الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ} (104)

قوله تعالى : { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ } : إنما ذَكَّر الفعلَ لشيئين : أحدهما الفصلُ بالمفعول ، والثاني كون التأنيث مجازياً . والبصائر جمع البصيرة ، وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ، ومنه قيل للدم الدالِّ على القتيل بصرة . والبصيرة مختصة بالقلب كالبصر للعين ، هذا قول بعضهم . وقال الراغب : " ويقال لقوة القلب المُدْرِكة بَصيرة وبَصَر ، قال تعالى : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [ النجم : 17 ] وقد تقدَّم تحقيق هذا في أوائل البقرة .

و { مِن رَّبِّكُمْ } يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة لما قبله ، أي : بصائر كائنة من ربكم ، و " مِنْ " في الوجهين لابتداء الغاية مجازاً .

قوله : { فَمَنْ أَبْصَرَ } يجوز أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، فالفاء جوابُ الشرط على الأول ، ومزيدة في الخبر لشبه الموصول باسم الشرط على الثاني ، ولا بد قبل لام الجر مِنْ محذوف يَصِحُّ به الكلامُ ، والتقدير : فالإِبصار لنفسه ومَنْ عَمِي فالعَمَى عليها . والإِبصار والعَمَى مبتدآن ، والجارُّ بعدهما هو الخبر ، والفاء داخلة على هذه الجملةِ الواقعة جواباً أو خبراً ، وإنما حُذِف مُبْتَدَؤُها للعلم به ، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال : " فلنفسه نَفْع ذلك ، ومَنْ عمي فعليها ضررُ ذلك " . وقال الزمخشري : " فَمَنْ أبصر الحقَّ وآمن فلنفسه أبصر وإياها نَفَعَ ، ومَنْ عمي فعليها أي : فعلى نفسه عَمِي ، وإياها ضَرَّ " . قال الشيخ : " وما قَدَّرناه من المصدر أَوْلى ، وهو فالإِبصار والعمى ، لوجهين ، أحدهما : أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة ، والجار يكون عمدةً لا فَضْلة ، وفي تقديره هو المحذوفُ جملةٌ والجارُّ والمجرورُ فضلةٌ . والثاني : وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت " مَنْ " شرطيةً أم موصولة مشبهة بالشرط ؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاءً ولا جامداً ، ووقع جوابَ شرط أو خبرَ مبتدأ مشبه بالشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ ، لو قلت : " مَنْ جاءني فأكرمتُه " لم يَجُزْ بخلافِ تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء ، ولا يجوز حَذْفُها إلا في الشعر " . قلت : هذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري مسبوقٌ إليه سبقه إليه الكلبي فإنه قال : " فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فلنفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّق فعلى نفسه جَنَى العذاب " . وقوله " إن الفاء لا تدخل فيما ذكر " قد يُنازَعُ فيه ، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً ويظهر/ فيه أثر الجازم كالمضارع يجوز فيه دخول الفاء نحو : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] فالماضي بدخولها أَوْلى وأَحْرى .