاده بشيء من ذلك وجب على الأمة الإنكار عليه ووجب عليه الرجوع إلى الحق.
وقوله: {إذا أثمر} لإفادة أن أول وقت إباحة الأكل وقت اطلاع الشجر الثمر والزرع الحب لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع، وفي آية أخرى كلوا من {ثمره إذا أثمر وينعه} (الأنعام 99} فالكرم ينتفع به بثمره حصرما فعنبا فزبيبا، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا، والقمح يؤكل حبه فريكا قبل يبسه وأكله برا مطبوخا أو طحنه وجعله خبزا. وقيل إن المراد إباحة الأكل منه قبل أداء حقه الذي أمر به في قوله:
{وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أي وأعطوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده في جملته بحسب العرف، لا كل طائفة منه ولا بعد تنقيته وفيه تغليب الحصاد الخاص بالزرع في الأصل فيدخل فيه جني العنب وصرم النخل، كتغليب الثمر فيما قبله لإدخال حب الحصيد فيه وهو في الأصل خاص بالشجر، وهذه مقابلة تشبه الاحتباك جديرة بأن تعد نوعا خاصا من أنواع البديع...
يعني أن هذا الأمر في الصدقة المطلقة غير المحدودة المعينة ويؤيده أن السورة مكية والزكاة المحدودة فرضت بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وقيل إنه في الزكاة المفروضة المحدودة في الأقوات التي هي العشر وربع العشر... ويرد عليه الإجماع على أن السورة مكية ولم يصح استثناء هذه الآية منها إلا أن يقال: مرادهم أن الإطلاق فيها قيد بعد الهجرة بالمقادير التي بينتها الزكاة كأمثالها من الآيات المكية التي ورد فيها الأمر بالزكاة، وقد صرح بعضهم بأن الزكاة المقيدة المعروفة نسخت فرضية الزكاة المطلقة والنسخ عند السلف أعم من النسخ في عرف الأصوليين فيدخل فيه تخصيص العام... وهذا هو الصواب ومعناه نسخ فرضيتها المطلقة فلم يبق بعد فرض الزكاة المحدودة إلا صدقة التطوع كما هو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما سأله بعد أن أخبره بالزكاة المفروضة: هل علي غيرها؟ قال صلى الله عليه وسلم "لا إلا أن تطوع "396 على أن الزكاة المحدودة المعينة لا يمكن أداؤها يوم الحصاد وما تأولوه في ذلك فهو تكلف. فإن قلت أليس إطعام المعدم المضطر واجبا على من علم بحاله؟ قلنا الكلام في الحق الواجب على الأعيان في الأموال بشروطها المعروفة، وإغاثة المضطر من الواجبات الكفائية العارضة لا العينية الثابتة. والحصاد بفتح الحاء وكسرها مصدر حصد الزرع إذا جزه أي قطعه كما قال في الأساس قرأه ابن كثير ونافع وحمزة بالكسر والباقون بالفتح...
وقوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فيه ثلاثة أوجه تقدير الأول كلوا مما رزقكم الله ولا تسرفوا في الأكل كقوله تعالى في سورة الأعراف: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف 31) وهو في معنى ما تقدم في سورة المائدة: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (المائدة 87) فالإسراف مجاوزة الحد والاعتداء كذلك والحد الذي ينهى عن تجاوزه إما شرعي كتجاوز الحلال من الطعام والشراب وما تعلق بهما إلى الحرام، وإما فطري طبعي وهو تجاوز حد الشبع إلى البطنة الضارة. والوجه الثاني: لا تسرفوا في الصدقة أي في أمرها،... وجعل بعضهم الإسراف في أمر الصدقة منعها فعن سعيد ابن المسيب في قوله: {ولا تسرفوا} قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا. وجعله بعضهم خاصا بالحكام الذين يأخذون الصدقات...
والوجه الثالث: أن النهي عام يشمل الإسراف في أكل الإنسان من ماله بغير سرف وفي إنفاقه على غيره من صدقة وغيرها، فالإسراف مذموم في كل شيء...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
...وهذه الآية تتضمن الإشارة إلى ما خلقه الله من أنواع النبات المختلفة، ما ينبت منها دون تدخل ولا عناية خاصة من جانب الإنسان، وما ينبت منها متوقفا على تجربة الإنسان التي هداه الله إليها، وعلى عنايته الخاصة {معروشات وغير معروشات} كما تتضمن نفس الآية الإشارة إلى ما أنشأه الله في النبات من مختلف الأنواع والأشكال والألوان والطعوم {مختلفا أكله} {متشابها وغير متشابه} مما هو دليل القدرة الواسعة، والنعمة السابغة، ثم قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} فدعا خلقه أولا إلى تناول ما أنعم به عليهم من النبات والثمرات لفائدتهم ولتغذيتهم، ولقضاء حاجاتهم المتنوعة، والمتفرعة على نجاح عملية الإنبات والإثمار، ودعا خلقه ثانيا إلى القيام بأداء حق الله في نفس تلك النباتات ونفس تلك الثمرات و "حق الله "هو في الحقيقة حق الضعفاء من خلقه، من الفقراء والمساكين، وكافة المحتاجين، وإنما أطلق عليه "حق الله" ضمانا منه سبحانه وتعالى لحقوق الضعفاء والمحرومين، حتى يكون من ضيع حقهم إنما ضيع حق الله، ومن أهمل شأنهم إنما أهمل شأن الله، وهو سبحانه الذي يتولى حسابه العسير، على النقير والقطمير {وكفى بالله حسيبا}. ثم قال تعالى: في نفس السياق {ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين} تنبيها إلى أمرين اثنين: الأمر الأول هو إرشاد إلى عدم الإسراف في الأكل من الثمرات والنباتات، وهذا يتضمن إرشادا إلهيا صحيا متعلقا بصحة المؤمن العامة، وسلامة جسمه، وثقوب ذهنه، فمن لم يسرف في الأكل وتوابعه، ولم يأخذ منه أكثر من حاجته تمتع بجسم سليم وعقل سليم، ومن أسرف في الأكل وتوابعه أسرع بخطاه إلى العطب والهلاك جسما وعقلا، وهذا المعنى يؤكده قوله تعالى في آية أخرى {وكلوا واشربوا، إنه لا يحب المسرفين} وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة). والأمر الثاني هو الإرشاد إلى عدم الإسراف في الحقوق الاجتماعية التي جعلها الله للغير، وإلى عدم التوسع فيها أكثر من المطلوب، إذا كان ذلك على حساب الحقوق الأخرى التي جعلها الله للنفس والأهل والعيال، وهذا يتضمن إرشادا إلهيا له مساس بحياة الفرد الاقتصادية...