ثم صور - سبحانه - أحوالهم السيئة يوم القيامة تصويرا مؤثرا فقال : { تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } .
أى : ترى - أيها العاقل - هؤلاء الظالمين يوم القيامة { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ } أى خائفين خوفا شديدا ، بسبب ما اكتسبوه فى الدنيا من سيئات على رأسها الكفر ، وهذا الذعر الشديد لن ينفعهم ، فإن العذاب واقع بهم لا محالة ، سواء أخافوا أم لم يخافوا .
وقوله - تعالى - : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } بيان للثواب العظيم الذى أعده الله - تعالى - لعباده المؤمنين .
والروضات : جمع روضة ، وهو أشرف بقاع الجنة وأطيبها وأعلاها .
أى : هذا هو مصير الظالمين يوم القيامة ، أما الذين آمنوا وعملوا فى دنياهم الأعمال الصالحات ، فهم يوم القيامة يكونون فى أشرف بقاع الجنات وأطيبها وأسماها منزلة ، حالة كونهم لهم ما يشاءون من خيرات عند ربهم .
{ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } أى : الذى أعطيناه للمؤمنين من خيرات ، هو الفضل الكبير . الذى لا يعادله فضل ، ولا يماثله كرم .
وقوله : { ترى الظالمين } هي رؤية بصر ، و { الظالمين } مفعول ، و : { مشفقين } حال وليس لهم في هذا الإشفاق مدح ، لأنهم إنما أشفقوا حين نزل بهم ووقع ، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة كما تقدم .
وقوله تعالى : { وهو واقع بهم } جملة في موضع الحال . والروضات : المواضع المؤنقة النظرة ، وهي مرتفعة في الأغلب من الاستعمال ، وهي الممدوحة عند العرب وغيرهم ، ومن ذلك قوله تعالى { كمثل جنة بربوة }{[10129]} ومن ذلك تفضيلهم روضات الحزن{[10130]} لجودة هوائها . قال الطبري : ولا تقول العرب لموضع الأشجار رياض .
جملة { ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا } بيان لِجملة { وإن الظالمين لهم عذاب أليم } [ الشورى : 21 ] ، بُيِّن حال هذا العذاب ببيان حال أصحابه حينَ تَوقُّعِ حلوله ، وكفى بذلك منبئاً عن هوله .
والخطاب ب { تَرى } لغير معيّن فيعم كل من تُمكن منه الرؤية يومئذٍ كقوله : { وترى الظالمين لمّا رأوا العذاب يقولون هل إلى مردَ من سبيل وتراهم يُعرضون عليها خاشعين من الذلّ } [ الشورى : 44 ، 45 ] . والمقصود استحضار صورة حال الظالمين يوم القيامة في ذهن المخاطب .
والإشفاق : توقع الشيء المضرّ وهو ضد التمَنّي .
و ( ما كسبوا ) هو أعمالهم السيئة . والمراد : جزاؤها بقرينة المقام . وجملة { وهو واقع بهم } في موضع الحال ، أي مشفقين إشفاقاً يقارب اليأس وهو أشد الإشفاق حين يعلمون أن المشفَق منه لا يُنجي منه حَذَر ، لأن الإشفاق إذا حصل قبل اقتراب المشفَق منه قد يحاول المشفِق وسائلَ التخلص منه ، فأما إذا وقع العذاب فقد حال دون التخلص حائله . والمعنى : مشفقين من عقاب أعمالهم في حال نزول العقاب بهم . وليس المعنى : أنهم مشفقون في الدّنيا من أعمالهم السيئة لأنهم لا يدينون بذلك ، فما بُني على ذلك الاحتمال من التفسير ليس بَيِّناً .
والباء في قوله { واقع بهم } للاستعلاء ، كقول غاوي السُّلَمي :
أَرَبٌّ يبول الثُعْلُبَانُ بِرأسه
وهذا الاستعمال قريب من معنى الإلصاق المجازي . وضمير { وهو واقع } عائد على { ما كسبوا } باعتبار تقدير مضاف ، أي جزاء ما كسبوا ، أي في حال أن الجزاء واقع عليهم .
وجملة { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } حال من الظّالمين ، والواو واو الحال ، أي ترى الظالمين في إشفاق في حال أن الذين آمنوا يطمئنون في روضات الجنات ، وفي هذه الحال دلالة على أن الذين آمنوا قد استقرّوا في الروضات من قبل عرض الظالمين على الحساب وإشفاقهم من تبعاته . وهذا من تضاد شأني الفريقين في الآخرة على عكسه بما كانوا عليه في الدّنيا المتقدم في قوله : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها } [ الشورى : 18 ] ، أي فاليوم انقلب إشفاق المؤمنين اطمئناناً واطمئنان المشركين إشفاقاً ، وشتّان بين الاطمئنانين والإشفاقين ، وبهذه المضادة في الحالتين وأسبابهما صحّ اعتبار كينونة الذين آمنوا في الجنة حالاً من { الظالمين } .
والروضات : جمع روضة ، وهي اسم لمجموع ماء وشجرٍ حافَ به وخضرةٌ حوله .
وجملة { لهم ما يشاءون عند ربهم } خبر ثان عن { الذين آمنوا } ، و { عند } ظرف متعلق بالكون الذي تعلق به الجَار والمجرور في { لهم ما يشاءون } .
والعندية تشريف لمعنى الاختصاص الذي أفادته اللام في قوله : { لهم } وعناية بما يُعطَوْنَه من رغبة . والمعنى : ما يشاؤونه حق لهم محفوظ عند ربهم . ولا ينبغي جعل { عند } متعلقاً بفعل { يشاءون } لأن { عند } حينئذٍ تكون ظرفاً لمشيئتهم ، أي مشيئةٍ منهم متوجهةٍ إلى ربّهم ، فتؤول المشيئة إلى معنى الطلب أن يعطيهم ما يطلبون فيفوت قصد التشريف والعناية .
ولك أن تجعل عند ربّهم خبراً ثالثاً عن الذين آمنوا ، أي هم عند ربّهم ، أي في ضيافته وقِراه ، كما قال تعالى : { إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 54 ، 55 ] ، ويكون ترتيب الأخبار الثلاثة جارياً على نمط الارتقاء من الحَسن إلى الأحسن بأن : أخبر عنهم بأنهم نزلوا في أحسن منزل ، ثم أحضر لهم ما يشتهون ، ثم ارتقي إلى ما هو أعظم وهو كونهم عند ربهم على حد قوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] . ومن لطائف هذا الوجه أنه جاء على الترتيب المعهود في الحصول في الخارج فإن الضيف أو الوافد ينزل أول قدومه في منزل إكرام ثم يحضر إليه القرى ثم يخالطه رب المنزل ويقترب منه .
وجملة { ذلك هو الفضل الكبير } تذييل . والإشارةُ إلى مضمون قوله : { في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم } بتأويل : ذلك المذكورُ . وجيء باسم إشارة البعيد استعارة لكون المشار إليه بعيد المكانة بُعد ارتفاع مجازي وهو الشرف .
و { الفضل } يجوز أن يكون مصدراً بمعنى الشرف والتفوق على الغير فيكون في معنى : فَضْلُهم ، ويجوز أن يكون اسماً لما يُتفضل به من عطاء فيكون في معنى : ذلك فضْلُنا عليهم ، وفي هذا الأخير دلالة على أن ثواب الأعمال فضل من الله لأن طاعة العباد واجبة عليهم فإذا أدّوها فقد فعلوا ما لا يسعهم إلا فعله فلو لم يثابوا على ذلك لم يكن عدم إثابتهم ظُلماً .
وضمير الفَصْل يفيد قصراً ادعائياً للمبالغة في أعظمية الفضل ، و { الفضل } يصلح لأن يعتبر كالمضاف إلى المفعول ، أي فضل الله عليهم ، وأن يعتبر كالمضاف إلى الفاعل فضلهم ، أي شرفهم وبركتهم فيؤول معنى القصر إلى أن الفضل الذي حصل للذين آمنوا وعملوا الصالحات أكبر فضل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر بمستقر المؤمنين والكافرين في الآخرة، فقال: {ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا} من الشرك، {وهو واقع بهم}، يعني العذاب، في التقديم.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات}، يعني بساتين الجنة.
{لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك} الذي ذكر من الجنة، {هو الفضل الكبير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ترى يا محمد الكافرين بالله يوم القيامة "مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا": وَجِلِين خائفين من عقاب الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمالهم الخبيثة.
"وَهُوَ وَاقِعٌ بهِمْ": والذين هم مشفقون منه من عذاب الله نازل بهم، وهم ذائقوه لا محالة.
"وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنّاتِ": والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر ونهى في الدنيا في روضات البساتين في الآخرة. ويعني بالروضات: جمع روضة، وهي المكان الذي يكثر نبته.
"لَهمْ ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ "يقول للذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في الآخرة ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم.
ذلك هو الفضل الكبير: هذا الذي أعطاهم الله من هذا النعيم، وهذه الكرامة في الآخرة: هو الفضل من الله عليهم، الكبير الذي يفضل كلّ نعيم وكرامة في الدنيا من بعض أهلها على بعض.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر إشفاق الكفرة والظلمة وخوفهم في الآخرة وإشفاق المؤمنين وخوفهم في الدنيا. فمن خاف عقوبته في الدنيا أمّنه الله من خوف الآخرة، ومن استهزأ بعذاب الله في الدنيا خوّفه في الآخرة.
{ذلك هو الفضل الكبير} أخبر أن ما يعطي لهم في الآخرة، هو الفضل منه لا أنهم يستوجبون ذلك، وسمّاه كبيرا لأنه دائم، لا ينقطع أبدا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الإشفاق: الخوف من جهة الرقة على المخوف عليه من وقوع الأمر.
لهم ما يشاؤون عند ربهم "ومعناه لهم ما يشتهون من اللذات، لأن الإنسان لا يشاء الشيء إلا من طريق الحكمة أو الشهوة أو الحاجة في دفع ضرر، ودفع الضرر لا يحتاج إليه في الجنة، وإرادة الحكمة تتبع التكليف، فلم يبق بعد ذلك إلا أنهم يشاؤون ما يشتهون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ترى الظالمين} هي رؤية بصر، و {الظالمين} مفعول، و: {مشفقين} حال وليس لهم في هذا الإشفاق مدح؛ لأنهم إنما أشفقوا حين نزل بهم ووقع، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة كما تقدم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علم من هذا السياق كما ترى أنه لا بد من الفصل، وأن الفصل لا يكون إلا يوم القيامة، قال شارحاً للفصل بين الفريقين في ذلك اليوم مقبلاً على خطاب أعلى الخلق إشارة إلى أن هذا لا يفهمه حق الفهم ويوقن به حق الإيقان غيره صلى الله عليه وسلم، أو يكون المراد كل من يصح أن يخاطب إشارة إلى أن الأمر في الوضوح بحيث لا يختص به أحد دون أحد فقال: {ترى} أي في ذلك اليوم الذي لا يشك فيه عاقل لما له من الأدلة الفطرية الأولية والعقلية والنقلية.
{الظالمين} أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها.
{مشفقين} أي خائفين أشد الخوف كما هو حال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر.
ولما كان الكلام في الذين ظلمهم صفة راسخة لهم، كان من المعلوم أن كل عملهم عليهم، فلذلك عبر بفعل الكسب مجرداً فقال: {مما كسبوا} أي عملوا معتقدين لأنه غاية ما ينفعهم {وهو} أي جزاؤه ووباله الذي هو من جنسه حتى كأنه هو {واقع بهم} لا محالة من غير أن يزيدهم خوفهم إلا عذاباً في غمرات النيران، ذلك هو الخسران المبين، ذلك الذي ينذر به الذين ظلموا.
{والذين آمنوا} يصح أن يكون معطوفاً على مفعول {ترى} وأن يكون معطوفاً على جميع الجملة فيكون مبتدأ.
{وعملوا الصالحات} وهي التي أذن الله فيها غير خائفين مما كسبوا؛ لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه.
{في روضات الجنات} أي في الدنيا بما يلذذهم الله به من لذائد الأقوال والأعمال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال.
{لهم ما يشاؤون} أي دائماً أبداً كائن ذلك لكونه في غاية الحفظ والتربية والتنبيه على مثل هذا الحفظ لفت إلى صفة الإحسان، فقال: {عند ربهم} أي الذي لم يوصلهم إلى هذا الثواب العظيم إلا حسن تربيته لهم، ولطف بره بهم على حسب ما رباهم.
ولما ذكر ما لهم من الجزاء عظمه فقال: {ذلك} أي الجزاء العظيم الرتبة الجليل القدر {هو} لا غيره {الفضل} أي الذي هو أهل لأن يكون فاضلاً عن كفاية صاحبه ولو بالغ في الإنفاق {الكبير} الذي ملأ جميع جهات الحاجة وصغر عنده كل ما ناله غيرهم من هذا الحطام، فالآية كما ترى من الاحتباك: أثبت الإشفاق أولاً دليلاً على حذف الأمن ثانياً، والجنات ثانياً دليلاً على حذف النيران أولاً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب ب {تَرى} لغير معيّن فيعم كل من تُمكن منه الرؤية يومئذٍ، كقوله: {وترى الظالمين لمّا رأوا العذاب يقولون هل إلى مردَ من سبيل وتراهم يُعرضون عليها خاشعين من الذلّ} [الشورى: 44، 45]. والمقصود استحضار صورة حال الظالمين يوم القيامة في ذهن المخاطب.
والإشفاق: توقع الشيء المضرّ وهو ضد التمَنّي...
وجملة {وهو واقع بهم} في موضع الحال، أي مشفقين إشفاقاً يقارب اليأس وهو أشد الإشفاق حين يعلمون أن المشفَق منه لا يُنجي منه حَذَر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ليس غريباً أن تقول الآية في نهايتها: (ذلك هو الفضل الكبير). وقد قلنا مراراً أنّه لا يمكن شرح نعم الجنّة من خلال الكلام، فنحن المكبلون بقيود عالم المادة، لا نستطيع أن ندرك المفاهيم التي تتضمّنها جملة: (لهم ما يشاؤون عند ربّهم). فماذا يريد المؤمنون؟ وما هي الألطاف الموجودة في جوار قربه تعالى؟! وعادة عندما يقوم الخالق العظيم بوصف شيء ما بالفضل الكبير، فإنّ ذلك يكشف عن مقدار العظمة بحيث يكون أعظم من كلّ ما نفكر به...