ثم أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى مصارع عاد وثمود فقال : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } .
وعاد : هم قوم هود - عليه السلام - وكانوا يسكنون بالأحقاف فى جنوب الجزيرة العربية ، بالقرب من حضر موت .
وثمود : هم قوم صالح - عليه السلام - وكانت مساكنهم بشمال الجزيرة العربية ، وما زالت مساكنهم تعرف حتى الآن بقرى صالح .
أى : وأهلكنا عادا وثمود بسبب كفرهم وعنادهم ، كما أهلكنا غيرهم ، والحال أنه قد تبين لكم - يا أهل مكة - وظهر لكم بعض مساكنهم ، وانتم تمرون عليهم فى رحلتى الشتاء والصيف .
فقوله - سبحانه - : { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ } المقصود منه غرس العبرة والعظة فى نفوس مشركى مكة ، عن طريق المشاهدة لآثار المهلكين ، فإن مما يحمل العقلاء على الاعتبار ، مشاهدة آثار التمزيق والتدمير ، بعد القوة والتمكين .
{ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } السيئة . بسبب وسوسته وتسويله ، { فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } الحق ، وعن الطريق المستقيم .
{ وَكَانُواْ } أى : عادا وثمود { مُسْتَبْصِرِينَ } أى : وكانت لهم عقول يستطيعون التمييز بها بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، ولكنهم لم يستعملوها فيما خلقت له ، وإنما استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الغى على الرشد ، فأخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر .
وقوله - تعالى - : { مُسْتَبْصِرِينَ } من الاستبصار بمعنى التمكن من تعقل الأمور . وإدراك خيرها من شرها ، وحقها من باطلها .
يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم ، فأخذهم{[22581]} بالانتقام منهم ، فعاد قوم هود ، وكانوا يسكنون الأحقاف وهي قريبة{[22582]} من حضرموت بلاد اليمن ، وثمود قوم صالح ، وكانوا يسكنون الحجر قريبًا من وادي القرى . وكانت العرب تعرف مساكنهما{[22583]} جيدا ، وتمر عليها كثيرًا . وقارون صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة . وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله ورسوله .
وقوله { وعاداً } منصوب بفعل مضمر تقديره واذكر عاداً ، وقيل هو معطوف على الضمير في قوله { فأخذتهم } ، وقال الكسائي هو معطوف على قوله { ولقد فتنا الذين من قبلهم }{[9250]} [ العنكبوت : 3 ] ، وقرأ ، «وثموداً » عاصم{[9251]} وأبو عمرو وابن وثاب ، وقرأ «وثمود » بغير تنوين أبو جعفر وشيبة الحسن ، وقرأ ابن وثاب «وعادٍ وثمودٍ » بالخفض والتنوين{[9252]} ، ثم دل عز وجل على ما يعطي العبرة في بقايا { مساكنهم } ورسوم منازلهم ودثور آثارهم ، وقرأ الأعمش «تبين لكم مَساكنهم » دون «من » ، وقوله تعالى : { وزين لهم } عطف جملة من الكلام على جملة ، و { السبيل } ، هي طريق الإيمان بالله ورسله ، ومنهج النجاة من النار ، وقوله ، { مستبصرين } ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه لهم بصيرة في كفرهم ، وإعجاب به وإصرار عليه فذمهم بذلك ، وقيل لهم بصيرة في أن الرسالة والآيات حق لكنهم كانوا مع ذلك يكفرون عناداً ويردهم الضلال إلى مجاهله ومتالفه ، فيجري هذا مجرى قوله تعالى في غيرهم { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا }{[9253]} [ النمل : 14 ] ، وتزيين الشيطان هو بالوسواس ومناجاة ضمائر الناس ، وتزيين الله تعالى الشيء هو بالاختراع وخلق محبته والتلبس به في نفس العبد .
لما جرى ذكر أهل مدين وقوم لوط أكملت القصص بالإشارة إلى عاد وثمود إذ قد عرف في القرآن اقتران هذه الأمم في نسق القصص . والواو عاطفة قصة على قصة .
وانتصاب { عاداً } يجوز أن يكون بفعل مقدَّر يدل عليه السياق ، تقديره : وأهلكنا عاداً ، لأن قوله تعالى آنفاً { فأخذتهم الرجفة } [ العنكبوت : 37 ] يدل على معنى الإهلاك ، قاله الزجاج وتبعه الزمخشري . ومعلوم أنه إهلاك خاص من بطش الله تعالى ، فظهر تقدير : وأهلكنا عاداً .
ويجوز أن يقدر فعل ( واذكر ) كما هو ظاهر ومقدر في كثير من قصص القرآن .
ويجوز أن يكون معطوفاً على ضمير { فأخذتهم الرجفة } [ العنكبوت : 37 ] والتقدير : وأخذت عاداً وثمودا . وعن الكسائي أنه منصوب بالعطف على { الذين من قبلهم } من قوله تعالى { ولقد فتنا الذين من قبلهم } [ العنكبوت : 3 ] . وهذا بعيد لطول بعد المعطوف عليه . والأظهر أن نجعله منصوباً بفعل تقديره ( وأخذنا ) يفسره قوله { فكلاًّ أخذنا بذنبه } [ العنكبوت : 40 ] لأن ( كلاً ) اسم يعم المذكورين فلما جاء منتصباً ب { أخذنا } تعين أن ما قبله منصوب بمثله وتنوين العوض الذي لحق ( كلاً ) هو الرابط وأصل نسج الكلام : وعاداً وثموداً وقارون وفرعون الخ . . . كلهم أخذنا بذنبه .
وجملة { وقد تبين لكم من مساكنهم } في موضع الحال أو هي معترضة . والمعنى : تبين لكم من مشاهدة مساكنهم أنهم كانوا فيها فأهلكوا عن بكرة أبيهم .
ومساكن عاد وثمود معروفة عند العرب ومنقولة بينهم أخبارها وأحوالها ويمرون علهيا في أسفارهم إلى اليمن وإلى الشام .
والضمير المستتر في { تبيّن } عائد إلى المصدر المأخوذ من الفعل المقدر ، أي يتبين لكم إهلاكهم أو أخذنا إياهم .
وجملة { وزين لهم الشيطان أعمالهم } معطوفة على جملة { وعاداً وثموداً } .
والتزيين : التحسين . والمراد : زين لهم أعمالهم الشنيعة فأوهمهم بوسوسته أنها حسنة . وقد تقدم عند قوله تعالى { كذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة الأنعام ( 108 ) .
والصد : المنع عن عمل . و { السبيل } هنا : ما يوصل إلى المطلوب الحق وهو السعادة الدائمة ، فإن الشيطان بتسويله لهم كفرهم قد حرمهم من السعادة الأخروية فكأنه منعهم من سلوك طريق يبلغهم إلى المقر النافع .
والاستبصار : البصارة بالأمور ، والسين والتاء للتأكيد مثل : استجاب واستمسك واستبكر . والمعنى : أنهم كانوا أهل بصائر ، أي عقول فلا عذر لهم في صدهم عن السبيل . وفي هذه الجملة اقتضاء أن ضلال عاد كان ضلالاً ناشئاً عن فساد اعتقادهم وكفرهم المتأصل فيهم والموروث عن آبائهم وأنهم لم ينجوا من عذاب الله لأنهم كانوا يستطيعون النظر في دلائل الوحدانية وصدق رسلهم .