ثم أخذ القرآن فى تثبيت النبى صلى الله عليه وسلم وفى تسليته ، وفى مدح ما جاء به من هدايات فقال - تعالى - : { قَدْ جَآءَكُمْ . . . . } .
قوله { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } البصائر : جمع بصيرة ، وهى للقلب بمنزلة البصر للعين ، فهى النور الذى يبصر به القلب ، كما أن البصر هن النور الذى تبصر به العين .
والمراد بها آيات القرآن ودلائله التى يفرق بها بين الهدى والضلالة . أى : قد جاءكم أيها الناس من ربكم وخالقكم هذا القرآن ودلائله التى يفرق بها بين الهدى والضلالة . أى : قد جاءكم أيها الناس من ربكم وخالقكم هذا القرآن بآياته وحججه وهداياته لكى تميزوا بين الحق والباطل ، وتتبعوا الصراط المستقيم .
وإطلاق البصائر على هذه الآيات من إطلاق اسم المسبب على السبب .
وقوله : { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } أى : فمن أبصر الحق وعلمه بواسطة تلك البصائر وآمن به فلنفسه أبصر وإياها نفع ، ولسعادتها ما قدم من ألوان الخير ، ومن عمى عن الحق وجهله بإعراضه عن هذه البصائر فعلى نفسه وحدها جنى وإياها ضرب العمى وهذا كقوله - تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } وقوله : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } واختتمت الآية بقوله { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أى : وما أنا عليكم برقيب أحصى عليكم أعمالكم ، وأحفظكم من الضلال ، وإنما أنا علىَّ البلاغ والله وحده هو الذى يحصى عليكم أعمالكم ويجازيكم عليها بما تستحقون .
{ قد جاءكم بصائر من ربكم } البصائر جمع بصيرة وهي للنفس كالبصر للبدن ، سميت بها لدلالة لأنها تجلي لها الحق وتبصرها به . { فمن أبصر } أي أبصر الحق وآمن به . { فلنفسه } أبصر لأن نفعه لها . { ومن عمي } عن الحق وضل . { فعليها } وباله . { وما أنا عليكم بحفيظ } وإنما أنا منذر والله سبحانه وتعالى هو الحفيظ عليكم ليحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها ، وهذا كلام ورد على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام .
و «البصائر » جمع بصيرة وهي ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها ، بالاعتبار ، فكأنه قال قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه ، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين ، والبصيرة أيضاً هي المعتقد المحصل في قول الشاعر [ الأسعر الجعفي ] : [ الكامل ]
راحوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى اكْتَافِهِمْ . . . وَبَصيِرَتي يَعْدُو بها عَتدٌ وَآى{[5042]}
وقال بعض الناس في هذا البيت البصيرة طريقة الدم ، والشاعر إنما يصف جماعة مشوا به في طلب دم ففتروا فجعلوا الأمر وراء ظهورهم ، وقوله تعالى : { من أبصر ومن عمي } عبارة مستعارة فيمن اهتدى ومن ضل ، وقوله { وما أنا عليكم بحفيظ } كان في أول الأمر وقبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حفيظاً على العالم آخذاً لهم بالإسلام والسيف .
هذا انتقال من محاجّة المشركين ، وإثبات الوحدانيّة لله بالربوبيّة من قوله : { إنّ الله فالق الحبّ والنَّوى إلى قوله وهو اللّطيف الخبير } [ الأنعام : 95 103 ] . فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاببٍ للنّبيء عليه الصّلاة والسّلام مقوللٍ لفعللِ أمر بالقول في أوّل الجملة ، حُذف على الشّائع من حذف القول للقرينة في قوله : { وما أنا عليكم بحفيظ } [ الأنعام : 104 ] . ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنّه كالتّوقيف والشّرح والفذلكة للكلام السّابق فيقدر : قُل يا محمّد قد جاءكم بصائر .
وبصائر جمع بصيرة ، والبصيرة : العقل الّذي تظهر به المعاني والحقائق ، كما أنّ البصر إدراك العين الّذي تتجلّى به الأجسام ، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها . وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم ، شُبّه بمجيء شيء كان غائباً ، تنويهاً بشأن ما حصل عندهم بأنّه كالشّيء الغائب المتوقَّع مجيئه كقوله تعالى : { جاء الحقّ وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] . وخلو فعل « جاء » عن علامة التّأنيث مع أنّ فاعله جمعُ مؤنّث لأنّ الفعل المسند إلى جمع تكسير مطلقاً أو جمع مؤنّث يجوز اقترانه بتاء التّأنيث وخلوُّه عنها .
و ( من ) ابتدائيّة تتعلّق ب« جاء » أو صفة ل { بصائر } ، وقد جعل خطاب الله بها بمنزلة ابتداء السّير من جَانبه تعالى ، وهو منزّه عن المكان والزّمان ، فالابتداء مجاز لغوي ، أو هو مجاز بالحذف بتقدير : مِن إرادةِ ربّكم . والمقصود التّنويه بهذه التّعاليم والذّكريات الّتي بها البصائر ، والحثّ على العمل بها ، لأنّها مسداة إليهم ممّن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ ، مع ما في ذكر الربّ وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر .
ولذلك فرّع عليه قوله : { فمن أبصر فلنفسه } ، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضّلال بعد هذه البصائر ، ولا فائدة لغيركم فيها « فمن أبصر فلنفسه أبصر » ، أي من عَلِم الحقّ فقد عَلِم علماً ينفع نفسه ، { ومن عمي } أي ضلّ عن الحقّ فقد ضلّ ضَلالاً وزره على نفسه .
فاستعير الإبصار في قوله : { أبصر } للعلم بالحقّ والعملِ به لأنّ المهتدي بهذا الهدي الواردِ من الله بمنزلة الّذي نُوّر له الطّريق بالبدر أو غيره ، فأبصره وسار فيه ، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون { أبصر } تمثيلاً موجزاً ضمّن فيه تشبيه هيئة المرشَد إلى الحقّ إذا عمِل بها أرشِد به ، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره .
واستعير العمى في قوله : { عَمِيَ } للمكابرة والاستمرار على الضّلال بعد حصول ما شأنه أن يُقلعه لأنّ المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهَدْي هاد خِرّيتٍ . ويجوز اعتبار التمّثيليّة فيه أيضاً كاعتبارها في ضدّه السابق .
واستعمل اللاّم في الأوّل استعارة للنّفع لدلالتها على المِلك وإنّما يُملك الشّيءُ النّافعُ المدّخر للنّوائب ، واستعيرت ( على ) في الثّاني للضرّ والتّبعة لأنّ الشّيء الضّارّ ثقيل على صاحبه يكلّفه تَعباً وهو كالحِمل الموضوع على ظهره ، وهذا معروف في الكلام البليغ ، قال تعالى : { من عمل صالحاً فلنفسه } [ فصلت : 46 ] ، وقال { من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها } [ الإسراء : 15 ] ، وقال { وليَحْمِلُنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } ، ولأجل ذلك سمّي الإثم وزراً كما تقدّم في قوله تعالى : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } [ الأنعام : 31 ] ، وقد جاء اللاّم في موضع ( على ) في بعض الآيات ، كقوله تعالى : { إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسَأتم فلَهَا } [ الإسراء : 7 ] .
وفي الآية محسّن جناس الاشتقاق بين « البصائر » و« أبصَر » ، وملاحظة مناسبة في الإبصار والبصائر . وفيها محسّن المطابقة بين قوله : { أبصر } و { عمي } ، وبين ( اللاّم ) و ( عَلى ) .
ويتعلّق قوله : { لنفسه } بمحذوف دلّ عليه فعل الشّرط . وتقديره : فمن أبصر فلنفسه أبصر . واقترن الجواب بالفاء نظراً لصدره إذ كان اسماً مجروراً وهو غير صالح لأن يلي أداةَ الشّرط .
وإنّما نسج نظم الآية على هذا النّسْج للإيذان بأنّ { لنفسه } مقدّم في التّقدير على متعلّقه المحذوف . والتّقدير : فلنفسه أبصر ، ولولا قصد الإيذان بهذا التّقديم لقال : فمن أبصر أبصر لنفسه ، كما قال : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } [ الإسراء : 7 ] والمقام يقتضي تقديم المعمول هنا ليفيد القصر ، أي فلنفسه أبصر لا لفائدة غيره ، لأنّهم كانوا يحسبون أنّهم يغيظون النّبيء صلى الله عليه وسلم بإعراضهم عن دعوته إيّاهم إلى الهدى ، وقرينة ذلك أن هذا الكلام مقول من النبي صلى الله عليه وسلم وقد أومأ إلى هذا صاحب « الكشاف » ، بخلاف آية { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } [ الإسراء : 7 ] ، فإنّها حكت كلاماً خُوطب به بنو إسرائيل من جانب الله تعالى وهم لا يتوهّمون أنّ إحسانهم ينفع الله أو إساءتهم تضرّ الله .
والكلام على قوله : { ومن عمي فعليها } نظير الكلام على قوله : { فمن أبصر فلنفسه } . وعُدّي فعل { عَمِيَ } بحرف ( على ) لأنّ العمى لمّا كان مجازاً كان ضُرّاً يقع على صاحبه .
وجملة : { وما أنا عليكم بحفيظ } تكميل لما تضمّنه قوله : { فمن أبصر فلنفسه ومن عمِي فعليها } ، أي فلا ينالني من ذلك شيء فلا يرجع لي نفعكم ولا يعود عليّ ضرّكم ولا أنا وكيل على نفعكم وتجنّب ضرّكم فلا تحسبُوا أنّكم حتّى تمكرون بي بالإعراض عن الهدى والاستمرار في الضّلال .
والحفيظ : الحارس ومن يُجعل إليه نظر غيره وحفظُه ، وهو بمنزلة الوكيل إلاّ أنّ الوكيل يكون مجعولاً له الحفظ من جانب الشيء المحفوظ ، والحفيظ أعمّ لأنّه يكون من جانبه ومن جانب مَواليه . وهذا قريب من معنى قوله { وكذّب به قومك وهو الحقّ قل لستُ عليكم بوكيل } [ الأنعام : 66 ] .
والإتيان بالجملة الاسميّة هنا دقيق ، لأنّ الحفيظ وصف لا يُفيد غيرُه مُفادَه ، فلا يقوم مقامَه فعل حَفِظ ، فالحفيظ صفة مشبّهة يقدّر لها فِعْل منقول إلى فَعُل بضمّ العين لم يُنطق به مثل الرّحيم .
ولا يفيد تقديم المسند إليه في الجملة الاسميّة اختصاصاً خلافاً لما يوهمه ظاهر تفسير الزمخشري وإن كان العلامة التّفتزاني مال إليه ، وسكت عنه السيّد الجرجاني وهو وقوف مع الظّاهر . وتقديم { عليكم } على { بحفيظ } للاهتمام ولرعاية الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قد جاءكم} يا أهل مكة، {بصائر}، يعني بيان {من ربكم}، يعني القرآن، نظيرها في الأعراف، {فمن أبصر} إيمانا بالقرآن، {فلنفسه ومن عمي} عن إيمان بالقرآن، {فعليها}، يعني فعلى نفسه، {وما أنا عليكم بحفيظ}، يعني برقيب، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا أمر من الله جلّ ثناؤه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الذين نبههم بهذه الآيات من قوله:"إنّ اللّهَ فالِقُ الحَبّ والنّوَى..." إلى قوله: "وَهُوَ اللّطِيفُ الخَبِيرُ "على حججه عليهم، وعلى تبيين خلقه معهم، العادلين به الأوثان والأنداد، والمكذّبين بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم من عند الله. قل لهم يا محمد: قد جاءكم أيها العادلون بالله والمكذّبون رسوله "بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ" أي ما تبصرون به الهدى من الضلال والإيمان من الكفر. وهي جمع بصيرة... يعني بالبصيرة: الحجة البينة الظاهرة...قال ابن زيد، في قوله: "قَدْ جاءَكُمْ بَصَائرُ مِنْ رَبكُمْ" قال: البصائر: الهدى بصائر في قلوبهم لدينهم، وليست ببصائر الرؤوس. وقرأ: "فإنّها لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي فِي الصّدُورِ" قال: إنما الدّيّنُ بصره وسمعه في هذا القلب...
عن قتادة: "قَدْ جاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبّكُمْ" أي: بينة.
وقوله: "فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ" يقول: فمن تبين حجج الله وعرفها وأقرّ بها وآمن بما دلته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله وما جاء به، فإنما أصاب حظّ نفسه ولنفسه عمل، وإياها بغى الخير. "وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها" يقول: ومن لم يستدلّ بها ولم يصدّق بما دلته عليه من الإيمان بالله ورسوله وتنزيله، ولكنه عمي عن دلالتها التي تدلّ عليها، يقول: فنفسَه ضرّ وإليها أساء لا إلى غيرها.
وأما قوله: "وَما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ" يقول: وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أُرسلت به إليكم، والله الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
البصائر: جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب العلم الذي يبصر به نفس الشيء على ما هوبه، والمراد ههنا قد جاءكم القرآن الذي فيه الحجج والبراهين،... فمن نظر وعلم فلنفسه نفع، ومن جهل وعمي فلنفسه ضر. ولست أمنعكم منه ولا أحول بينكم وما تحتاجون...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أوضحَ البيانَ وأَلاَحَ الدليلَ، وأزاحَ العِلَل وأنارَ السبيلَ، ولكن قيل: وما انتفاعُ أخي الدنيا بمقلته *إذا استوت عنده الأنوارُ والظُّلَمُ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} هو وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} والبصيرة: نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر، أي جاءكم من الوحي، والتنبيه على ما يجوز على الله وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر {فَمَنْ أَبْصَرَ} الحق وآمن {فَلِنَفْسِهِ} أبصر وإياها نفع.
{وَمَنْ عَمِيَ} عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضرَّ بالعمى.
{وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر، والله هو الحفيظ عليكم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «البصائر» جمع بصيرة وهي: ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار، فكأنه قال قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين، والبصيرة أيضاً هي المعتقد المحصل...
وقوله تعالى:"من أبصر..." "ومن عمي... "عبارة مستعارة فيمن اهتدى ومن ضل.
والبصائر جمع البصيرة، وكما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس، فالبصيرة: اسم للإدراك التام الحاصل في القلب. قال تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} أي له من نفسه معرفة تامة، وأراد بقوله: {قد جاءكم بصائر من ربكم} الآيات المتقدمة، وهي في أنفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها، ووقف على حقائقها، فلما كانت هذه الآيات أسبابا لحصول البصائر. سميت هذه الآيات أنفسها بالبصائر، والمقصود من هذه الآية بيان ما يتعلق بالرسول وما لا يتعلق به. أما القسم الأول: وهو الذي يتعلق بالرسول، فهو الدعوة إلى الدين الحق، وتبليغ الدلالة والبينات فيها، وهو أنه عليه السلام ما قصر في تبليغها وإيضاحها وإزالة الشبهات عنها، وهو المراد من قوله: {قد جاءكم بصائر من ربكم}.
وأما القسم الثاني: وهو الذي لا يتعلق بالرسول، فإقدامهم على الإيمان وترك الكفر، فإن هذا لا يتعلق بالرسول، بل يتعلق باختيارهم، ونفعه وضره عائد إليهم، والمعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر، وإياها نفع، ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر بالعمى {وما أنا عليكم بحفيظ} احفظ أعمالكم وأجازيكم عليها. إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم.
المسألة الثانية: في أحكام هذه الآية، وهي أربعة ذكرها القاضي: فالأول: الغرض بهذه البصائر أن ينتفع بها اختيارا استحق بها الثواب لا أن يحمل عليها أو يلجأ إليها، لأن ذلك يبطل هذا الغرض. والثاني: أنه تعالى إنما دلنا وبين لنا منافع، وأغراض المنافع تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تعالى.
والثالث: أن المرء بعدوله عن النظر والتدبر يضر بنفسه، ولم يؤت إلا من قبله لا من قبل ربه.
والرابع: أنه متمكن من الأمرين، فلذلك قال: {فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها}...
المسألة الثالثة: المراد من الإبصار ههنا العلم، ومن العمي الجهل، ونظيره قوله تعال: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس، كما يقال: جاءت العافية وقد انصرف المرض.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى: {قد جاءكم بصائر من ربكم} البصائر: جمع بصيرة، ولها معان؛ منها عقيدة القلب والمعرفة الثابتة باليقين أو اليقين في العلم بالشيء والعبرة والشاهد أو الشهيد المثبت للأمر، والحجة أو الفطنة، أو القوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، وهذا يقابل البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية، ومنه قول معاوية لبعض بني هاشم: إنكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم، وقول الهاشمي له: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم. أي قلوبكم وعقولكم، والمراد بالبصائر هنا الآيات الواردة في هذه السورة وفي هذا السياق الذي أوله {إن الله فالق الحب والنوى} أو هي وما في معناها من الآيات المثبتة لحقائق الدين، أو القرآن بجملته، وربما يرجح هذا بتذكير الفعل « جاءكم» إذ لا بد له من نكتة في الكلام البليغ لأنه خلاف الأصل وإن كان جائزا. وأقوى النكت وقوع اللفظ المؤنث على معنى مذكر. والخطاب وارد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال ابن جرير وغيره، فالمعنى قد جاءكم في هذه الآيات الجلية، بصائر من الحجج العقلية والكونية، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية، التي يتوقف عليها نيل السعادة الأبدية، جاءكم ذلك من ربكم الذي خلقكم وسواكم، وربى أجسادكم ومشاعركم وسائر قواكم، ليربي بها أرواحكم، بأحسن مما ربى به أشباحكم.
{فمن أبصر فلنفسه} أي فمن أبصر بها الحق والهدى، فآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، فلنفسه أبصر، ولسعادتها ما قدم من الخير وأخر، {ومن عمي فعليها} أي ومن عمي عن الحق بإعراضه عنها، وعدم النظر والاستبصار بها فأصر على ضلاله، ثباتا على عناده، أو تقليد آبائه وأجداده، فعليها جنى، وإياها أردى، ولَعمَى البصائر شر من عمى الأبصار، وأسوأ عاقبة في هذه الدار وفي تلك الدار، وهذا كقوله تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصلت: 46] وقوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] وقوله: {إن أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]، وقوله هنا « فلها» بمعنى فعليها، ونكتته المشاكلة أو الازدواج وقيل غير ذلك.
{وما أنا عليكم بحفيظ} يراقب أعمالكم ويحصيها عليها ويحفظها ليجازيكم عليها، وإنما أنا بشير ونذير، والله هو الرقيب الحفيظ، فهو يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويجزيكم عليه بما تستحقون، فعليه وحده الحساب، وما علي إلا البلاغ.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا انتقال من محاجّة المشركين، وإثبات الوحدانيّة لله بالربوبيّة من قوله:"إنّ الله فالق الحبّ والنَّوى..." إلى قوله "وهو اللّطيف الخبير "[الأنعام: 95 103]. فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاب للنّبي عليه الصّلاة والسّلام مقولٍ لفعلِ أمر بالقول في أوّل الجملة، حُذف على الشّائع من حذف القول للقرينة في قوله: {وما أنا عليكم بحفيظ} [الأنعام: 104]. ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنّه كالتّوقيف والشّرح والفذلكة للكلام السّابق فيقدر: قُل يا محمّد قد جاءكم بصائر.
وبصائر جمع بصيرة، والبصيرة: العقل الّذي تظهر به المعاني والحقائق، كما أنّ البصر إدراك العين الّذي تتجلّى به الأجسام، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها. وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم، شُبّه بمجيء شيء كان غائباً، تنويهاً بشأن ما حصل عندهم بأنّه كالشّيء الغائب المتوقَّع مجيئه كقوله تعالى: {جاء الحقّ وزهق الباطل} [الإسراء: 81]...
والمقصود التّنويه بهذه التّعاليم والذّكريات الّتي بها البصائر، والحثّ على العمل بها، لأنّها مسداة إليهم ممّن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ، مع ما في ذكر الربّ وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر.
ولذلك فرّع عليه قوله: {فمن أبصر فلنفسه}، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضّلال بعد هذه البصائر، ولا فائدة لغيركم فيها « فمن أبصر فلنفسه أبصر»، أي من عَلِم الحقّ فقد عَلِم علماً ينفع نفسه، {ومن عمي} أي ضلّ عن الحقّ فقد ضلّ ضَلالاً وزره على نفسه.
فاستعير الإبصار في قوله: {أبصر} للعلم بالحقّ والعملِ به لأنّ المهتدي بهذا الهدي الواردِ من الله بمنزلة الّذي نُوّر له الطّريق بالبدر أو غيره، فأبصره وسار فيه، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون {أبصر} تمثيلاً موجزاً ضمّن فيه تشبيه هيئة المرشَد إلى الحقّ إذا عمِل بها أرشِد به، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره.
واستعير العمى في قوله: {عَمِيَ} للمكابرة والاستمرار على الضّلال بعد حصول ما شأنه أن يُقلعه لأنّ المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهَدْي هاد خِرّيتٍ. ويجوز اعتبار التمّثيليّة فيه أيضاً كاعتبارها في ضدّه السابق.
واستعمل اللاّم في الأوّل استعارة للنّفع لدلالتها على المِلك وإنّما يُملك الشّيءُ النّافعُ المدّخر للنّوائب، واستعيرت (على) في الثّاني للضرّ والتّبعة لأنّ الشّيء الضّارّ ثقيل على صاحبه يكلّفه تَعباً وهو كالحِمل الموضوع على ظهره، وهذا معروف في الكلام البليغ، قال تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه} [فصلت: 46]، وقال {من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها} [الإسراء: 15]، وقال {وليَحْمِلُنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم}، ولأجل ذلك سمّي الإثم وزراً كما تقدّم في قوله تعالى: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} [الأنعام: 31]، وقد جاء اللاّم في موضع (على) في بعض الآيات، كقوله تعالى: {إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسَأتم فلَهَا} [الإسراء: 7]...
وإنّما نسج نظم الآية على هذا النّسْج للإيذان بأنّ {لنفسه} مقدّم في التّقدير على متعلّقه المحذوف. والتّقدير: فلنفسه أبصر، ولولا قصد الإيذان بهذا التّقديم لقال: فمن أبصر أبصر لنفسه، كما قال: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء: 7] والمقام يقتضي تقديم المعمول هنا ليفيد القصر، أي فلنفسه أبصر لا لفائدة غيره، لأنّهم كانوا يحسبون أنّهم يغيظون النّبيء صلى الله عليه وسلم بإعراضهم عن دعوته إيّاهم إلى الهدى، وقرينة ذلك أن هذا الكلام مقول من النبي صلى الله عليه وسلم وقد أومأ إلى هذا صاحب « الكشاف»، بخلاف آية {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء: 7]، فإنّها حكت كلاماً خُوطب به بنو إسرائيل من جانب الله تعالى وهم لا يتوهّمون أنّ إحسانهم ينفع الله أو إساءتهم تضرّ الله.
والكلام على قوله: {ومن عمي فعليها} نظير الكلام على قوله: {فمن أبصر فلنفسه}. وعُدّي فعل {عَمِيَ} بحرف (على) لأنّ العمى لمّا كان مجازاً كان ضُرّاً يقع على صاحبه.
وجملة: {وما أنا عليكم بحفيظ} تكميل لما تضمّنه قوله: {فمن أبصر فلنفسه ومن عمِي فعليها}، أي فلا ينالني من ذلك شيء فلا يرجع لي نفعكم ولا يعود عليّ ضرّكم ولا أنا وكيل على نفعكم وتجنّب ضرّكم فلا تحسبُوا أنّكم حتّى تمكرون بي بالإعراض عن الهدى والاستمرار في الضّلال.
والحفيظ: الحارس ومن يُجعل إليه نظر غيره وحفظُه، وهو بمنزلة الوكيل إلاّ أنّ الوكيل يكون مجعولاً له الحفظ من جانب الشيء المحفوظ، والحفيظ أعمّ لأنّه يكون من جانبه ومن جانب مَواليه. وهذا قريب من معنى قوله {وكذّب به قومك وهو الحقّ قل لستُ عليكم بوكيل} [الأنعام: 66].
والإتيان بالجملة الاسميّة هنا دقيق، لأنّ الحفيظ وصف لا يُفيد غيرُه مُفادَه، فلا يقوم مقامَه فعل حَفِظ، فالحفيظ صفة مشبّهة يقدّر لها فِعْل منقول إلى فَعُل بضمّ العين لم يُنطق به مثل الرّحيم... وتقديم {عليكم} على {بحفيظ} للاهتمام ولرعاية الفاصلة.
وبصائر جمع بصيرة، والبصيرة للمعنويات والإشراقات التي تأتي في القلوب كالبصر بالنسبة للعين، و (الكون) يعطيكم أدلة الإبصار، والقرآن يعطيكم أدلة البصائر، فكما أن الله هدى الإنسان فحذره ونهاه عن المعاصي ومنحه النور الذي يجلي له الأشياء فيسير على هدى فلا يرتطم ولا يصطدم، كذلك جعل المعنويات نورا، والنور الأول في البصر يأخذه الكافر والمؤمن، وكلنا شركاء فيه مثله مثل الرزق، لكن النور الثاني في البصائر يأخذه المؤمن فقط، ولذلك يقول ربنا: {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} (من الآية 9 سورة الحديد). وهو نور الهداية في بصائر المعنويات، فيوضح: أنا خلقتكم خلقا ووضعت لكم قوانين لصيانتكم. فقانون الصيانة في ماديات الدنيا للمؤمن والكافر، وقانون الصيانة في معنويات الحياة خاصة بالمؤمن.