ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد فحكت ما قاله ضعاف الإيمان فى أعقابها ، وردت عليهم بما يبطل مقالتهم ، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال - تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ . . . . } .
قوله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا } الخ مستأنف مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة ، إثر إبطال بعض آخر تقدم الحديث عنه من فوائد غزوة أحد أنها كشفت عن قوة الإيمان من ضعيفه ، ميزت الخبيث من الطيب .
وإذا كان انتصار المسلمين فى بدر جعل كثيراً من المنافقين يدخلون فى الإسلام طمعا فى الغنائم . . فإن عدم انتصارهم فى أحد قد أظهر المنافقين على حقيقتهم ، ويسر للمؤمنين معرفتهم والحذر منهم .
والهمزة فى قوله { أَوَ لَمَّا } للاستفهام الإنكارى التعجيبي . و " الواو " للعطف على محذوف و " لما " ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة فى الشرط . والمصيبة : أصلها فى اللغة الرمية التى تصيب الهدف ولا تخطئه ، ثم أطلقت على ما يصيب الإنسان فى نفسه أو أهله أو ما له أو غير ذلك من مضار . وقوله { مِّثْلَيْهَا } أى ضعفها ، فإن مثل الشىء ما يساويه . ومثليه ضعفه .
والمعنى : أفعلتم ما فعلتم من أخطاء ، وحين أصابكم من المشركين يوم أحد نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك فى بدر تعجبتم وقلتم { أنى هذا } أى من أين لنا هذا القتل والخذلان ونحن مسلمون نقاتل فى سبيل الله ، وفينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداؤنا الذين قتلوا منا من قتلوا مشركون يقاتلون فى سبيل الطاغوت .
فالجملة الكريمة توبيخ لهم على ما قالوه لأنه ما كان ينبغى أن يصدر عنهم . إذ هم قد قتلوا من المشركين فى بدر سبعين من صناديدهم واسروا منهم قريبا من هذا العدد وفى أحد كذلك كان لهم النصر فى أول المعركة على المشركين ، وقتلوا منهم قريبا من عشرين إلا أنهم حين خالفوا وصية رسولهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى الغنائم منع الله عنهم نصره ، فقتل المشركون منهم قريبا من سبعين .
وقوله { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } فى محل رفع صفة " لمصيبة " . وفائدة هذا القول التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على حال واحدة ، وإن من شأن الحرب أن تكون سجالا ، إلا أن العاقبة جعلها الله للمتقين .
وقوله { قُلْتُمْ أنى هذا } هو موضع التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، لأن قولهم هذا يدل على أنهم لم يحسنوا وضع الأمور فى نصابها حيث ظنوا أن النصر لا بد أن يكون حليفهم حتى ولو خالفوا أمر قائدهم ورسولهم - صلى الله عليه وسلم - ولذا فقد رد الله - تعالى - عليهم بما من شأنه أن يعيد إليهم صوابهم وبما يعرفهم السبب الحقيقى فى هزيمتهم فقال : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } .
أى قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا ما قالوا : إن ما أصابكم فى أحد سببه أنتم لا غيركم .
فأنتم الذين أبيتم إلا الخروج من المدينة مع أن النبى صلى الله عليه وسلم أشار عليكم بالبقاء فيها . وأنتم الذين خالفتم وصيته بترككم أماكنكم التى حددها لكم وأمركم بالثبات فيها . وأنتم الذين تطلعت أنفسكم إلى الغنائم فاشتغلتم بها وتركتم النصيحة ، وأنتم الذين تفرقتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ساعة الشدة والعسرة لهذه المخالفات التى نبعت من أنفسكم أصابكم ما أصابكم فى أحد ، وكان الأولى بكم أن تعرفوا ذلك وأن تعتبروا وأن تقلعوا عن هذا القول التى لا يليق بالعقلاء ، إذ العاقل هو الذى يحاسب نفسه عندما يفاجئه المكروه ويعمل على تدارك أخطائه ويقبل على حاضره ومستقبله بثبات وصبر مستفيدا بماضيه ومتعظا بما حدث له فيه .
وما أحوج الناس فى كل زمان ومكان إلى الأخذ بهذا الدرس فإن كثيرا منهم يقصرون فى حق الله وفى حق أنفسهم وفى حق غيرهم ، ولا يباشرون الأسباب التى شرعها الله للوصول إلى النصر . . بل يبنون حياتهم على الغرور والإهمال ، فإذا ما أصابتهم الهزيمة مسحوا عيوبهم فى القضاء والقدر ، أو فى غيرهم من الناس ، أو شدهوا لهول ما أصابهم - بسبب تقصيرهم - ثم قالوا : أنى هذا ؟ وما دروا لجهلهم وغرورهم - أن الله - تعالى - قد جعل لكل شىء سببا . فمن باشر أسباب النجاح وصل إليها بإذن الله ومن أعرض عنها حرمه الله - تعالى - من عونه ورعايته .
ولقد أكد - سبحانه قدرته على كل شىء فقال : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } أى إن الله تعالى - قدرته فوق كل شىء فهو القدير على نصركم وعلى خذلانكم وبما أنكم قد خالفتم نبيكم صلى الله عليه وسلم فقد حرمكم الله نصره ، وقرر لكم الخذلان ، حتى تعتبروا ولا تعودوا إلى ما حدث من بعضكم فى غزوة أحد ، ولتذكروا دائما قوله - تعالى - { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }
ثم وقف تعالى المؤمنين على الخطإ في قلقهم للمصيبة التي نزلت بهم وإعراضهم عما نزل بالكفار ، وعرفهم أن ذلك لسبب أنفسهم ، والواو في قوله : { أولما } عطف جملة على جملة دخلت عليها ألف التقرير على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال ، والمصيبة التي نالت المؤمنين هي : قصة - أحد - وقتل سبعين منهم ، واختلف في المثلين اللذين أصاب المؤمنين فقال قتادة والربيع : وابن عباس وجمهور المتأولين : ذلك في يوم بدر ، قتل المؤمنون من كفار قريش سبعين وأسروا سبعين ، وقال الزجّاج : أحد المثلين : هو قتل السبعين يوم بدر ، والثاني : هو قتل اثنين وعشرين من الكفار يوم - أحد - فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في هذه الآية ، هذا معنى كلامه ، لأن أسارى بدر أسروا ثم فدوا ، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، و { أَنّى } -معناها : كيف ومن أين ؟ ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم : { هو من عند أنفسكم } ، واختلف الناس كيف هو من عند أنفسهم ولأي سبب ؟ فقال الجمهور من المفسرين : لأنهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك كفار قريش بشر محبس فأبوا إلا الخروج حتى جرت القصة ، وقالت طائفة : قوله تعالى : { من عند أنفسكم } إشارة إلى عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين . وقال الحسن وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما : بل ذلك لما قبلوا الفداء يوم بدر ، وذلك أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما فرغت هزيمة المشركين ببدر جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه السلام فقال : يا محمد إن الله قد كره ما يصنع قومك في أخذ الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسارى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء ، على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسارى ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا ، بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره ، قال : فقتل منهم يوم أحد - سبعون رجلاً{[3694]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.