158- لقد قامت الحُجة على وجوب الإيمان ، ولم يؤمن هؤلاء ، فماذا ينتظرون لكي يؤمنوا ؟ هل ينتظرون أن تأتيهم الملائكة رسلاً بدل البشرَ ، أو شاهدين على صدقك ؟ أو أن يأتيهم ربك ليروه ، أو يشهد بصدقك ؟ أو أن تأتيهم بعض علامات ربك لتشهد على صدقك ؟ ! وعندما تأتى علامات ربك مما يلجئهم إلى الإيمان لا ينفعهم إيمانهم ، لأنه إيمان اضطرار ، ولا ينفع العاصي أن يتوب ويطيع الآن ، فقد انتهت مرحلة التكليف ، قل لهؤلاء المعرضين المكذبين : انتظروا أحد هذه الأمور الثلاثة ، واستمروا على تكذيبكم ، إنا منتظرون حكم الله فيكم .
ثم يمضى القرآن فى تهديدهم خطوة أخرى . رداً على ما كانوا يطلبون من الآيات الخارقة ، وتحذيراً من إعراضهم وتقاعسهم عن طريق الحق مع أن الزمن لا يتوقف ، والفرص لا تعود فيقول : { هَلْ يَنظُرُونَ . . . . }
أى : ما ينتظر مشركو مكة وغيرهم من المكذبين بعد إعراضهم عن آيات الله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم من أجسادهم .
والجملة الكريمة مستأنفة لبيان أنهم لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى .
قال البيضاوى : وهم ما كانوا منتظرين لذلك ، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين .
وقوله : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } أى : إتياناً يناسب ذاته الكريمة بدون كيف أو تشبيه للقضاء بين الخلق يوم القيامة ، وقيل المراد بإتيان الرب ، إتيان ما وعد به من النصر للمؤمنين والعذاب للكافرين .
وقوله : { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } أى : بعض علامات قيام الساعة ، وذلك قبل يوم القيامة ، وفسر فى الحديث بطلوع الشمس من مغربها .
فقد روى البخارى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها . فإذا رآها الناس آمن من عليها . فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل " .
وفى رواية لمسلم والترمذى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيراً : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض " .
ثم بين - سبحانه - أنه عند مجىء علامات الساعة لا ينفع الإيمان فقال :
{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً } .
أى : عند مجىء بعض أشراط الساعة ، يذهب التكليف ، فلا ينفع الإيمان حينئذ نفساً كافرة لم تكن آمنت قبل ظهورها ، ولا ينفع العمل الصالح نفساً مؤمنة تعمله عند ظهور هذه الأشراط ، لأن العمل أو الإيمان عند ظهور هذه العلامات لا قيمة له لبطلان التطليف فى هذا الوقت .
قال الطبرى : معنى الآية لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع - أى طلوع الشمس من مغربها - إيمان بعد الطلوع . ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع ، بعد الطلوع . لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ . حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة ، وذلك لا يفيد شيئاً . كما قال - تعالى - { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } وكما ثبت فى الحديث الصحيح : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " .
وقال ابن كثير : إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لم يقبل منه ، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً فى عمله فهو بخير عظيم ، وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته ، كما دلت عليه الأحاديث ، وعليه يحمل قوله - تعالى - : { أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً } أى : لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك " .
وقوله : { قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } تهديد لهم . أى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين : انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور ألثلاثة لتروا أى شىء تنتظرون ، فإنا منتظرون معكم لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة .
الضمير في { ينظرون } هو للطائفة التي قيل لها قبلك فقد جاءكم بينة من ربكم ، وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات السورة في جدالهم ، و { ينظرون } معناه ينتظرون ، و { الملائكة } هنا يراد بها ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض الأرواح ، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج . ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة ، وقرأ حمزة والكسائي «إلا أن يأتيهم » بالياء ، وقرأ الباقون «تأتيهم » بالتاء من فوق ، وقوله { أو يأتي ربك } قال الطبري : لموقف الحساب يوم القيامة ، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين ، ويحكي الزجاج أن المراد بقوله { أو يأتي ربك } أي العذاب الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات والرجفات والخسف ونحوه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى ، ألا ترى أن الله تعالى يقول { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا }{[5163]} فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف ، وقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } أما ظاهر اللفظ لو وقفنا معه فيقتضي أنه توعدهم بالشهير الفظيع من أشراط الساعة دون أن يخص من ذلك شرطاً يريد بذلك الإبهام الذي يترك السامع مع أقوى تخيله ، لكن لما قال بعد ذلك { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها } وبينت الآثار الصحاح في البخاري ومسلم أن الآية التي معها هذا الشرط هي طلوع الشمس من المغرب ، قوى أن الإشارة بقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } إنما هي إلى طلوع الشمس من مغربها ، وقال بهذا التأويل مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم ، ويقوي أيضاً أن تكون الإشارة إلى غرغرة الإنسان عند الموت أو ما يكون في مثابتها لمن لم يغرغر{[5164]} .
ففي الحديث «أن توبة العبد تقبل مالم يغرغر » ، وهذا إجماع لأن من غرغر وعاين فهو في عداد الموتى ، وكون المرء في هذه الحالة من آيات الله تعالى ، وهذا على من يرى الملائكة المتصرفين في قيام الساعة .
قال القاضي أبو محمد : فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال لا يخلون منها كأنه قال : هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا الموت الذي لهم بعده أشد العذاب ، والأخذات المعهودة لله عز وجل ، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يريد بقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله : { يوم يأتي بعض آيات ربك } الآية التي ترفع التوبة معها ، وقد بينت الأحاديث أنها طلوع الشمس من مغربها{[5165]} ، وقرأ زهير الفرقبي{[5166]} «يومُ يأتي » بالرفع وهو على الابتداء والخبر في الجملة التي هي «لا ينفع » إلى آخر الآية ، والعائد من الجملة محذوف لطول الكلام وقرأ ابن سيرين وعبد الله بن عمرو وأبو العالية «لا تنفع » بتاء ، وأنث الإيمان بما أضيف إلى مؤنث .
أو لما نزل منزلة التوبة ، وقال جمهور أهل التأويل كما تقدم الآية التي لا تنفع التوبة من الشرك أو من المعاصي بعدها ، هي طلوع الشمس عن المغرب .
وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث ، إما طلوع الشمس من مغربها ، وإما خروج الدابة ، وإما خروج يأجوج ومأجوج{[5167]} .
قال أبو محمد : وهذا فيه نظر لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس .
وروي في هذا الحديث أن الشمس تجري كل يوم حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها في طلوع المشرق ، وحتى إذا أراد الله عز وجل سد باب التوبة أمرها بالطلوع من مغربها{[5168]} ، قال ابن مسعود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتطلع هي والقمر كالبعيرين القرينين{[5169]} ، ويقوي النظر أيضاً أن الغرغرة هي الآية التي ترفع معها التوبة ، وقوله { أو كسبت في إيمانها خيراً } يريد جميع أعمال البر فرضها ونفلها ، وهذا الفصل هو للعصاة المؤمنين كما قوله { لم تكن آمنت من قبل } هو للكفار ، والآية المشار إليها تقطع توبة الصنفين ، وقرأ أبو هريرة «أو كسبت في إيمانها صالحاً » وقوله تعالى : { قل انتظروا } الآية تتضمن الوعيد أي فسترون من يحق كلامه ويتضح ما أخبر به .
استئناف بياني نشأ في قوله : { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله } [ الأنعام : 157 ] الآية ، وهو يحتمل الوعيد ويحتمل التهكّم ، كما سيأتي . فإن كان هذا وعيداً وتهديداً فهو ناشىء عن جملة : { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا } [ الأنعام : 157 ] لإثارته سؤال سائل يقول : متى يكون جزاؤهم ، وإن كان تهكّما بهم على صدفهم عن الآيات التي جاءتهم ، وتطلّعهم إلى آيات أعظم منها في اعتقادهم ، فهو ناشىء عن جملة : { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } [ الأنعام : 157 ] لأنَّه يثير سؤال سائل يقول : ماذا كانوا يترقَّبون من الآيات فوق الآيات التي جاءتهم .
و { هل } للاستفهام الإنكاري ، وهي ترد له كما ترد له الهمزة على التّحقيق ، ولذلك جاء بعده الاستثناء .
و { ينظرون } مضارع نَظَر بمعنى انتظر ، وهو مشترك مع نظر بمعنى رأى في الماضي والمضارع والمصدر ، ويخالفه في التّعدية ، ففِعل نَظَر العين متعدّ بإلى ، وفعل الانتظار متعدّ بنفسه ، ويخالفه أيضاً في أنّ له اسم مصدر وهو النظِرة بكسر الظاء ولا يقال ذلك في النّظر بالعين . والضّمير عائد للّذين يصدفون عن الآيات .
ثمّ إنْ كان الانتظار واقعاً منهم على أنَّه انتظار آيات ، كما يقترحون ، فمعنى الحصر : أنَّهم ما ينتظرون بعد الآيات التي جاءتهم ولم يقتنعوا بها إلاّ الآيات التي اقترحوها وسألوها وشرطوا أن لا يؤمنوا حتّى يُجاءوا بها ، وهي ما حكاه الله عنهم بقوله : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } إلى قوله { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } [ الإسراء : 90 92 ] وقوله { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } [ الأنعام : 8 ] فهم ينتظرون بعض ذلك بجِدّ من عامتَّهم ، فالانتظار حقيقة ، وبسخرية من قادتهم ومضلّليهم ، فالانتظار مجاز بالصّورة ، لأنَّهم أظهروا أنفسهم في مظهر المنتظرين ، كقوله تعالى : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا } [ التوبة : 64 ] الآية . والمراد ببعض آيات ربّك : ما يشمل ما حكي عنهم بقوله : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى قوله حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 90 93 ] . وفي قوله : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } إلى قوله { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } [ الأنعام : 8 10 ] فالكلام تهكّم بهم وبعقائدهم .
وإن كان الانتظار غير واقع بجدّ ولا بسخرية فمعناه أنَّهم ما يترقَّبون شيئاً من الآيات يأتيهم أعظم ممَّا أتاهم ، فلا انتظار لهم ، ولكنّهم صمّموا على الكفر واستبطنوا العناد ، فإن فرض لهم انتظار فإنَّما هو انتظار ما سيَحل بهم من عذاب الآخرة أو عذاب الدّنيا أو ما هو برزخ بينهما ، فيكون الاستنثاء تأكيداً للشّيء بما يشبه ضدّه . والمراد : أنَّهم لا ينتظرون شيئاً ولكن سيجيئهم ما لا ينتظرونه ، وهو إتيان الملائكة ، إلى آخره ، فالكلام وعيد وتهديد .
والقصر على الاحتمالين إضافي ، أي بالنّسبة لما ينتظر من الآيات ، والاستفهام الخبري مستعمل في التهكّم بهم على الاحتمالين ، لأنَّهم لا ينتظرون آية ، فإنَّهم جازمون بتكذيب الرّسول صلى الله عليه وسلم ولكنّهم يسألون الآيات إفحاماً في ظنّهم .
ولا ينتظرون حساباً لأنَّهم مكذّبون بالبعث والحشر .
والإتيان بالنّسبة إلى الملائكة حقيقة ، والمراد بهم : ملائكة العذاب ، مثل الّذين نزلوا يوم بدر { إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان } [ الأنفال : 12 ] . وأمّا المسند إلى الرّب فهو مجاز ، والمراد به : إتيان عذابه العظيم ، فهو لعظم هوله جعل إتيانه مسنداً إلى الآمر به أمراً جازماً ليعرف مقدار عظمته ، بحسب عظيم قدرة فاعله وآمره ، فالإسناد مجازي من باب : بنى الأمير المدينة ، وهذا مجاز وارد مثله في القرآن ، كقوله تعالى : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [ الحشر : 2 ] وقوله : { ووجد الله عنده فوفّاه حسابه } [ النور : 39 ] . ويجوز أن يكون المراد بقوله : { أو يأتي ربك } إتيان أمره بحساب النّاس يوم القيامة ، كقوله : { وجاء ربك والملك صفا صفاً } [ الفجر : 22 ] ، أي لا ينتظرون إلاّ عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة .
وعلى الاحتمالات كلّها يجوز أن يكون وقوع ذلك يوم القيامة ، ويجوز أن يكون في الدّنيا .
وجملة : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها } مستأنفة استئنافاً بيانياً تذكيراً لهم بأنّ الانتظار والتريّث عن الإيمان وخِيمُ العاقبة ، لأنَّه مهدّد بما يمنع من التّدارك عند النّدامة ، فإمَّا أن يعقبه الموت والحساب ، وإمّا أن يعقبه مجيء آية من آيات الله ، وهي آية عذاب خارق للعادة يختصّ بهم فيعلموا أنَّه عقوبة على تكذيبهم وصَدْفهم ، وحين ينزّل ذلك العذاب لا تبقى فسحة لتدارك ما فات لأنّ الله إذا أنزل عذابه على المكذّبين لم ينفع عنده توبة ، كما قال تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس : 98 ] وقال تعالى : { ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين } [ الحجر : 8 ] وقال { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } [ الأنعام : 8 ] .
ومن جملة آيات الله الآيات التي جعلها الله عامّة للنّاس ، وهي أشراط السّاعة : والتي منها طلوع الشّمس من مغربها حين تُؤذن بانقراض نظام العالم الدنيوي . روى البخاري ، ومسلم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها النّاس آمنوا أجمعون وذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل » ثمّ قرأ هذه الآية .
والنّفع المنفي هو النّفع في الآخرة ، بالنّجاة من العذاب ، لأنّ نفع الدّنيا بكشف العذاب عند مجيء الآيات لا ينفع النّفوس المؤمنة ولا الكافرة ، لقوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثمّ يحشرون على نياتهم » . والمراد بالنّفس : كلّ نفس ، لوقوعه في سياق النّفي .
وجملة : { لم تكن آمنت من قبل } صفة { نفساً } ، وهي صفة مخصّصة لعموم : { نفساً } ، أي : النّفس التي لم تكن آمنت من قبل إتيان بعض الآيات لا ينفعها إيمانها إذا آمنت عند نزول العذاب ، فعلم منه أنّ النّفس التي كانت آمنت من قبل نزول العذاب ينفعها إيمانها في الآخرة . وتقديم المفعول في قوله : { نفساً إيمانها } ليتمّ الإيجاز في عود الضّمير .
وقوله : { أو كسبت في إيمانها خيراً } عطف على { آمنت } ، أي أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً .
و { في } للظرفيّة ، وإنَّما يصلح للظرفية مدّة الإيمان ، لا الإيمان ، أي أو كسبت في مدّة إيمانها خيراً . والخير هو الأعمال الصّالحة والطّاعات .
و { أو } للتّقسيم في صفات النّفس فيستلزم تقسيم النّفوس التي خصّصتها الصّفتان إلى قسمين : نفوس كافرة لم تكن آمنت من قبل ، فلا ينفعها إيمانها يوم يأتي بعض آيات الله ، ونفوس آمنت ولم تكسب خيراً في مدّة إيمانها ، فهي نفوس مؤمنة ، فلا ينفعها ما تكسبه من خير يوم يأتي بعض آيات ربّك . وهذا القسم الثّاني ذو مراتب متفاوتة ، لأنّ التّقصير في اكتساب الخير متفاوت ، فمنه إضاعة لأعمال الخير كلّها ، ومنه إضاعة لبعضها ، ومنه تفريط في الإكثار منها . وظاهر الآية يقتضي أن المراد نفوس لم تكسب في إيمانها شيئاً من الخير أي اقتصرت على الإيمان وفرّطت في جميع أعمال الخير .
وقد علم من التّقسيم أنّ هذه النّفوس لا ينفعها اكتساب الخير من بعد مجيء الآيات ، ولا ما يقوم مقام اكتساب الخير عند الله ، وهو ما منّ به على هذه الأمّة من غفران السيّئات عند التّوبة ، فالعزم على الخير هو التّوبة ، أي العزم على اكتساب الخير ، فوقع في الكلام إيجازُ حذف اعتمَاداً على القرينة الواضحة . والتّقدير : لا ينفع نفساً غيرَ مؤمنة إيمانُها أو نفساً لم تكن كسبت خيراً في إيمانها من قبل كسبها ، يعني أو ما يقوم مقام كسب الخير ، مثل التّوبة فإنَّها بعض اكتساب الخير ، وليس المراد أنّه لا ينفع نفساً مؤمنة إيمانُها إذا لم تكن قد كسبت خيراً بحيث يضيع الإيمان إذا لم يقع اكتساب الخير ، لأنَّه لو أريد ذلك لما كانت فائدة للتّقسيم ، ولكفى أن يقال لا ينفع نفساً إيمانها لم تكسب خيراً ، ولأنّ الأدلّة القطعية ناهضة على أن الإيمان الواقع قبل مجيء الآيات لا يُدْحَض إذا فرّط صاحبه في شيء من الأعمال الصّالحة ، ولأنَّه لو كان كذلك وسلَّمناه لما اقتضى أكثر من أنّ الّذي لم يفعل شيئاً من الخير عدا أنَّه آمن لا ينفعه إيمانه ، وذلك إيجاد قسم لم يقل به أحد من علماء الإسلام .
وبذلك تعلم أنّ الآية لا تنهض حجّة للمعتزلة ولا الخوارج الذين أوجبوا خلود مرتكب الكبيرة غير التّائب في النّار ، والتّسويةَ بينه وبين الكافر ، وإن كان ظاهرُها قبل التأمّل يوهم أنَّها حجّة لهم ، ولأنّه لو كان الأمر كما قالوا لصار الدّخول في الإيمان مع ارتكاب كبيرة واحدة عبثاً لا يرضاه عاقل لنفسه ، لأنّه يدخل في كلفةِ كثيرٍ من الأعمال بدون جدوى عليه منها ، ولكان أهون الأحوال على مرتكب الكبيرة أن يخلع ربقة الإيمان إلى أن يتوب من الأمرين جميعاً . وسخافة هذا اللازم لأصحاب هذا المذهب سخافة لا يرضاها من له نظر ثاقب . 6 والاشتغال بتبيين ما يستفاد من نظم الآية من ضبط الحدّ الذي ينتهي عنده الانتفاع بتحصيل الإيمان وتحصيل أعمال الخير ، أجدى من الخوض في لوازم معانيها من اعتبار الأعمال جُزْءاً من الإيمان ، لا سيّما مع ما في أصل المعنى من الاحتمال المسقط للاستدلال .
فصفة : { لم تكن آمنت من قبل } تحذير للمشركين من التريُّث عن الإيمان خشية أن يبغتهم يومُ ظهور الآيات ، وهم المقصود من السّياق . وصفة { أو كسبت في إيمانها خيراً } إدماج في أثناء المقصود لتحذير المؤمنين من الإعراض عن الأعمال الصّالحة .
ثمّ إنّ أقوال المفسرين السّالفين ، في تصوير هذين القسمين ، تفرّقت تفرّقاً يؤذن باستصعاب استخلاص مقصود الآية من ألفاظها ، فلم تقارب الإفصاح بعبارة بيّنة ، ويجمع ذلك ثلاثة أقوال :
الأوّل : عن السدّي ، والضحاك : أنّ معنى { كسبت في إيمانها خيراً } : كسبت في تصديقها ، أي معه أو في مدّته ، عملاً صالحاً ، قَالا : وهؤلاء أهلُ القبلة ، فإن كانت مُصدّقة ولم تعمل قبل ذلك ، أي إتيان بعض آيات الله ، فعمِلت بعد أن رأت الآية لم يُقبل منها ، وإن عملتْ قبل الآية خيراً ثمّ عملت بعد الآية خيراً قُبل منها .
الثّاني : أنّ لفظ القرآن جرى على طريقة التّغليب ، لأنّ الأكثر ممّن ينتفع بإيمانه ساعتئذ هو من كسب في إيمانه خيراً .
الثّالث : أنّ الكلام إبهام في أحد الأمرين ، فالمعنى : لا ينفع يومئذ إيمان من لم يكن آمن قبل ذلك اليوم أو ضمّ إلى إيمانه فعل الخير ، أي لا ينفع إيمان من يؤمن من الكفار ولا طاعة من يطيع من المؤمنين . وأمّا من آمن قبل فإنَّه ينفعه إيمانه ، وكذلك من أطاع قبلُ نفعته طاعته .
وقد كان قوله : { يوم يأتي بعض آيات ربك } بعد قوله : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } ، مقتصراً على ما يأتي من آيات الله في اليوم المؤجّل له ، إعراضاً عن التعرّض لما يكون يوم تأتي الملائكة أو يأتي ربّك ، لأنّ إتيان الملائكة ، والمعطوف عليه غير محتمَل الوقوع وإنَّما جرى ذكره إبطالاً لقولهم : { أو تأتي باللَّه والملائكة قَبيلاً } [ الإسراء : 92 ] ونحوه من تهكّماتهم ، وإنَّما الذي يكون ممّا انتظروه هو أن يأتي بعض آيات الله ، فهو محلّ الموعظة والتّحذير ، وآيات القرآن في هذا كثيرة منها قوله تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر : 85 ] .
وآياتُ اللَّه منها ما يختصّ بالمشركين وهو ما هدّدهم الله به من نزول العذاب بهم في الدّنيا ، كما نزل بالأمم من قبلهم ، ومنها آيات عامّة للنّاس أجمعين ، وهو ما يُعرف بأشراط السّاعة ، أي الأشراط الكبرى .
وقد جاء تفسير هذه الآية في السنّة بطلوع الشّمس من مغربها . ففي « الصّحيحين » وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشّمس من مغربها فإذا رآها النّاس آمَن مَنْ عليها فذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل " . ثمّ قرأ هذه الآية ، أي قوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك } إلى قوله { خيراً } . وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تاب قبل طلوع الشّمس من مغربها تاب الله عليه " . وفي « جامع التّرمذي » ، عن صفوان بن عسال المرادي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بابٌ مِن قِبل المغرب مفتوح مسيرة عَرضه أربعين سنة ( كذا ) مفتوح للتَّوبة لا يُغلق حتّى تطلُع الشّمس من مغربها " قال التّرمذي : حديث صحيح .
واعلم أنّ هذه الآية لا تعارض آية سورة النّساء ( 18 ) : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } لأنّ محمل تلك الآية على تعيين وقت فوات التّوبة بالنّسبة للأحوال الخاصّة بآحاد النّاس ، وذلك ما فُسّر في حديث ابن عمر : أنّ رسول الله قال : إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ رواه التّرمذي ، وابن ماجه ، وأحمد . ( ومعنى يغرغر أن تبلغ روحه أي أنفاسه رأْس حلقه ) . ومحمل الآية التي نتكلّم فيها تعيين وقت فوات التّوبة بالنّسبة إلى النّاس كافة ، وهي حالة يأس النّاس كلّهم من البقاء .
وجاء الاستئناف بقوله : قل انتظروا إنا منتظرون } أمراً للرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يهدّدهم ويتوعّدهم على الانتظار ، إن كان واقعاً منهم ، أو على التريُّثثِ والتّأخّر عن الدّخول في الإسلام الذي هو شبيه بالإنتظار إن كان الانتظار إدّعائياً ، بأن يأمرهم بالدّوام على حالهم التي عبّر عنها بالانتظار أمْرَ تهديد ، ويخبرهم بأنّ المسلمين ينتظرون نصر الله ونزول العقاب بأعدائهم ، أي : دوموا على انتظاركم فنحن منتظرون .
وفي مفهوم الصّفتين دلالة على أنّ النّفس التي آمنت قبل مجيء الحساب ، وكسبت في إيمانها خيراً ، ينفعها إيمانها وعملها . فاشتملت الآية بمنطوقها ومفهومها على وعيد ووعد مُجملين تبيّنهما دلائل الكتاب والسنّة .