لمَّا بيَّن البيَّنَاتِ الباهرة ، والدلائل القاهرة المطالب الإلهية عاد إلى تَقْرِير الدَّعْوَةِ والتبليغ والرسالة ، وإنما ذكر الفِعْلَ لشيئين :
والثاني : كون التأنيث مَجَازِياً .
والبَصَائِرُ : جمع " بَصِيرَة " وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ومنه قيل للدَّمِ الدال على القتيل " مبصرة " والبصيرة مُخْتَصَّةٌ بالقلب [ كالبَصَرِ للعين ، هذا قول بعضهم .
وقال الراغب{[14867]} : " ويقال لقوة القلب المُدْرِكة : " بَصِيرَةٌ وبَصَرٌ " ]{[14868]} قال تبارك وتعالى : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [ القيامة : 14 ] وقال تعالى : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى } [ النجم : 17 ] وتقدَّم تحقيق هذا في أوائل سوة " البقرة " .
وأراد بالبَصَائِرِ الآيات المتقدمة ، وهي في نَفْسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إلا أنها لقوتها وجلائهَا تُوجِبُ البصائِرَ لمن عرفها ، ووقَفَ على حَقَائِقهَا ، فلما كانت سَبَباً لحصول البَصَائِرِ سميت بالبَصَائِرِ .
قوله : " مِنْ ربِّكُمْ " يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله ، وأن يتعَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ لما قبله ، أي : بصائر كائنة من ربكم و " من " في الوجهين لابتداء الغاية مَجَازاً .
قوله : " فَمَنْ أبْصَرَ " يجوز أن تكون شَرطيَّةً ، وأن تكون مَوصُولةً فالفاء جواب الشَّرطِ على الأوَّلِ ، ومزِيدَةٌ في الخبر لشبه المْصُولِ باسم الشرط على الثّانِي ، ولا بُدَّ قبل لام الجرِّ من مَحْذُوفٍ يَصِحُّ به الكلام ، والتقدير : فالإبْصَارُ لِنَفْسِهِ ، ومَنْ عَمِيَ فالعَمَى عليها ، فإلإبصار والعَمَى مُبْتَدآنِ ، والجارُّ بعدهما هو الخَبَرُ ، والفاء دَاخِلَةٌ على هذه الجملة الواقعة جواباً أو خبراً ، وإنما حُذِف مُبْتَدؤها للعلم به ، وقدَّر الزجاج{[14869]} قريباً من هذا ، فقال : " فلنفسه نَفْعُ ذلك ومن عَمِيَ فعليها ضَرَرُ ذلك " .
وقال الزمخشري{[14870]} : " فَمْنْ أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع ، ومن عمي فعليها ، أي : فعلى نفسه عَمِي ، وإياها ضر " .
قال أبو حيَّان{[14871]} : وما قدَّرناه من المصدر أوْلَى ، وهو فالإبصار والعمى لوجهين :
أحدهما : أن المَحْذُوفَ يكون مفرداً لا جملة ، والجار يكون عُمْدَةً لا فَضْلَةً ، وفي تقديره هو المحذوف جملة ، والجار والمجرور فَضْلَة .
والثاني : وهو أقوى ، وذلك أنه لو كان التقدير فِعْلاً لم تدخل الفاء سواء كانت شَرطيَّةً أم موصولة مشبهة بالشرط ؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دُعَاءً ولا جَامِداً ، ووقع جوابُ الشَّرطِ أو خبر مبتدأ مُشَبَّهٌ بالشرط لم تدخل الفاءُ في جواب الشرط ، ولا في خبر المبتدأ لو قلت : " من جاءني فأكرمته " لم يَجُزْ بخلاف تقديرنا ، فإنه لا بُدَّ فيه من الفاء ، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر .
قال شهاب الدين{[14872]} : وهذا التقدير الذي قدَّرهُ الزمخشري سبقه إليه الكَلْبِيُّ ، فإنه قال : فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فلنفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّقْ فعلى نفسه جَنَى العذاب " {[14873]} وقوله : إن الفاء لا تَدْخُلُ فيما ذُكِرَ قد يُنازعُ فيه ، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً ، ويظهر فيه أثَرُ الجَازِمِ كالمُضارعِ يجوز فيه دُخُولُ الفاء نحو : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] فالماضي بدخولها أوْلَى وأحْرَى .
قال القاضي : إنه -تعالى- بيَّن لنا أن المنافِعَ تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تبارك وتعالى- وأيضاً إن المَرْءَ بِعُدُولِهِ عن النَّظَرِ يَضُرُّ بنفسه ، ولم يؤت إلاَّ من قبله لا من قبل ربِّهِ ، وأيضاً إنه متمكِّنٌ من الأمرين ، فلذلك قال : " فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَليْها " قال : وهذا يبطل قول المجبرة [ في أنه-تعالى- يكلف بلا قدرة ] وجوابه المعارضة بسؤال الداعي .
قوله : { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : برقيب أحْصي عليكم أعمالكم ، إنما أنا رَسُولُهُ أبلغكم رِسالاتِ ربي ، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شَيءٌ من أعمالكم .
قال المفسرون : هذا كان قبل الأمْرِ بالقتالِ ، فلما أمِرَ بالقتال صار حَفِيظاً عليهم ، ومنهم من يقول : آيَةُ القِتَالِ نَاسِخَةٌ لهذه الآية الكريمة ، وهو بعيد ؛ لأن الأصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.