190- ومن تقوى الله تحمل المشاق في طاعته ، وأشد المشاق على النفس هو قتال أعداء الله{[15]} ولكن إذا اعتدى عليكم فقاتلوا المعتدين ، وقد أذن لكم برد اعتداءاتهم ، ولكن لا تعتدوا بمبادأتهم أو بقتل من لا يقاتل ولا رأى له في القتال فإن الله لا يحب المعتدين .
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بطاعته وتقواه ، وحضهم على الجهاد في سبيله إذ هو من أجل مظاهرها ، وبصرهم بحكمته وآدابه فقال - تعالى - :
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ . . . }
قال ابن كثير : قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أسن عن أبي العالية في قوله - تعالى - { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذا أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قالته وكيف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة .
ويرى بعض العلماء أن هذه الآيات قد وردت في الأذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرام إذا فوجئوا بالقتال بغياً وعدواناً . فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال ، لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرماً في الجاهلية . فقد أخرج الواحدي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلة في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صده المشركون عن البيت الحرام - ثم صالحوه فرضى على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ألا تفى لهم قريش ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام فأنزل الله - تعالى الآيات .
والقتال والمقاتلة : محاولة الرجل قتل من يحاول قتله ، والتقاتل محاولة كل واحد من المتعاديين قتل الآخر .
قال أبو حيان : وقوله : { فِي سَبِيلِ الله } السبيل هو الطريق . واستعير لدين الله وشرائعه لأن المتبع لذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية ، فشبه بالطريق الموصل الإِنسان إلى ما يقصده ، وهذا من استعارة الأجرام للمعاني ويتعلق { فِي سَبِيلِ الله } بقوله : { وَقَاتِلُواْ } وهو ظرف مجازي ، لأنه لما وقع القتال بسبب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه ، وو على حذف مضاف والتقدير في نصرة دين الله .
والمراد بالقتال في سبيل الله : الجهاد من أجل إعلاء كلمته حتى يكون أهل دينه الحق أعزاء لا يسومهم أعداؤه ضيماً ، وأحراراً في الدعوة إليه وإقامة شرائعه العادلة في ظل سلطان مهيب .
أي : قاتلوا أيها المؤمنون لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه أعداءكم الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم ومناجزتكم وتحققتم منهم سوء النية ، وفساد الطوية .
فالآية الكريمة تهييج للمؤمنين وإغراء لهم على قتال أعدائهم بدون تردد أو تهيب ، وإرشاد لهم إلى أن يجعلوا جهادهم من أجل نصرة الحق ، لا من أجل المطامع أو الشهوات .
فقد روى الشيخان أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي موسى - رضي الله عنه - " أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل ليذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه - أي : ليتحدث الناس بشجاعته وليظهر بينهم - أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .
والأحاديث في الدعوة إلى أن يكون الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته كثيرة متعددة . وقوله { وَلاَ تعتدوا } نهى عن الاعتداء بشتى صورة ويدخل فيه دخولا أولياء الاعتداء في القتال .
والاعتداء : مجازة الحد فيما أمر الله به أو نهى عنه .
أي : قاتلوا في سبيل الله من يناصبكم القتال من المخالفين ، ولا تتجاوزوا في قتالهم إلى من ليس شأنهم قتالكم ، كنسائهم ، وصبيانهم ورهبانهم ، وشيوخهم الطاعنين في السن إلى حد الهرم ، ويلحق بهؤلاء المريض والمقعد والأعمى والمجنون . وقد وردت في النهي عن قتل هؤلاء الأحاديث النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين لقواد جيوشهم ، فهؤلاء يتجنب قتالهم إلا من قامت الشواهد على أن له أثراً من رأى أو عمل في الحرب ، يؤازر به المحارين لينتصروا على المجاهدين .
قال ابن كثير : ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، أغزوا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع " وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وُجِدَتْ امرأة في بعض المغازي مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان .
وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } كالتعليل لما قبله في النهي عن مجاوزة ما حده الله - تعالى - في قتال المخالفين .
ومحبة الله لعباده : صفة من صفاته - تعالى - من أثرها الرعاية والإِنعام . وإذا نفى الله - تعالى - محبته لطائفة من الناس فهو كناية عن بغضه لهم ، واستحقاقهم لعقوبته .
{ وقاتلوا في سبيل الله } جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه . { الذين يقاتلونكم } قيل : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة :المقاتلين منهم والمحاجزين . وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده . ويؤيد الأول ما روى : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة -شرفها الله- ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم . أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت { ولا تعتدوا } بابتداء القتال ، أو بقتال المعاهد ، أو المفاجأة به من غير دعوة ، أو المثلة ، أو قتل من نهيتم عن قتله . { إن الله لا يحب المعتدين } لا يريد بهم الخير .