وبعد أن حذر - سبحانه - المؤمنين تحذيرا شديدا من موالاة أعدائه . عقب ذلك بتوبيخ أهل الكتاب على عنادهم وحسدهم ، ووصفهم بجملة من الصفات القبيحة التي ينأى عنها العقلاء وأصحاب المروءة فقال - تعالى - :
{ قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ . . . }
قال القرطبي : قال ابن عباس : " جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل - عليهم السلام - فقال : نؤمن بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله : ونحن له مسلمون " . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شراً من دينكم . فنزلت هذه الآية وما بعدها .
وتنقمون معناه : تسخطون . وقيل تكرهون . وقيل تنكرون . والمعنى متقارب يقال : نقم من كذا ينقم ونقم ينقم والأول أكثر . . وفي التنزيل وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . وانتقم منه أي : عاقبة : والاسم النقمة والجمع نقم .
والاستفهام ، للانكار والتعجب من حالهم حيث يعيبون على المؤمنين ما هو المدح والثناء والتكريم .
والمعنى : قل يا محمد على سبيل التوبيخ لأهل الكتاب ، والتعجيب من أحوالهم قل لهم : { ياأهل الكتاب } يا من كتابكم عرفكم مواطن الذم { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ } أي : ما تعيبون وتنكرون وتكرهون منا { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله } الذي يجب الإِيمان به ، والخضوع له ، لأنه الخالق لكل شيء ، وآمنا بما أنزل إلينا من القرآن الكريم وآمنا بما أنزل من قبل من كتب سماوية كالتوراة والإِنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل إنزال القرآن الكريم .
ولا شك أن إيماننا بذلك لا يعاب ولا ينكر ، بل يمدح ويشكر ، ولكن لأن { أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } - أي : خارجون عن دائرة هذا الإِيمان الحق - كرهتم منا ذلك ، وأنكرتموه علينا ، وحسدتمونا على توفيق الله إيانا لما يحبه ويرضاه .
وقال الجمل ما ملخصه : وقوله : { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } مفعول لقوله { تَنقِمُونَ } بمعنى تكرهون .
وهو استثناء مفرغ . وقوله : { منا } متعلق به . أي ما تكرهون من جهتنا إلا الإِيمان بالله وبما أنزل إلينا وأصل نقم أن يتعدى بعلى . تقول : نقمت عليه بكذا . وإنما عدي هنا بمن ؛ لتضمنه معنى تكرهون وتنكرون .
وقوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } يحتمل أن يكون في محل رفع أو نصب أو جر فالرفع على أن يكون مبتدأ والخبر محذوف أي : وفسقكم ثابت عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل إلا أن حب الرياسة وجمع الأموال حملكم على العناد .
والنصب على أن يكون معطوفا على قوله { أن آمنا } ولكن الكلام فيه مضاف محذوف لفهم المعنى . والتقدير : واعتقاد أن أكثرهم فاسقون وهو معنى واضح فإن الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم - أي الكفار - فاسقون - أي : ما تعيبون منا إلا إيماننا بالله وما أنزل إلينا . واعتقادنا أن أكثركم فاسقون .
وأما الجر فعلى أن يكون معطوفاً على علة محذوفة والتقدير : ما تنقمون منا إلا الإِيمان بالله وبما أنزل .
لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم شهواتكم .
هذا ومن بلاغة القرآن الكريم ، وإنصافه في الأحكام ، واحتراسه في التعبير أنه لم يعمم الحكم بالفسق على جميعهم . بل جعل الحكم بالفسق منصباً على الأكثرين منهم ، حتى يخرج عن هذا الحكم القلة المؤمنة من أهل الكتاب .
وشبيه بهذا قوله في آية أخرى : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } قال بعض العلماء : في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس ، حيث جعلوا الإِيمان بما ذكر ، موجبا للنقمة ، مع كونه في نفسه موجبا للقبول والرضا . وهذا مما تقصد العرب في مثله تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء وذلك الشيء لا يقتضي إثباته فهو منتف أبداً . ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس . فمن الأول قول القائل :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . . . بهن فلول من قراع الكتائب
فتى كملت أخلاقه غير أنه . . . جواد ، فما يبقى من المال باقياً
ومن الثاني هذه الآية وما يشبهها . أي : ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئاً إلا هذا ، وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئاً إذاً فليس هناك شيء ينقمونه ، وما دام الأمر كذلك ، فينبغي لهم أن يؤمنوا ولا يكفروا . وفيه أيضاً تقريع لهم حيث قابلوا الإِحسان بسوء الصنيع .
هذه الجمل معترضة بين ما تقدّمها وبين قوله : { وإذا جاؤوكم } [ المائدة : 61 ] . ولا يتّضح معنى الآية أتمّ وضوح ويظهرُ الدّاعي إلى أمْرِ الله ورسوله عليه الصّلاة والسلام بأن يواجههم بغليظ القول مع أنّه القائل { لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظُلم } [ لنساء : 148 ] والقائل { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالّتي هي أحسن إلاّ الّذين ظلموا منهم } [ العنكبوت : 46 ] إلاّ بعد معرفة سبب نزول هذه الآية ، فيعلم أنّهم قد ظَلَموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين . فذكر الواحدي وابن جرير عن ابن عبّاس قال : جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بنُ أخطب ، ورافعُ بن أبي رَافع ، وعازر ، وزيد ، وخالد ، وأزار بن أبي أزار ، وأشيع ، إلى النّبيء فسألوه عمّن يُؤمِن به من الرسل ، فلمّا ذكر عيسى ابن مريم قالوا : لا نؤمن بمَن آمن بعيسى ولا نعلم ديناً شَرّاً من دينكم وما نعلم أهلَ دين أقلّ حظّاً في الدنيا والآخرة منكم ، فأنزل الله { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنا بالله } إلى قوله { وأضلّ عن سواء السبيل } . فخصّ بهذه المجادلة أهل الكتاب لأنّ الكفّار لا تنهض عليهم حجّتها ، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود كما يُنبىء به الموصولُ وصلتُه في قوله : { مَن لَعنه اللّهُ وغضب عليه } الآية . وكانت هذه المجادلة لهم بأنّ ما ينقمونه من المؤمنين في دينهم إذا تأمّلوا لا يجدون إلاّ الإيمانَ بالله وبما عند أهل الكتاب وزيادة الإيمان بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم .
والاستفهام إنكاري وتعجّبي . فالإنكار دلّ عليه الاستثناء ، والتعجّبُ دلّ عليه أنّ مفعولات { تنقمون } كلّها محامد لا يَحقّ نَقْمُها ، أي لا تجدون شيئاً تنقمونه غير ما ذكر . وكلّ ذلك ليس حقيقاً بأن يُنقم . فأمّا الإيمان بالله وما أنزل من قبلُ فظاهر أنّهم رَضُوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثَلَهم فيه ، وأمّا الإيمان بما أنزل إلى محمّد فكذلك ، لأنّ ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهُمّ أهل الكتاب ، وَدَعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فما وجْه النقْم منه . وعدّي فعل { تنقمون } إلى متعلِّقه بحرف ( من ) ، وهي ابتدائية . وقد يعدّى بحرف ( على ) .
وأمّا عطف قوله تعالى : { وأنّ أكثرهم فاسقون } فقرأه جميع القرّاء بفتح همزة ( أنّ ) على أنّه معطوف على { أن آمنّا بالله } .
وقد تحيّر في تأويلها المفسّرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أنّ ذلك لا يَعترف به أهله ، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس ممّا يُنْقَم على المُؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه ، وعلى تقدير أن يكون ممّا يُنقم على المؤمنين فليس نقْمُه عليهم بمحلّ للإنكار والتعَجّب الّذي هو سياق الكلام .
فذهب المفسّرون في تأويل موْقع هذا المعطوف مذاهب شتّى ؛ فقيل : هو عطف على متعلّق { آمنَّا } أي آمنّا بالله ، وبفسق أكثركم ، أي تَنقِمون منّا مجموعَ هذين الأمرين . وهذا يُفيت معنى الإنكار التعجّبي لأنّ اعتقاد المؤمنين كَونَ أكثر المخاطبين فاسقون يجعل المخاطبين معذورين في نقْمه فلا يتعجّب منه ولا ينكر عليهم نقمه ، وذلك يخالف السياق من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه فلا يلتئم مع المعطوف عليه ، فالجمع بين المتعاطفين حينئذٍ كالجمع بين الضبّ والنّون ، فهذا وجه بعيد .
وقيل : هو معطوف على المستثنى ، أي ما تنقمون منّا إلاّ إيمانَنا وفسقَ أكثركم ، أي تنقمون تخالف حالينا ، فهو نَقْمُ حَسَد ، ولذلك حسن موقع الإنكار التعجّبي . وهذا الوجه ذكره في « الكشاف » وقَدّمَه وهو يحسن لو لم تكن كلمة { مِنّا } لأنّ اختلاف الحالين لا ينقم من المؤمنين ، إذ ليس من فعلهم ولكن من مُصَادفة الزّمان .
وقيلَ : حُذف مجرور دلّ عليه المذْكور ، والتّقدير : هل تنقمون منّا إلاّ الإيمانَ لأنّكم جائرُون وأكثركم فاسقون ، وهذا تخريج على أسلوب غير معهود ، إذ لم يعرف حذف المعطوف عليه في مثل هذا . وذكر وجهان آخران غير مرضيين .
والّذي يظهر لي أن يكون قوله : { وأنّ أكثركم فاسقون } معطوفاً على { أنّ آمنّا بالله } على ما هو المتبادر ويكون الكلام تهكّماً ، أي تنقمون منّا أنّنا آمنّا كإيمانكم وصدّقنا رسلكم وكتبكم ، وذلك نَقْمُهُ عجيب وأنّنا آمنّا بما أنزل إلينا وذلك لا يهمّكم . وتنقمون منّا أنّ أكثركم فاسقون ، أي ونحنُ صالحون ، أي هذا نَقْم حَسَد ، أي ونحن لا نملك لكم أن تكونوا صالحين . فظهرت قرينة التهكّم فصار في الاستفهام إنكار فتعَجُّب فتهكُّم ، تولَّد بعضُها عن بعض وكّلها متولّدة من استعمال الاستفهام في مجازاته أو في معان كنائية ، وبهذا يكمل الوجه الّذي قدّمه صاحب « الكشاف » .
ثمّ اطّرد في التهكّم بهم والعَجبِ من أَفَن رأيهم مع تذكيرِهم بمساويهم فقال : { قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله } الخ . وشرّ اسم تفضيل ، أصله أشَرّ ، وهو للزيادة في الصفة ، حذفت همزته تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، والزّيادة تقتضي المشاركة في أصل الوصف فتقتضي أنّ المسلمين لهم حظّ من الشرّ ، وإنّما جَرى هذا تهكّماً باليهود لأنّهم قالوا للمسلمين : لا دِينَ شَرّ من دينكم ، وهو ممّا عبّر عنه بفعل { تنقمون } . وهذا من مقابلة الغلظة بالغلظة كما يقال : « قُلْتَ فأوْجبْت » .
والإشارة في قوله { من ذلك } إلى الإيمان في قوله : { هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا بالله } الخ باعتبار أنّه منقوم على سبيلِ الفرض . والتّقدير : ولمّا كان شأن المنقوم أن يكون شرّاً بني عليه التهكّم في قوله : { هل أنبّئكم بشرّ من ذلك } ، أي ممّا هو أشدّ شرّاً .
والمثُوبة مشتقّة من ثَاب يثوب ، أي رجع ، فهي بوزن مفعولة ، سمّي بها الشيء الّذي يثوب به المرء إلى منزله إذا ناله جزاء عن عملٍ عملَه أو سعْي سعاه ، وأصلها مثوب بها ، اعتبروا فيها التّأنيث على تأويلها بالعطيّة أو الجائزة ثمّ حذف المتعلّق لكثرة الاستعمال .
وأصلها مؤذن بأنّها لا تطلق إلاّ على شيء وجودي يعطاه العامل ويحمله معه ، فلا تطلق على الضّرْب والشتم لأنّ ذلك ليس ممّا يثُوب به المرء إلى منزله ، ولأنّ العرب إنّما يبْنون كلامهم على طباعهم وهم أهل كرم لنزيلهم ، فلا يريدون بالمثوبة إلاّ عطية نافعة . ويصحّ إطلاقها على الشيء النّفيس وعلى الشيء الحقير من كلّ ما يثوب به المعطَى . فَجَعْلها في هذه الآية تمييزاً لاسم الزيادة في الشرّ تهكّم لأنّ اللّغة والغضب والمسخ ليست مثوبات ، وذلك كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَيْنَاكم فعجَّلْنَا قِراكم *** قُبَيْلَ الصبح مِرْداة طحونا
وخيلٍ قد دَلَفتُ لها بِخيْل *** تَحِيَّةُ بَيْنهم ضرْب وَجِيع
وقوله : { مَن لَعَنَهُ الله } مبْتدأ ، أريد به بيان من هو شرّ مثوبة . وفيه مضاف مقدّر دلّ عليه السياق . وتقديره : مثوبةُ مَنْ لَعنهُ الله . والعدول عن أن يقال : أنتم أو اليهودُ ، إلى الإتيان بالموصول للعِلم بالمعنيّ من الصلة ، لأنّ اليهود يعلمون أنّ أسلافاً منهم وقعت عليهم اللّعنة والغضب من عهد أنبيائهم ، ودلائله ثابتة في التّوراة وكتب أنبيائهم ، فالموصول كناية عنهم .