مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ} (104)

قوله تعالى : { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قرر هذه البيانات الظاهرة ، والدلائل القاهرة في هذه المطالب العالية الشريفة الإلهية . عاد إلى تقرير أمر الدعوى والتبليغ والرسالة فقال : { قد جاءكم بصائر من ربكم } والبصائر جمع البصيرة ، وكما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس ، فالبصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب . قال تعالى : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } أي له من نفسه معرفة تامة ، وأراد بقوله : { قد جاءكم بصائر من ربكم } الآيات المتقدمة ، وهي في أنفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها ، ووقف على حقائقها ، فلما كانت هذه الآيات أسبابا لحصول البصائر . سميت هذه الآيات أنفسها بالبصائر ، والمقصود من هذه الآية بيان ما يتعلق بالرسول وما لا يتعلق به .

أما القسم الأول : وهو الذي يتعلق بالرسول ، فهو الدعوة إلى الدين الحق ، وتبليغ الدلالة والبينات فيها ، وهو أنه عليه السلام ما قصر في تبليغها وإيضاحها وإزالة الشبهات عنها ، وهو المراد من قوله : { قد جاءكم بصائر من ربكم } .

وأما القسم الثاني : وهو الذي لا يتعلق بالرسول ، فإقدامهم على الإيمان وترك الكفر ، فإن هذا لا يتعلق بالرسول ، بل يتعلق باختيارهم ، ونفعه وضره عائد إليهم ، والمعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر ، وإياها نفع ، ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر بالعمى { وما أنا عليكم بحفيظ } احفظ أعمالكم وأجازيكم عليها . إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم .

المسألة الثانية : في أحكام هذه الآية ، وهي أربعة ذكرها القاضي : فالأول : الغرض بهذه البصائر أن ينتفع بها اختيارا استحق بها الثواب لا أن يحمل عليها أو يلجأ إليها ، لأن ذلك يبطل هذا الغرض . والثاني : أنه تعالى إنما دلنا وبين لنا منافع ، وأغراض المنافع تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تعالى . والثالث : أن المرء بعدوله عن النظر والتدبر يضر بنفسه ، ولم يؤت إلا من قبله لا من قبل ربه . والرابع : أنه متمكن من الأمرين ، فلذلك قال : { فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها } قال : وفيه إبطال قول المجبرة في المخلوق ، وفي أنه تعالى يكلف بلا قدرة .

واعلم أنه متى شرعت المعتزلة في الحكمة والفلسفة والأمر والنهي ، فلا طريق فيه إلا معارضته بسؤال الداعي فإنه يهدم كل ما يذكرونه .

المسألة الثالثة : المراد من الإبصار ههنا العلم ، ومن العمي الجهل ، ونظيره قوله تعال : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } .

المسألة الرابعة : قال المفسرون قوله : { فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها } معناه لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم والوكيل . قالوا : وهذا إنما كان قبل الأمر بالقتال ، فلما أمر بالقتال صار حفيظا عليهم ، ومنهم من يقول آية القتال ناسخة لهذه الآية ، وهو بعيد فكأن هؤلاء المفسرين مشغوفون بتكثير النسخ من غير حاجة إليه ، والحق ما تقرره أصحاب أصول الفقه إن الأصل عدم النسخ ، فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان .