ثم شرع - سبحانه - فى بيان وظيفة القرآن الكريم ، بعد أن وصفه بالاستقامة والإِحكام ، فقال : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ .
والإِنذار : الإِعلام المقترن بتخويف وتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .
واللام فى قوله { لينذر } متعلقة بأنزل ، والبأس : العذاب ، وهو المفعول الثانى للفعل ينذر ، ومفعوله الأول محذوف .
والمعنى : أنزل - سبحانه - على عبده الكتاب حالة كونه لم يجعل له عوجا بل جعله مستقيما ، لينذر الذين كفروا عذابا شديدا ، صادرا من عنده - تعالى - .
والتعبير بقوله { من لدنه } يشعر بأنه عذاب ليس له دافع ، لأنه من عند الله تعالى - القاهر فوق عباده .
أما وظيفة القرآن بالنسبة للمؤمنين ، فقد بينها - سبحانه - بعد ذلك فى قوله : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } .
أى : أنزل الله هذا القرآن ، ليخوف به الكافرين من عذابه ، وليبشر به المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات ، أن لهم من خالقهم - عز وجل - أجراً حسنا هو الجنة ونعيمها ، { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } أى : مقيمين فيه إقامة باقية دائمة لا انتهاء لها ، فالضمير فى قوله { فيه } يعود إلى الأجر الذى يراد به الجنة .
قال - تعالى - : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } ثم خص - سبحانه - بالإِنذار فرقة من الكافرين ، نسبوا إلى الله - تعالى - ما هو منزه عنه ، فقال : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } .
أما وظيفة القرآن بالنسبة للمؤمنين ، فقد بينها - سبحانه - بعد ذلك فى قوله : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } .
أى : أنزل الله هذا القرآن ، ليخوف به الكافرين من عذابه ، وليبشر به المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحات ، أن لهم من خالقهم - عز وجل - أجراً حسنا هو الجنة ونعيمها .
{ قيّماً } مستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ، أو { قيما } بمصالح العباد فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال ، أو على الكتب السابقة يشهد بصحتها ، وانتصابه بمضمر تقديره جعله قيما أو على الحال من الضمير في { له } ، أو من { الكتاب } على أن الواو { ولم يجعل } للحال دون العطف ، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير { قيما } . { ليُنذر بأسا شديدا } أي لينذر الذين كفروا عذبا شديدا ، فحذف المفعول الأول اكتفاء بدلالة القرينة واقتصارا على الغرض المسوق إليه . { من لدنه } صادرا من عنده ، وقرأ أبو بكر بإسكان الدال كإسكان الباء من سبع مع الإشمام ليدل على أصله ، وكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع . { ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا } هو الجنة .
و «البأس الشديد » عذاب الآخرة ، ويحتمل أن يندرج معه في النذارة عذاب الدنيا ببدر وغيرها ، ونصبه على المفعول الثاني ، والمعنى لينذر العالم ، وقوله { من لدنه } أي من عنده ومن قبله ، والضمير في { لدنه } عائد على الله تعالى ، وقرأ الجمهور من «لدُنْهُ » بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «من لدْنِهِ » بسكون الدال وإشمام الضم فيها وكسر النون والهاء ، وفي «لدن » لغات ، يقال «لدن » مثل سبع ، «ولدْن » بسكون الدال «ولُدن » بضم اللام ، «ولَدَن » بفتح اللام والدال وهي لفظة مبنية على السكون ، ويلحقها حذف النون مع الإضافة ، وقرأ عبد الله وطلحة «ويَبْشُر » بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ، وقوله { أن لهم أجراً } تقديره بأن لهم أجراً ، والأجر الحسن نعيم الجنة ، ويتقدمه خير الدنيا .
و { قيماً } حال من { الكتاب } أو من ضميره المجرور باللام ، لأنه إذا جعل حالاً من أحدهما ثبت الاتصاف به للآخر إذ هما شيء واحد ، فلا طائل فيما أطالوا به من الإعراب .
والقيم : صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه ، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله ، كما تقدم عند قوله تعالى : { الحي القيوم } في سورة البقرة ( 255 ) .
والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها ، فالمراد أن كماله متعدّ بالنفع ، فوزانه وزان وصفه بأنه { هدى للمتقين } في سورة البقرة : ( 2 ) .
والجمع بين قوله : { ولم يجعل له عوجاً } وقوله : { قيماً } كالجمع بين { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] وبين { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وليس هو تأكيداً لنفي العوج .
{ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ }
{ لينذر } متعلق ب { أنزل } . والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة ، أي لينذر الله بأساً شديداً من لدنه ، والمفعول الأول ل { ينذر } محذوف لقصد التعميم ، أو تنزيلاً للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذَر به وهو البَأس الشديد تهويلاً له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله .
والبأس : الشدة في الألم . ويطلق على القوة في الحرب لأنها تؤلم العدو . وقد تقدم في قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } من سورة البقرة ( 177 ) . والمراد هنا : شدة الحال في الحياة الدنيا ، وذلك هو الذي أطلق على اسم البأس في القرآن ، وعليه درج الطبري . وهذا إيماء بالتهديد للمشركين بما سيلقونه من القتل والأسر بأيدي المسلمين ، وذلك بأس من لدنه تعالى لأنه بتقديره وبأمره عباده أن يفعلوه ، فاستعمال ( لدن ) هنا في معنييه الحقيقي والمجازي .
وليس في جعل الإنذار ببأس الدنيا علّةً لإنزال الكتاب ما يقتضي اقتصار عِلل إنزاله على ذلك ، لأن الفعل الواحد قد تكون له علل كثيرة يذكر بعضُها ويُترك بعض .
وإنما آثَرْتُ الحمل على جعل اليأس الشديد بأسَ الدنيا للنقصي مما يرد على إعادة فعل { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } [ الكهف : 4 ] كما سيأتي .
ويجوز أن يراد بالبأس عذابُ الآخرة فإنه بأس شديد ، ويكون قوله : من لدنه } مستعملاً في حقيقته . وبهذا الوجه فسر جمهور المفسرين .
ويجوز أن يراد بالبأس الشديد ما يشمل بأس عذاب الآخرة وبأس عذاب الدنيا ، وعلى هذا درج ابن عطية والقرطبي ، ويكون استعمال من { لدنه } في معنييه الحقيقي والمجازي ، أما في عذاب الآخرة فظاهر ، وأما في عذاب الدنيا فلأن بعضه بالقتل والأسر وهما من أفعال الناس ولكن الله أمر المسلمين بهما فهما من لدنه .
وحذف مفعول { ينذر } لدلالة السياق عليه لظهور أنه ينذر الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب ولا بالمنزل عليه ، ولدلالة مقابله عليه في قوله : { ويبشر المؤمنين } .
عطف على قوله : { لينذر بأساً } ، فهو سبب آخر لإنزال الكتاب أثارته مناسبة ذكر الإنذار ليبقى الإنذار موجهاً إلى غيرهم .
وقوله : { أن لهم أجراً حسناً } متعلق ب { يبشر } بحذف حرف الجر مع ( أن ) ، أي بأن لهم أجراً حسناً . وذكر الإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى أن استحقاق ذلك الأجر بحصول ذلك لأمرين . ولا يتعرض القرآن في الغالب لحالة حصول الإيمان مع شيء من الأعمال الصالحة كثيرٍ أو قليلٍ ، ولحُكْمِهِ أدلة كثيرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أنزله {قيما}: مستقيما، {لينذر} محمد صلى الله عليه وسلم بما في القرآن، {بأسا}، يعني: عذابا، {شديدا من لدنه}، يعني: من عنده...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أنزل على عبده القرآن معتدلاً مستقيما لا عوج فيه لينذركم أيها الناس "بأسا "من الله "شديدا". وعنى بالبأس العذاب العاجل، والنكال الحاضر والسطوة.
وقوله: "مِنْ لَدُنْهُ" يعني: من عند الله...
وقوله: "وَيُبَشّرَ المُؤْمِنِينَ" يقول: ويبشر المصدقين الله ورسوله "الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحات" وهو العمل بما أمر الله بالعمل به، والانتهاء عما نهى الله عنه "أنّ لَهُمْ أجْرا حَسَنا" يقول: ثوابا جزيلاً لهم من الله على إيمانهم بالله ورسوله، وعملهم في الدنيا الصالحات من الأعمال، وذلك الثواب: هو الجنة التي وعدها المتقون. وقوله: "ماكِثِينَ فِيهِ أبَدا": خالدين، لا ينتقلون عنه، ولا يُنْقَلون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قيما} قال بعضهم: القيم: الشاهد، أي القيم على الكتب والشاهد عليها في الزيادة والنقصان وفي التغيير والتحريف، يبين ما زادوا فيها، و ما نقصوا، وما حرفوه، وما غيروه...
وقال بعضهم: قوله: {قيما} أي ثابتا قائما أبدا لا يبدَّل، ولا يغير، ولا يزداد، ولا ينقص، وهو على ما وصفه {لا يأتيه الباطل} الآية (فصلت: 42) وهو على ما وصف الحق بالثبات والقيام، والباطل بالذهاب والتلاشي كقوله: {كذلك يضرب الله الحق والباطل} الآية: {الرعد: 17) وما وصف الكلمة الطيبة بالثبات والقيام لها، والخبيثة بالزوال والتغيير والذهاب، فعلى ذلك هذا القرآن لأنه حق...
{لينذر بأسا شديدا} أي أنزله على عبده لينذركم بأسا شديدا، أي لينذر ببأس شديد، والبأس: العذاب.
أحدهما: أنزل على عبده الكتاب {من لدنه} أي من عنده.
والثاني: لينذر الكفار بأسا شديدا، يَنْزِلَ من عنده، والله أعلم.
{ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات}... البشارة المطلقة إنما تكون للمؤمنين الذين عَمِلُوا الصالحات، لأنه لم يذكر البشارة المطلقة في جميع القرآن إلا للمؤمنين الذين عملوا الصالحات. ثم المؤمنون الذين عملوا غير الصالحات في مشيئة الله؛ إن شاء عفا عنهم، و إن شاء عذبهم بقدر عملهم الذي كانوا عملوا، و إن شاء قابل سيئاتهم بحسناتهم؛ فإن فضلت حسناتهم على سيئاتهم بدَّل سيئاتهم حسنات على ما أخبر: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) هم في مشيئة الله على ما ذكر، و ليست لهم البشارة المطلقة التي للمؤمنين الذين عملوا الصالحات.
{أن لهم أجرا حسنا} لا سوء فيه، ولا قبح... {ماكثين فيه أبدا} لا يخرجون منه أبدا، وهم مقيمون فيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قيِّماً} فيه ثلاثة تأويلات:...
الثالث: أنه المعتمد عليه والمرجوع إليه كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها..
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{قَيِّماً}: أي صانه عن التعارض والتناقض، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز. "والبأس الشديد ": مُعَجَّلُه الفراق، ومؤجَّلُه الاحتراق. ويقال هو البقاء عن الله تعالى، والابتلاء بغضب الله. ومعنى الآية لينذرهم ببأس شديد.
{وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً}. والعملُ الصالحُ ما يصلح للقبول، وهو ما يُؤدَّى على الوجه الذي أُمِرَ به. ويقال العمل الصالح ما كان بنعت الخلوص، وصاحبُه صادقٌ فيه. ويقال هو الذي يستعجل عليه صاحبه حَظَّاً في الدنيا مِنْ أَخذ عِوَضٍ، أو قَبُولِ جاهٍ، أو انعقادِ رِياسة... وما في هذا المعنى. وحصلت البشارةُ بأَنَّ لهم أجراً حسناً، والأجرُ الحَسَنُ ما لا يجري مع صاحبه استقصاءُ في العمل. ويقال الأجر الحَسَنُ ما يزيد على مقدار العمل. ويقال الأجر الحَسَنُ ما لا يُذَكِّر صاحبَه تقصيرَه، ويستر عنه عيوبَ عمله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة، وفي أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت: فائدته التأكيد، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح. وقيل: قيما على سائر الكتب مصدقاً لها، شاهداً بصحتها. وقيل: قيماً بمصالح العباد وما لا بدّ لهم منه من الشرائع... «أنذر» متعدّ إلى مفعولين، كقوله {إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] فاقتصر على أحدهما، وأصله {لِّيُنذِرَ} الذين كفروا {بَأْسًا شَدِيدًا} والبأس من قوله {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبآسة
{مِّن لَّدُنْهُ} صادراً من عنده... {وَيُبَشِّرُ} بالتخفيف والتثقيل...
فإن قلت: لم اقتصر على أحد مفعولي أنذر؟ قلت: قد جعل المنذر به هو الغرض المسبوق إليه، فوجب الاقتصار عليه. والدليل عليه تكرير الإنذار في قوله {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا (4)} متعلقاً بالمنذرين من غير ذكر المنذر به، كما ذكر المبشر به في قوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} استغناء بتقدّم ذكره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وقد مضى في الفاتحة ثم في الأنعام عن الإمام سعد الدين التفتازاني الشافعي رحمه الله أن كل سورة افتتحت بالحمد فللإشارة إلى نعمة من أمهات النعم التي هي إيجاد وإبقاء أولاً، وإيجاد وإبقاء ثانياً، وأنه أشير في الفاتحة لكونها أم الكتاب إلى الأربع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول وهو ظاهر، وفي هذه السورة إلى الإبقاء الأول، فإن نظام العالم وبقاء النوع الإنساني يكون بالنبي والكتاب. ولما وصف الكتاب بما له من العظمة في جميع ما مضى من أوصافه من الحكمة والإحكام، والتفصيل والبيان، والحقية، والإخراج من الظلمات إلى النور، والجمع لكل معنى والتبيان لكل شيء، أتبعه ذكر فائدته مقدماً ما هو الأهم من درء المفسدة بالإنذار، لأنه مقامه كما هو ظاهر من {سبحان} فقال: {لينذر} وقصره على المفعول الأول ليعم كل من يصح قبوله الإنذار ولو تقديراً، وليفيد أن الغرض بيان المنذر به لا المنذر {بأساً شديداً} كائناً {من لدنه} أي أغرب ما عنده من الخوارق بما في هذا الكتاب من الإعجاز لمن خالف أمره من عذاب الدنيا والآخرة كوقعة بدر وغيرها المفيد لإدخال الإسلام عليهم وهم كارهون، بعد ما كانوا فيه من القوة وهو من الضعف {ويبشر المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف {الذين يعملون الصالحات} وهو ما أمر به خالصاً له، وذلك من أسنان مفتاح الإيمان {أن لهم} أي من حيث هم عاملون {أجراً حسناً} وهو النعيم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والغرض من إنزال الكتاب واضح صريح: (لينذر بأسا شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا). ويغلب ظل الإنذار الصارم في التعبير كله. فهو يبدأ به على وجه الإجمال: (لينذر بأسا شديدا من لدنه)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والقيم: صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله، كما تقدم عند قوله تعالى: {الحي القيوم} في سورة البقرة (255).
والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها، فالمراد أن كماله متعدّ بالنفع، فوزانه وزان وصفه بأنه {هدى للمتقين} في سورة البقرة: (2).
والجمع بين قوله: {ولم يجعل له عوجاً} وقوله: {قيماً} كالجمع بين {لا ريب فيه} [البقرة: 2] وبين {هدى للمتقين} [البقرة: 2] وليس هو تأكيداً لنفي العوج.
{لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ}
{لينذر} متعلق ب {أنزل}. والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة، أي لينذر الله بأساً شديداً من لدنه، والمفعول الأول ل {ينذر} محذوف لقصد التعميم، أو تنزيلاً للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذَر به وهو البَأس الشديد تهويلاً له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله.
والبأس: الشدة في الألم. ويطلق على القوة في الحرب لأنها تؤلم العدو. وقد تقدم في قوله تعالى: {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} من سورة البقرة (177). والمراد هنا: شدة الحال في الحياة الدنيا، وذلك هو الذي أطلق على اسم البأس في القرآن، وعليه درج الطبري. وهذا إيماء بالتهديد للمشركين بما سيلقونه من القتل والأسر بأيدي المسلمين، وذلك بأس من لدنه تعالى لأنه بتقديره وبأمره عباده أن يفعلوه، فاستعمال (لدن) هنا في معنييه الحقيقي والمجازي.
وليس في جعل الإنذار ببأس الدنيا علّةً لإنزال الكتاب ما يقتضي اقتصار عِلل إنزاله على ذلك، لأن الفعل الواحد قد تكون له علل كثيرة يذكر بعضُها ويُترك بعض.
وإنما آثَرْتُ الحمل على جعل اليأس الشديد بأسَ الدنيا للتفصي مما يرد على إعادة فعل {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} [الكهف: 4] كما سيأتي.
ويجوز أن يراد بالبأس عذابُ الآخرة فإنه بأس شديد، ويكون قوله: من لدنه} مستعملاً في حقيقته. وبهذا الوجه فسر جمهور المفسرين.
ويجوز أن يراد بالبأس الشديد ما يشمل بأس عذاب الآخرة وبأس عذاب الدنيا، وعلى هذا درج ابن عطية والقرطبي، ويكون استعمال من {لدنه} في معنييه الحقيقي والمجازي، أما في عذاب الآخرة فظاهر، وأما في عذاب الدنيا فلأن بعضه بالقتل والأسر وهما من أفعال الناس ولكن الله أمر المسلمين بهما فهما من لدنه.
وحذف مفعول {ينذر} لدلالة السياق عليه لظهور أنه ينذر الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب ولا بالمنزل عليه، ولدلالة مقابله عليه في قوله: {ويبشر المؤمنين}.
عطف على قوله: {لينذر بأساً}، فهو سبب آخر لإنزال الكتاب أثارته مناسبة ذكر الإنذار ليبقى الإنذار موجهاً إلى غيرهم.
وقوله: {أن لهم أجراً حسناً} متعلق ب {يبشر} بحذف حرف الجر مع (أن)، أي بأن لهم أجراً حسناً. وذكر الإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى أن استحقاق ذلك الأجر بحصول ذلك لأمرين. ولا يتعرض القرآن في الغالب لحالة حصول الإيمان مع شيء من الأعمال الصالحة كثيرٍ أو قليلٍ، ولحُكْمِهِ أدلة كثيرة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَيِّماً} على الإنسان، في ما يريد أن يرعى به مصالحه الفردية والاجتماعية في الدنيا والآخرة، ويمنعه من اختيار الجانب السيّئ الذي يُرهق حياته ومصيره، لأنه لا يملك في المفهوم القرآني نفسه، فلا حرية له للإضرار بها، لأن الله الذي خلقه هو الذي يملك منه ما لا يملكه من نفسه. وهذا هو الذي يجعل للإسلام في قرآنه القيومية المطلقة على حركة الإنسان في حياته، ويضغط عليه في سبيل التطبيق الدقيق لآياته، لأن الإسلام لم ينطلق من حالةٍ مزاجيّةٍ عبثيّةٍ، بل انطلق من مصالح الإنسان في ما يأمر به، ومن المفاسد التي تربك حياته في ما ينهى عنه، ولذلك فلا مجال له لاختيار فكر آخر غير فكره، أو شريعةٍ مغايرةٍ لشريعته، فإن ذلك يمثل الانحراف الخطير عن موقع العبودية لله، وعن أساس المصلحة العليا للإنسان وللحياة التي يعيشها في كل مجالاته.
{لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} وهو عقابٌ شديدٌ من عند الله في يوم القيامة، ينذر به الكافرين به وبرسله وبكتبه، والمنحرفين عن دينه القويم في العقيدة والعمل... {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} فيقرنون الفكر بالطاعة لكي يصلح أمرهم وحياتهم من خلال الشريعة الحقة. {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} حين يدخلهم الله جنته، ليعيشوا النعيم الخالد والرضوان الإلهي فيها. وهذا هو الأجر الحسن الذي ينتظره المؤمنون العاملون، في تطلعاتهم المستقبلية، وفي أشواقهم الروحية.