إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (91)

{ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا } أُمر عليه الصَّلاة والسَّلام أنْ يقولَ لهم ذلك بعدما بيَّن لهم أحوالَ المبدأِ والمعادِ وشرحَ أحوالَ القيامةِ تنبيهاً لهم على أنَّه قد أتمَّ أمرَ الدَّعوةِ بما لا مزيدَ عليه ولم يبقَ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ذلك شأنٌ سوى الاشتغالِ بعبادةِ الله عزَّ وجلَّ . والاستغراقِ في مُراقبتهِ غيرَ مُبالٍ بهم ضلُّوا أمْ رشدُوا صلحُوا أو فسدُوا ليحملَهم ذلك على أنْ يهتمُّوا بأمورِ أنفسِهم ولا يتوهَّمُوا من شدَّةِ اعتنائِه عليه الصَّلاة والسَّلام بأمرِ دعوتِهم أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام يُظهر لهم ما يُلجئهم إلى الإيمانِ لا محالةَ ويشتغلوا بتداركِ أحوالِهم ويتوجَّهُوا نحوَ التَّدبرِ فيما شاهدُوه من الآياتِ الباهرةِ . والبلدةُ هي مكَّةُ المعظمةُ وتخصيصُها بالإضافةِ لتفخيمِ شأنِها وإجلال مكانِها ، والتعرض لتحريمهِ تعالى إيَّاها تشريفٌ لها بعد تشريفٍ وتعظيمٌ إثرَ تعظيمٍ مع ما فيه من الإشعارِ بعلَّةِ الأمرِ وموجبِ الامتثالِ به كَما في قولِه تعالى : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مّنْ خوْفٍ } [ سورة قريش ، الآية3و4 ] ومن الرَّمزِ إلى غايةِ شَنَاعةِ ما فعلُوا فيها ألا يَرَى أنَّهم مع كونِها محرَّمةً من أنْ تنتهكَ حرمتُها باختلاءِ خلاها وعضْدِ شجرِها وتنفيرِ صيدِها وإرادةِ الإلحادِ فيها بوجهٍ من الوجوهِ قد استمرُّوا فيها على تعاطِي أفجرِ أفرادِ الفُجور وأشنعِ آحادِ الإلحادِ حيثُ تركُوا عبادةَ ربَّها ونصبُوا فيها الأوثانَ وعكفُوا على عبادتِها قاتلَهم الله أنَّى يؤفكون . وقرئ حَرَمَها بالتَّخفيفِ . وقولُه تعالى { وَلَهُ كُلُّ شَيء } أي خلقاً وملكاً وتصرُّفاً من غيرِ أنْ يشارَكه شيءٌ في شيءٍ من ذلكَ تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ إفرادَ مكَّةَ بالإضافةِ لما ذُكر من التَّفخيمِ والتَّشريفِ مع عُمومِ الرُّبوبيةِ لجميعِ الموجُوداتِ . { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } أي أثبت على ما كنتُ عليهِ من كونِي من جُملةِ الثَّابتين على ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ أي الذين أسلمُوا وجوهَهم لله خالصةً من قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ سورة النساء ، الآية125 ] .