ثم يأمر الله - تعالى - نبيه أن يعلن للناس منهجه فى دعوته فيقول : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ . . } .
والمراد بالبلدة الذى حرمها : مكة المكرمة التى عظم الله - تعالى - حرمتها ، فجعلها حرما آمنا ، لا يسفك فيها دم ، ولا يصاد فيها صدم ، ولا يعضد فيها شجر . وقوله : { الذي حَرَّمَهَا } صفة للرب .
وخصت مكة بالذكر : تشريفا لها ، ففيها البيت الحرام الذى هو أول بيت وضع فى الأرض .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس : إن الله - تعالى - أمرنى أن أخلص لله - سبحانه - عبادتى ، فهو رب البلد الحرام مكة ، ورب كل شىء ، وله جميع ما فى هذا الكون خلقا ، وملكا ، وتصرفا .
{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن } أى : وأمرنى كذلك أن أكون من الثابتين على دينه ، المنقادين لأمره ، المسلمين له وجوههم ،
يقول تعالى مخبرًا رسوله وآمرًا له أن يقول : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } ، كَمَا قَالَ : { قُلْ{[22210]} يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } [ يونس : 104 ] .
وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها ، كما قال : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 ، 4 ] .
وقوله : { الَّذِي حَرَّمَهَا } أي : الذي إنما صارت حرامًا قدرًا وشرعًا ، بتحريمه لها ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعضَد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لُقَطَتُه إلا لِمَنْ عرفها ، ولا يختلى خلاها " الحديث بتمامه . وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع{[22211]} ، كما هو مبين في موضعه من{[22212]} كتاب الأحكام ، ولله الحمد .
وقوله : { وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } : من باب عطف العام على الخاص ، أي : هو رب هذه البلدة ، ورب كل شيء ومليكه ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له .
وقوله { إنما أمرت } بمعنى قل يا محمد لقومك { إنما أمرت } ، و { البلدة } المشار إليها مكة ، وقرأ جمهور الناس » الذي حرمها « ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود » التي حرمها «وأضاف في هذه الآية التحريم إلى الله تعالى من حيث ذلك بقضائه وسابق علمه وأضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم في قوله
«إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة »{[9095]} ، من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته فليس بين الآية والحديث تعارض ، وفي قوله { حرمها } تعديد نعمته على قريش في رفع الله تعالى عن بلدهم الغارات والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب ، وقوله { وله كل شيء } معناه بالملك والعبودية ، وقرأ جمهور الناس «أن أتلو » عطفاً على قوله { أن أكون } .
أتت هذه السورة على كثير من مطاعن المشركين في القرآن وفيما جاء به من أصول الإسلام من التوحيد والبعث والوعيد بأفانين من التصريح والتضمن والتعريض بأحوال المكذبين السالفين مفصلاً ذلك تفصيلاً ابتداء من قوله { تلك ءايات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين } [ النمل : 1 ، 2 ] إلى هنا ، فلما كان في خلال ذلك إلحافهم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بما وعدهم أو أن يعين لهم أجل ذلك ويقولون { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ النمل : 71 ] .
وأتت على دحض مطاعنهم وتعللاتهم وتوركهم بمختلف الأدلة قياساً وتمثيلاً ، وثبت الله رسوله بضروب من التثبيت ابتداء من قوله { إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً } [ النمل : 7 ] وقوله { فتوكل على الله إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] ، وما صاحب ذلك من ذكر ما لقيه الرسل السابقون . بعد ذلك كله استؤنف الكلام استئنافاً يكون فذلكة الحساب ، وختاماً للسورة وفصل الخطاب ، أفسد به على المشركين ازدهاءهم بما يحسبون أنهم أفحموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما ألقوه عليه ويطير غراب غرورهم بما نظموه من سفسطة ، وجاءوا به من خلبطة ، ويزيد الرسول تثبيتاً وتطميناً بأنه أرضى ربه بأداء أمانة التبليغ وذلك بأن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها } فهذا تلقين للرسول صلى الله عليه وسلم والجملة مقول قول محذوف دل عليه ما عطف عليه في هذه الآية مرتين وهو { فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله } [ النمل : 92 ، 93 ] فإن الأول : مفرّع عليه فهو متصل به .
والثاني : معطوف على أول الكلام .
وافتتاح الكلام بأداة الحصر لإفادة حصر إضافي باعتبار ما تضمنته محاوراتهم السابقة من طلب تعجيب الوعيد ، وما تطاولوا به من إنكار الحشر .
والمعنى : ما أمرت بشيء مما تبتغون من تعيين أجل الوعيد ولا من اقتلاع إحالة البعث من نفوسكم ولا بما سوى ذلك إلا بأن أثبت على عبادة رب واحد وأن أكون مسلماً وأن أتلو القرآن عليكم ، ففيه البراهين الساطعة والدلالات القاطعة فمن اهتدى فلا يمن علي اهتداءه وإنما نفع به نفسه ؛ ومن ضل فما أنا بقادر على اهتدائه ، ولكني منذره كما أنذرت الرسل أقوامها فلم يملكوا لهم هدياً حتى أهلك الله الضالين . وهذا في معنى قوله تعالى { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } [ آل عمران : 20 ] .
وقد أدمج في خلال هذا تنويهاً بشأن مكة وتعريضاً بهم بكفرهم بالذي أسكنهم بها وحرمها فانتفعوا بتحريمها ، وأشعرهم بأنهم لا يملكون تلك البلدة فكاشفهم الله بما تكنه صدورهم من خواطر إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة وذلك من جملة ما اقتضاه قوله : { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } [ النمل : 74 ] .
فلهذه النكت أجرى على الله صلة حرم تلك البلدة ، دون أن يكون الموصول للبلدة فلذا لم يقل : التي حرمها الله ، لما تتضمنه الصلة من التذكير بالنعمة عليهم ومن التعريض بضلالهم إذ عبدوا أصناماً لا تملك من البلدة شيئاً ولا أكسبتها فضلاً ومزية ، وهذا كقوله { فليعبدوا رب هذا البيت } [ قريش : 3 ] .
والإشارة إلى البلدة التي هم بها لأنها حاضرة لديهم بحضور ما هو باد منها للأنظار . والإشارة إلى البقاع بهذا الاعتبار فاشية قال تعالى { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } [ هود : 60 ] وقال { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } [ العنكبوت : 31 ] .
والعدول عن ذكر مكة باسمها العلم إلى طريقة الإشارة لما تقتضيه الإشارة من التعظيم .
وتبيين اسم الإشارة بالبلدة لأن البلدة بهاء التأنيث اسم لطائفة من الأرض معينة معروفة محوزة فيشمل مكة وما حولها إلى نهاية حدود الحرم . ومعنى { حرمها } جعلها حراماً ، والحرام الممنوع ، والتحريم المنع . ويعلم متعلق المنع بسياق ما يناسب الشيء الممنوع . فالمراد من تحريم البلدة تحريم أن يدخل فيها ما يضاد صلاحها وصلاح ما بها من ساكن ودابة وشجر . فيدخل في ذلك منع غزو أهلها والاعتداء عليهم وظلمهم وإخافتهم ومنع صيدها وقطع شجرها على حدود معلومة . وهذا التحريم مما أوحى الله به إلى إبراهيم عليه السلام إذ أمره بأن يبني بيتاً لتوحيده وباستجابته لدعوة إبراهيم إذ قال { رب اجعل هذا بلداً ءامناً } [ البقرة : 126 ] .
فالتحريم يكون كمالاً للمحرم ويكون نقصاً على اختلاف اعتبار سبب التحريم وصفته ، فتحريم المكان والزمان مزية وتفضيل ، وتحريم الفواحش والميتة والدم والخمر تحقير لها ، والمحرمات للنسل والرضاع والصهر زيادة في الحرمة .
فتحريم المكان : منع ما يضرّ بالحال فيه . وتحريم الزمان ، كتحريم الأشهر الحرم : منع ما فيه ضر للموجودين فيه .
وتعقيب هذا بجملة { وله كل شيء } احتراس لئلا يتوهم من إضافة ربوبيته إلى البلدة اقتصار ملكه عليها ليعلم أن تلك الإضافة لتشريف المضاف إليه لا لتعريف المضاف بتعيين مظهر ملكه .
وتكرير ( أمرت ) في قوله { وأمرت أن أكون من المسلمين } للإشارة إلى الاختلاف بين الأمرين فإن الأول أمر يعمله في خاصة نفسه وهو أمر إلهام إذ عصمه الله من عبادة الأصنام من قبل الرسالة . والأمر الثاني أمر يقتضي الرسالة وقد شمل دعوة الخلق إلى التوحيد . ولهذه النكتة لم يكرر ( أمرت ) في قوله { وأن أتلوا القرءان } لأن كلاً من الإسلام والتلاوة من شؤون الرسالة .
وفي قوله { أن أكون من المسلمين } تنويه بهذه الأمة إذ جعل الله رسوله من آحادها ، وذلك نكتة عن العدول عن أن يقول : أن أكون مسلماً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة} يعني: مكة {الذي حرمها} من القتل والسبي وحرم فيها الصيد وغيره، فلا يستحل فيها ما لا ينبغي {وله} ملك {كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين} يعني: من المخلصين بالتوحيد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد "قُلِ إنّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعُبُدَ رَبّ هِذِهِ الْبَلْدَةِ "وهي مكة "الّذِي حَرّمَهَا" على خلقه أن يسفكوا فيها دما حراما، أو يظلموا فيها أحدا، أو يُصادَ صَيدُها، أو يختلى خلاها دون الأوثان التي تعبدونها أيها المشركون...
وقوله: "وَلَهُ كُلّ شَيْءٍ" يقول: ولربّ هذه البلدة الأشياء كلها ملكا، فإياه أمرت أن أعبد، لا من لا يملك شيئا. وإنما قال جلّ ثناؤه: "رَبّ هَذِهِ البَلْدَةِ الّذِي حَرّمَها" فخصها بالذكر دون سائر البلدان، وهو ربّ البلاد كلها، لأنه أراد تعريف المشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين هم أهل مكة بذلك نعمته عليهم، وإحسانه إليهم، وأن الذي ينبغي لهم أن يعبدوه هو الذي حرّم بلدهم، فمنع الناس منهم، وهم في سائر البلاد يأكل بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، لا من لم تجر له عليهم نعمة، ولا يقدر لهم على نفع ولا ضرّ. وقوله: "وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ" يقول: وأمرني ربي أن أسلم وجهي له حنيفا، فأكون من المسلمين الذين دانوا بدين خليله إبراهيم وجدكم أيها المشركون، لا من خالف دين جدّه المحقّ، ودان دين إبليس عدوّ الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأضاف في هذه الآية التحريم إلى الله تعالى من حيث ذلك بقضائه وسابق علمه وأضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم في قوله «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة»، من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته فليس بين الآية والحديث تعارض، وفي قوله {حرمها} تعديد نعمته على قريش في رفع الله تعالى عن بلدهم الغارات والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب.
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة وصفة أهل القيامة من الثواب والعقاب، وذلك كمال ما يتعلق ببيان أصول الدين ختم الكلام بهذه الخاتمة اللطيفة فقال: قل يا محمد إني أمرت بأشياء.
الأول: أني أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا أتخذ له شريكا، وأن الله تعالى لما قدم دلائل التوحيد فكأنه أمر محمدا بأن يقول لهم هذه الدلائل التي ذكرتها لكم إن لم تفد لكم القول بالتوحيد فقد أفادت لي ذلك فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها، فإني مصر عليها غير مرتاب فيها. ثم إنه وصف الله تعالى بأمرين:
أحدهما: أنه رب هذه البلدة والمراد مكة وإنما اختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه. أما قوله: {الذي حرمها} فقرئ (التي حرمها)، وإنما وصفها بالتحريم لوجوه؛
أحدها: أنه حرم فيها أشياء على من يحج.
وثانيها: أن اللاجئ إليها آمن. وثالثها: لا ينتهك حرمتها إلا ظالم ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله تعالى، فكأنه قال لما علمت وعلمتم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب علي أن أخصه بالعبادة.
وثانيها: وصف الله تعالى بقوله: {وله كل شيء} وهذا إشارة إلى ما تقدم من الدلائل المذكورة في هذه السورة على التوحيد من كونه تعالى خالقا لجميع النعم فأجمل ههنا تلك المفصلات، وهذا كمن أراد صفة بعض الملوك بالقوة فيعد تلك التفاصيل ثم بعد التطويل يقول إن كل العالم له وكل الناس في طاعته.
الثاني: أمر بأن يكون من المسلمين.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{الَّذِي حَرَّمَهَا} أي: الذي إنما صارت حرامًا قدرًا وشرعًا، بتحريمه لها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:"إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لُقَطَتُه إلا لِمَنْ عرفها، ولا يختلى خلاها" الحديث بتمامه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت إضافتها إليه إنما هي لمحض التشريف، قال احتراساً عما لعله يتوهم: {وله كل شيء} أي من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقاً ومِلكاً ومُلكاً، وليس هو كالملوك الذين ليس لهم إلا ما حموه على غيرهم. ولما كانوا ربما قالوا: ونحن نعبده بعبادة من نرجوه يقربنا إليه زلفى، عين الدين الذي تكون به العبادة فقال: {وأمرت} أي مع الأمر بالعبادة له وحده، وعظم المفعول المأمور به بجعله عمدة الكلام بوضعه موضع الفاعل فقال: {أن أكون} أي كوناً هو في غاية الرسوخ {من المسلمين} أي المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتم انقياد، ثابتاً على ذلك غاية الثبات.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا} أُمر عليه الصَّلاة والسَّلام أنْ يقولَ لهم ذلك بعدما بيَّن لهم أحوالَ المبدأِ والمعادِ وشرحَ أحوالَ القيامةِ تنبيهاً لهم على أنَّه قد أتمَّ أمرَ الدَّعوةِ بما لا مزيدَ عليه ولم يبقَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ذلك شأنٌ سوى الاشتغالِ بعبادةِ الله عزَّ وجلَّ. والاستغراقِ في مُراقبتهِ غيرَ مُبالٍ بهم ضلُّوا أمْ رشدُوا صلحُوا أو فسدُوا ليحملَهم ذلك على أنْ يهتمُّوا بأمورِ أنفسِهم ولا يتوهَّمُوا من شدَّةِ اعتنائِه عليه الصَّلاة والسَّلام بأمرِ دعوتِهم أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام يُظهر لهم ما يُلجئهم إلى الإيمانِ لا محالةَ ويشتغلوا بتداركِ أحوالِهم ويتوجَّهُوا نحوَ التَّدبرِ فيما شاهدُوه من الآياتِ الباهرةِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي النهاية تجيء الإيقاعات الأخيرة: حيث يلخص الرسول [صلى الله عليه وسلم] دعوته ومنهجه في الدعوة؛ ويكلهم إلى مصيرهم الذي يرتضونه لأنفسهم بعد ما مضى من بيان... وهم كانوا يدينون بحرمة البلدة الحرام والبيت الحرام؛ وكانوا يستمدون سيادتهم على العرب من عقيدة تحريم البيت؛ ثم لا يوحدون الله الذي حرمه وأقام حياتهم كلها عليه. فالرسول [صلى الله عليه وسلم] يقوم العقيدة كما ينبغي أن تقوم، فيعلن أنه مأمور أن يعبد رب هذه البلدة الذي حرمها، لا شريك له؛ ويكمل التصور الإسلامي للألوهية الواحدة، فرب هذه البلدة هو رب كل شيء في الوجود (وله كل شيء) ويعلن أنه مأمور بأن يكون من المسلمين. المسلمين كل ما فيهم له. لا شركة فيهم لسواه. وهم الرعيل الممتد في الزمن المتطاول من الموحدين المستسلمين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استؤنف الكلام استئنافاً يكون فذلكة الحساب، وختاماً للسورة وفصل الخطاب، أفسد به على المشركين ازدهاءهم بما يحسبون أنهم أفحموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما ألقوه عليه ويطير غراب غرورهم بما نظموه من سفسطة، وجاءوا به من خلبطة، ويزيد الرسول تثبيتاً وتطميناً بأنه أرضى ربه بأداء أمانة التبليغ وذلك بأن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} فهذا تلقين للرسول صلى الله عليه وسلم، والجملة مقول قول محذوف دل عليه ما عطف عليه في هذه الآية مرتين وهو {فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله} [النمل: 92، 93] فإن الأول: مفرّع عليه فهو متصل به. والثاني: معطوف على أول الكلام. وافتتاح الكلام بأداة الحصر لإفادة حصر إضافي باعتبار ما تضمنته محاوراتهم السابقة من طلب [تعجيل] الوعيد، وما تطاولوا به من إنكار الحشر.
والمعنى: ما أمرت بشيء مما تبتغون من تعيين أجل الوعيد ولا من اقتلاع إحالة البعث من نفوسكم ولا بما سوى ذلك إلا بأن أثبت على عبادة رب واحد وأن أكون مسلماً وأن أتلو القرآن عليكم، ففيه البراهين الساطعة والدلالات القاطعة فمن اهتدى فلا يمن علي اهتداءه وإنما نفع به نفسه؛ ومن ضل فما أنا بقادر على اهتدائه، ولكني منذره كما أنذرت الرسل أقوامها فلم يملكوا لهم هدياً حتى أهلك الله الضالين. وهذا في معنى قوله تعالى {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} [آل عمران: 20]. وقد أدمج في خلال هذا تنويهاً بشأن مكة وتعريضاً بهم بكفرهم بالذي أسكنهم بها وحرمها فانتفعوا بتحريمها، وأشعرهم بأنهم لا يملكون تلك البلدة فكاشفهم الله بما تكنه صدورهم من خواطر إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة وذلك من جملة ما اقتضاه قوله: {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} [النمل: 74]. فلهذه النكت أجرى على الله صلة حرم تلك البلدة، دون أن يكون الموصول للبلدة فلذا لم يقل: التي حرمها الله، لما تتضمنه الصلة من التذكير بالنعمة عليهم ومن التعريض بضلالهم إذ عبدوا أصناماً لا تملك من البلدة شيئاً ولا أكسبتها فضلاً ومزية، وهذا كقوله {فليعبدوا رب هذا البيت} [قريش: 3]...
وتكرير (أمرت) في قوله {وأمرت أن أكون من المسلمين} للإشارة إلى الاختلاف بين الأمرين فإن الأول أمر يعمله في خاصة نفسه وهو أمر إلهام إذ عصمه الله من عبادة الأصنام من قبل الرسالة. والأمر الثاني أمر يقتضي الرسالة وقد شمل دعوة الخلق إلى التوحيد. ولهذه النكتة لم يكرر (أمرت) في قوله {وأن أتلوا القرءان} لأن كلاً من الإسلام والتلاوة من شؤون الرسالة. وفي قوله {أن أكون من المسلمين} تنويه بهذه الأمة إذ جعل الله رسوله من آحادها، وذلك نكتة عن العدول عن أن يقول: أن أكون مسلماً.
والعبادة كما قلنا: طاعة العابد للمعبود فيما أمر وفيها نهى؛ لأن ربك خلقك من عدم، وأمدك من عدم، ونظم لك حركة حياتك، فإن كلفك اعلم أن التكليف من أجلك ولصالحك؛ لأنه رب متول لتربيتك، فإن تركت بلا منهج، وبلا افعل ولا تفعل، كانت التربية ناقصة. إذن: من تمام الربوبية أن يوجهني ربي كما نوجه نحن أولادنا الصغار ونربيهم، ومن تمام الربوبية أن توجد هذه الأوامر وهذه النواهي لمصلحة المربي، وما دام أن ربك قد وضعها لك فلا بد أن تطيعه. لذلك نلحظ في هذه الآية {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة} ولم يقل: أمرت أن أطيع الله؛ لأن الألوهية تكليف، أما الربوبية فعطاء وتربية، فالآية تبين حيثية سماعك للحكم من الله، وهي أنه تعالى يربيك بهذه الأوامر وبهذه النواهي، وسوف تعود عليك ثمرة هذه التربية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يوجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر أُولئك المشركين بأن عليه أن يؤدي رسالته ووظيفته... سواءً آمنتم أم لم تؤمنوا؟!
هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها... البلدة المقدسة التي كرمها الله وكرّمكم بما أنزل فيها من البركات.. إلاّ أنّكم بدل أن تشكروا نعمة الله كفرتم بها! البلدة المقدسة التي هي حرم أمن اللّه، وأشرف بقعة على وجه الأرض، وأقدم معبد للتوحيد! أجل... أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة (الذي حرمها) وجعل لها خصائص وأحكاماً وحرمةً، وأموراً أُخر لا تتمتع بها أية بلدة أُخرى في الأرض!...
وهكذا فإن الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النّبي وهما: عبادة الواحد الأحد، والتسليم المطلق لأمره.