ثم تحدثت السورة الكريمة فى أواخرها من مصارع المكذبين السابقين ، وعن مظاهر قدرة الله - تعالى - وعن الدواء الذى يزيل عن القلوب همومها ، وعن أهوال يوم القيامة ، فقال - تعالى - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ . . . مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .
و { كَمْ } فى قوله - تعالى - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } خبرية بمعنى كثير ، وهى منصوبة بما بعدها ، والقرن يطلق على جماعة من الناس تعيش فى زمن واحد ، ومقداره مائة سنة - على الراجح - .
وقوله : { مِّن قَرْنٍ } تمييز لكم ، وجملة { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } صفة ، والبطش : السطوة والأخذ بشدة . أى : واعلم - أيها الرسول الكريم - أننا أهلكنا كثيرا من القرون الماضية التى كذبت رسلها ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وقد كانوا أشد من قومك قوة وأكثر جمعا ، وما دام الأمر كما ذكرنا لك ، فلا تحزن ولا تبتئس لما يصيبك من الكافرين المعاصرين لك ، فنحن فى قدرتنا أن ندمرهم تدميرا .
والضمير فى قوله - تعالى - : { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } يعود إلى أهل تلك القرون المهلكة الماضية . والتنقيب : السير فى الأرض ، والطواف فيها . والبحث بين أرجائها ، يقال : نقب فلان فى الأرض ، إذا ذهب فيها واصل النَّقْب : الخرق والدخول فى الشئ ، ومنه قولهم : نقب فلان الجدار ، إذا أحدث فيه خرقا .
والمراد به هنا : السير فى الأرض ، والتفتيش فيها . .
قال الآلوسى : { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } أى : ساروا فى الأرض وطوفوا فيها حذر الموت . .
نقبوا فى البلاد حذر الموت . . . وجالوا فى الأرض كل مجال
وشاع التنقيب فى العرب بمعنى التنقير عن الشئ والبحث عن أحواله . .
والفاء على تفسير التنقيب بالسير ونحوه ، لمجرد التعقيب ، وعلى تفسيره بالتصرف للسببيه ، لأن تصرفهم فى البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم ، وهى على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها ، كأنه قيل : اشتد بطشهم فنقبوا فى البلاد .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } للإِنكار والنفى ، والمحيص : المعدل والمهرَب ، يقال : حاص فلان عن الشئ يحيص حَيْصاً ، ومَحِيصا ، إذا عدل وحاد عنه ، وحاول الهروب منه . أى : أن هؤلاء المكذبين السابقين ، كانوا أشد من مشركى قريش قوة وأكثر جميعا ، وكانوا أكثر ضربا فى الأرض وسيرا فيها فلما نزل بهم بأسنا حاولوا الهرب والفرار ، فلم يجدوا مكانا يهربون فيه ، بل نزل بهم عذابنا فدمرناهم تدميرا .
فعليكم - أيها المشركون - أن تعتبروا بهم ، حتى لا يصيبكم ما أصابهم .
فالمقصود بالآية الكريمة ، تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحذير أعدائه من سوء عاقبة الكفر والعناد .
انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ ق : 4 ] وما فُرّع عليه من قوله : { أفَعَيِينَا بالخلق الأول } [ ق : 15 ] . وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله : { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرّس إلى قوله : { فحقّ وعيد } [ ق : 12 ، 14 ] . فالوعيد الذي حقّ عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً } .
والخبر الذي أفاده قوله : { وكم أهلكنا قبلهم } تعريض بالتهديد وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وضميرا { قبلهم } و { منهم } عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ويفسره قوله بعده فقال الكافرون هذا شيء عجيب } [ ق : 2 ] . وجرى على ذلك السَّنَن قوله : { كَذَّبت قبلهم قوم نوح } وقوله : { بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] ، ونظائره في القرآن كثيرة .
و { كم } خبرية وجرّ تمييزها ب { من } على الأصل .
والبطش : القوة على الغير . والتنقيب : مشتق من النقْب بسكون القاف بمعنى الثقب ، فيكون بمعنى : خَرَقوا ، واستعير لمعنى : ذللوا وأخضعوا ، أي تصرفوا في الأرض بالحفر الغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله : { وأثارُوا الأرض وعَمَرُوها } في سورة الروم ( 9 ) .
وتعريف البلاد } للجنس ، أي في الأرض كقوله تعالى : { الذين طغوا في البلاد } [ الفجر : 11 ] .
والفاء في { فنقبوا } لتفريع عن { أشد منهم بطشاً } ، أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد .
والجملة معترضة بين جملة { وكم أهلكنا قبلهم } إلى آخره .
وجملة { هل من محيص } كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] .
وجملة { هل من محيص } بدل اشتمال من جملة { أهلكنا } ، أي إهلاكاً لا منجى منه . ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة . فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك دخلت { من } على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال : ما مِن محيص ، وهذا قريب من قوله في سورة ص ( 3 ) { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولاتَ حين مناص } .
والمحيص : مصدر ميمي من حَاص إذا عَدَل وجاد ، أي لم يجدوا محيصاً من الإهلاك وهو كقوله تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد } في سورة مريم ( 98 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.