{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } ( أم ) منقطعة ، فيها معنى ( بل والهمزة ) ولا بد من سبق كلام . خبرا أو إنشاء ، يضرب عنه ويقرر ما بعده . وما سبق قوله{[6451]} : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } الخ فهو معطوف عليه ، وما بينهما من تتمة الأول . والمراد بشركائهم ، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه . وإما أوثانهم . وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة . وعلى الثاني ، فإسناد الشرع إليها ، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به . أو لأنها على صورة المشرّع الذي سنّ هذا الضلال لهم . ويجوز كون الاستفهام المقدّر حينئذ للإنكار . أي ليس لهم شرع ولا شارع . كما في قوله{[6452]} { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا } { ولولا كلمة الفصل } أي القضاء السابق بأن الجزاء في القيامة لا في الدنيا . أو لولا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبيّن في الآخرة . فالفصل بمعنى البيان { لقضي بينهم } أي لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين ، بتعجيل العذاب للكافرين { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ } أي يوم البعث { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا } أي من السيئات { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي نازل بهم لا محالة { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يشاءون عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به ، والنصيحة التي أنصحكم ، ثوابا وجزاء وعوضا من أموالكم تعطونيه { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم ، وتصلوا الرحم التي بيننا . ولا يكن غيركم ، يا معشر قريش ، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم .
قال الشهاب : المودة مصدر مقدر ب ( أن والفعل ) . والقربى مصدر كالقرابة . و ( في ) / للسببية . وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة . والخطاب ، إما لقريش أو لجميع العرب ، لأنهم أقرباء في الجملة . انتهى . والاستثناء منقطع . ومعناه نفي الأجر أصلا . لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم ، لكونها سبب نجاتهم . فلا تصلح أن تكون أجرا له . وقيل : المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم . وقيل { القربى } التقرّب إلى الله تعالى . أي إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه . والمعنى الأول وهو الذي عوّل عليه الأئمة . ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه ، غيره . ففي البخاري {[6453]} عنه ، رضي الله عنه : ( أنه سئل عن قوله تعالى : { إلا المودة في القربى } فقال سعيد بن جبير : القربى آل محمد . فقال ابن عباس : عجلت . إن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ) .
قال ابن كثير : انفرد به البخاريّ - أي عن مسلم - ورواه الإمام أحمد . وهكذا روى الشعبيّ والضحاك وعليّ بن أبي طلحة والعوفيّ ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، مثله . وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسّدّيّ وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم . وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودّوني في نفسي ، لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم ) . وروى الإمام أحمد{[6454]} عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا ، إلا أن تودّوا الله تعالى ، وأن تقرّبوا إليه بطاعته ) . وهكذا روي عن قتادة والحسن البصريّ مثله . وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر / العباس من الأنصار ، فإسناده ضعيف . على أن السورة مكية . وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة . وكذا ما رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : ( يا رسول الله ! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال : قال فاطمة وولدها رضي الله عنهم ) ، فإن في إسناده مبهما لا يعرف ، عن شيخ شيعيّ ، وهو حسين الأشقر ، فلا يقبل خبره في هذا المحل وذكر نزول الآية في المدينة بعيد . فإنها مكية . ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية . فإنها لم تتزوج بعليّ رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة . . والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ، كما رواه عنه البخاريّ . ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم . فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا . ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية . كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين وقد ثبت في ( الصحيح ) {[6455]} ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي . وإنهم لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) . وروى الإمام أحمد{[6456]} عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : ( قلت : يا رسول الله ! إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن . وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها . قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال : والذي نفسي بيده ! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ) . هذا ملخّص ما أورده ابن كثير رحمه الله تعالى ، وسبقه في الإيساع في ذلك تقيّ الدين ابن تيمية في ( منهاج السنة ) من أوجه عديدة . قال في الوجه الثالث : إن هذه الآية في سورة الشورى . وهي مكية باتفاق أهل السنة . / بل جميع آل حم مكيات . وكذلك آل طس . ومن المعلوم أن عليّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر . والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة . والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة . فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق .
ثم قال : الوجه الرابع - إن تفسير الآية الذي في ( الصحيحين ) عن ابن عباس يناقض ذلك . فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت ، بعد عليّ ، يقول : ( ليس معناها مودة ذوي القربى . ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجرا . لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم ) . فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولا ، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ رسالة ربه . الوجه الخامس- أنه قال : { لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى . فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوي القربى كما قال{[6457]} { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى } وقال{[6458]} { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى } وكذلك قوله {[6459]} { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } وقوله {[6460]} { وآتى المال على حبه ذوي القربى } وهكذا في غير موضع . فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذوي قربى الإنسان ، إنما قيل فيها ( ذوي القربى ) . لم يقل ( في القربى ) . فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم ، دل على أنه لم يرد ( ذوي القربى ) . الوجه السادس - أنه لو أريد المودة لهم لقال : المودّة لذوي القربى ، ولم يقل في القربى . فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره : أسألك المودة في فلان ، ولا في قربى فلان . ولكن أسألك المودة لفلان ، والمحبة لفلان . فلما قال المودة في القربى ، علم أنه ليس المراد لذوي القربى . / الوجه السابع - أنه يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا البتة . بل أجره على الله كما قال{[6461]} { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } وقوله :{[6462]} { أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } وقوله :{[6463]} { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } ولكن الاستثناء هنا منقطع ، كما قال :{[6464]} { قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة . لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية ، ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم . بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات . وفي ( الصحيح ) {[6465]} عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى ( خما ) بين مكة والمدينة فقال : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) وفي ( السنن ) {[6466]} عنه أنه قال : ( والذي نفسي بيده ! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) فمن جعل محبة أهل بيته أجرا له يوفيه إياه ، فقد أخطأ خطأ عظيما . ولو كان أجرا له لم نُثَبْ عليه نحن ، لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة . فهل يقول مسلم مثل هذا ؟ ؟ ؟
الوجه الثامن – إن ( القربى ) معرفة باللام . فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم { لا أسألكم عليه أجرا } وقد ذكر أنها لما نزلت ، لم يكن قد خلق الحسن والحسين ، ولا تزوج علي بفاطمة . فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها ، يمتنع أن تكون هذه . بخلاف القربى التي بينه وبينهم ، فإنها معروفة عندهم ، كما تقول ( لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا ) وكما تقول ( لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم ) ( ولا أسألك إلا أن / تتقي الله في هذا الأمر ( . انتهى { ومن يقترف حسنة } أي يكتسب طاعة { نزد له فيها حسنا } أي بمضاعفته { إن الله غفور } أي لمن تاب وأناب { شكور } لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته .