122- ليس للمؤمنين أن يخرجوا جميعا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم إذا لم يقتض الأمر ذلك ، فليكن الأمر أن تخرج إلى الرسول طائفة ليتفقهوا في دينهم ، وليدعوا قومهم بالإنذار والتبشير حينما يرجعون إليهم ليثبتوا دائما على الحق ، وليحذروا الباطل والضلال{[87]} .
وبعد أن حرض الله - تعالى - المؤمنين على الجهاد في سبيله ، وحذرهم من التخلف عن الخروج مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتبع ذلك بالحديث عما يجب عليهم إذا لم تكن المصلحة تقتضى النفير العام ، فقال - تعالى - : { وَمَا كَانَ المؤمنون } .
قال الجمل : وسبب نزول هذه الآية أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما بالغ في الكشف عن عيوب المنافقين ، وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك . قال المسلمون : والله لا نتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن سرية بعثها ، فلما قدم - صلى الله عله وسلم - المدينة من تبوك ، وبعث السرايا ، أراد المسلمون أن ينفروا جميعا للغزة وأن يتركوا النبى - صلى الله عليه وسلم - وحده فنزلت هذه الآية .
والمعنى ، وما كان من شأن المؤمنين ، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد ، ويتركوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحجه بالمدينة ، وإنما يجب عليهم النفير العام إذا ما دعاهم - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك .
وقوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } معطوف على كلام محذوف ، ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا .
أى : فحين لم يكن هناك موجب لنفير الكافة ، فهلا نفر من كل فرقة من المؤمنين طائفة للجهاد ، وتبقى طائفة أخرى منهم { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين } أى : ليتعلموا أحكامه من رسولهم - صلى الله عليه وسلم - { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } أى : وليعلموهم ويخبروهم بما أمروا به أو نهوا عنه { إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ } من الغزو { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } أى : لعل هؤلاء الراجعين إليهم من الغزو يحذرون ما نهوا عنه .
أى : أن على المسلمين في حالة عدم النفير العام ، أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين .
قسم يبقى مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليتفقه في دينه ، وقسم آخر يخرج للجهاد في سبيل الله ، فإذا ما عاد المجاهدون ، فعلى الباقين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغوا العائدين ما حفظوه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أحكام .
وبذلك يجمع المسلمون بين المصلحتين : مصلحة الدفاع عن الدين بالحجة والبرهان ، ومصلحة الدفاع عنه بالسيف والسنان .
وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور العلماء يكون الضمير في قوله { لِّيَتَفَقَّهُواْ . . . وَلِيُنذِرُواْ } يعود إلى الطائفة الباقية مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
أما الضمير في قوله { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فيعود على الطائفة التي خرجت للجهاد ثم عادت .
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله { لِّيَتَفَقَّهُواْ . . . وَلِيُنذِرُواْ } يعود على الطائفة التي خرجت للجهاد .
وقد رجح هذا الاتجاه الإِمام ابن جرير فقال : وأما قوله { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ } فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : لتتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله لأهل دينه ولأصحابه رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإِسلام ، وظهوره على الأديان ، من لم يكن فقه ، { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله ، مثل الذي نزل بمن شاهدوا ، ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك ، إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } أى : لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك ، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله ، حذرا من أن ينزل بهم ما انزل بالذين أخبروا خبرهم .
وقد علق صاحب المنار على رأى ابن جرير هذا بقوله : وهذا تأويل متكلف ينبو عنه النظم الكريم ، فإن اعتبار طائفة السرية بما قد يحصل لها من النصر - وهو غير ممضون ولا مطرد - لا يسمى تفقها في الدين ، وإن كان يدخل في عموم معنى الفقه ، فإن التفقه هو التعلم الذي يكون بالتكلف والتدرج ، والمتبادر من الدين علمه ، ولا يصح هذا المعى في ذلك العهد إلا في الذين يبقون مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فيزدادون في كل يوم علما وفقها بنزول القرآن . .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية : وجوب طلب العلم ، والتفقه في دين الله وتعليم الناس إياه .
قال القرطبى : هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم ؛ لأن المعنى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبى - صلى الله عليه وسلم - مقيم لا ينفر فيتركوه وحده " فلولا نفر " بعدما علموا أن النفير لا يسعه جميعهم { مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } وتبقى بقيتها مع النبى - صلى الله عليه وسلم - ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا ، فإذا رجع النافرون إليهم أخبرهم بما سمعوه وعلموه ، وفى هذا إيجاب التفقه ، في الكتاب والسنة ، وأنه على الكفاية دون الأعيان . .
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا فإنه يخل بأمر المعاش . { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة . { ليتفقّهوا في الدين } ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها . { وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم ، وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه و التذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد . { لعلهم يحذرُون } إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه ، واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا ، فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك ، وقد أشبعت القول فيه تقريرا واعتراضا في كتابي ( المرصاد ) . وقد قيل للآية معنى آخر وهو انه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا عن التفقه ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود م البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو ، وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا لبواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم .
قالت فرقة : سبب هذه الآية أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكاناً ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عز وجل : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } [ الكهف : 62 ] أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك ، وقالت فرقة ، سبب هذه الآية أن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم } [ الكهف : 62 ] عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر ، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك مطردة الألفاظ متصلة المعنى من قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة } إلى قوله { يحذرون } بين في آخر الآية العموم الذي في أولها إذ هو معرض أن يتأول فيه ألا يتخلف بشر ، و «التفقه » هو من النافرين ، و «الإنذار » هو منهم ، والضمير في { رجعوا } لهم أيضاً ، وقالت فرقة هذه : الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة وشدة ، فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضرعه الجوع{[5974]} فنزلت الآية في ذلك ، فقال وما كان من صفته الإيمان لينفر مثل هذا النفر أي ليس هؤلاء المؤمنين ، وقال ابن عباس ما معناه : إن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا ، والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو ، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف ألا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفرداً وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الباقية في الدين ، وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم ، وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال ، والضمير في قوله { ليتفقهوا } عائد أيضاً على هذا التأويل على الطائفة المتخلفة مع النبي صلى عليه وسلم ، وهو القول الأول في ترتيبنا هذا عائد على الطائفة النافرة ، وكذلك يترتب عوده مع بعض الأقوال على هذه ومع بعضها على هذه ، والجمهور على أن «التفقة » إنما بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته ، وقالت فرقة يشبه أن يكون «التفقه » في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته في الله تعالى ، ورجحه الطبري وقواه ، والآخر أيضاً قوي ، والضمير في قوله { لينذروا } عائد على المتفقهين بحسب الخلاف ، و «الإنذار » عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضاً كذلك .