وبعد هذا التقسيم للأعراب ، انتقلت السورة للحديث عن المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأطاعوه في السر والعلن ، فقال تعالى : { والسابقون الأولون . . . } .
فهذه الآية الكريمة قد مدحت ثلاث طوائف من المسلمين المعاصرين للعهد النبوى .
الطائفة الأولى { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين } وهم الذين تركوا ديارهم وأموالهم بمكة ، وهاجروا إلى الحبشة ، ثم الى المدينة من أجل إعلاء كلمة الله واستمروا في المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تم الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا .
وقيل المراد بهم : الذين صلوا إلى القبلتين ، وقيل : الذين شهدوا غزوة بدر .
والطائفة الثانية : السابقون الأولون من الأنصار ، وهم الذين بايعوا النبى - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يهاجر اليهم إلى المدينة بيعة العقبة الأولى والثانية .
وكانت بيعة العقبة الأولى في السنة الحادية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشتركين فيها سبعة أفراد .
أما بيعة العقبة الثانية فكانت في السنة الثانية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشتركين فيها سبعين رجلا وامرأتين .
ثم يلي هؤلاء أولئك المؤمنون من أهل المدينة الذين دخلوا في الإِسلام على يد مصعب بن عمير ، قبل وصول الرسول - صلى الله عليه وسلم - اليها .
ثم يلى هؤلاء جميعا أولئك الذين آمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - بعد مقدمه إلى المدينة .
والطائفة الثالثة : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } أى : الذين اتبعوا السابقين في الإسلام من المهاجرين والأنصار ، اتباعا حسنا في أقوالهم وأعمالهم وجهادهم ونصرتهم لدعوة الحق .
قال الآلوسى ما ملخصه : وكثير من الناس ذهب إلى أن المراد بالسابقين الأولين : جميع المهاجرين والأنصار . ومعنى كونهم سابقين : أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين .
روى عن حميد بن زياد قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظى ، ألا تخبرنى عن الصحابة فيما كان بينهم من الفتن ؟ فقال لي : إن الله - تعالى - قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، فقلت له : وفى أي موضع أوجب لهم الجنة ، فقال : سبحانه ! ! ألم تقرأ قوله . تعالى - : { والسابقون الأولون . . . } الآية فقد أوجب . سبحانه لجميع الصحابة الجنة وشرط على تبايعهم أن يقتدروا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءاً .
وقوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } بيان لسمو منزلتهم ، وارتفاع مكانتهم .
أى : رضي الله عنهم في إيمانهم وإخلاصهم ، فتقبل أعمالهم ، ورفع درجاتهم وتجاوز عن زلاتهم ، ورضوا عنه ، بما أسبغه عليهم من نعم جليلة ، وبما ناله منه سبحانه من هداية وثواب .
ثم ختم سبحانه الآية الكريمة ببيان ما هيأه لهم في الآخرة من إكرام فقال : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم } .
أى : أنه - سبحانه - بجانب رضاه عنهم ورضاهم عنه في الدنيا ، قد أعد لهم - سبحانه - في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها خلودا أبديا وذلك الرضا والخلود في الجنات من الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا تدانيه سعادة .
قال الإِمام ابن كثير : أخبر الله - تعالى - في هذه الآية " أنه قد رضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان . فياويل من أبغضهم ، أو سبهم ، أو أبغض أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول ، وخيرهم وأفضلهم أعنى الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبى قحافة ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ، ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الايمان بالقرآن إذ يسبون من رضى الله عنهم ؟
وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضى الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالى الله ، ويعادون من يعادى الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون ، وعباده المؤمنون .
وبهذا نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان ، وذلك لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم وإيثارهم ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها . .
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، ورضاهم عنه بما أعدَّ لهم من جنات النعيم ، والنعيم المقيم .
قال الشعبي : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية .
وقال أبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة : هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال محمد بن كعب القرظي : مرَّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ } فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ فقال : أبيُّ بن كعب . فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه . فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم . قال : وسمعتَها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، فقال أبيُّ : تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الجمعة : 3 ] وفي سورة الحشر : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } [ الحشر : 10 ] وفي الأنفال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } [ الأنفال : 75 ] إلى آخر الآية ، رواه ابن جرير{[13798]} قال : وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع " الأنصار " عطفا على { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ }
فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان : فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم ، ولا سيما سيدُ الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم ، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة ، رضي الله عنه ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويَسُبُّونهم ، عياذًا بالله من ذلك . وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة ، وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن ، إذ يسبُّون من رضي الله عنهم ؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ، ويعادون من يعادي الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون .
{ والسابقون الأوّلون من المهاجرين } هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدراً أو الذين أسلموا قبل الهجرة . { والأنصار } أهل بيعة العقبة الأولى . وكانوا سبعة وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير . وقرئ عطفا على { والسابقون } . { والذين اتبعوهم بإحسان } اللاحقون بالسابقين من القبيلتين ، أو من اتبعوهم بالأيمان والطاعة إلى يوم القيامة . { رضي الله عنهم } بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم . { ورضوا عنه } بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية . { وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار } وقرأ ابن كثير " من تحتها الأنهار " كما في سائر المواضع . { خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } .
قال أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة { السابقون الأولون } من صلى القبلتين ، وقال عطاء { السابقون الأولون } من شهد بدراً .
قال القاضي أبو محمد : وحولت القبلة قبل بدر بشهرين ، وقال عامر بن شراحيل الشعبي{[5852]} : { السابقون الأولون } من أدرك بيعة الرضون ، { والذين اتبعوهم بإحسان } يريد سائر الصحابة ، ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الأمة لكن بشريطة الإحسان ، وقد لزم هذا الاسم الطبقة التي رأت من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو قال قائل إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقطعت الهجرة لكان قولاً يقتضيه اللفظ وتكون { من } لبيان الجنس ، و { والذين } في هذه الآية عطف على قوله { والسابقون } ، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن بن أبي الحسن وقتادة وسلام وسعيد ويعقوب بن طلحة وعيسى الكوفي «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصارُ » برفع الراء عطفاً على { والسابقون } ، وكذلك ينعطف على كلتا القراءتين قوله تعالى : { والذين اتبعوهم بإحسان } وجعل الأتباع عديلاً للأنصار ، وأسند الطبري أن زيد بن ثابت سمعه فرده فبعث عمر في أبي بن كعب فسأله فقال أبي بن كعب { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان } ، فقال عمر ما كنا نرى إلا أنَّا قد رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد ، فقال أبي إن مصداق هذا في كتاب الله في أول سورة الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم }{[5853]} وفي سورة الحشر { والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان }{[5854]} وفي سورة الأنفال في قوله { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم }{[5855]} ، فرجع عمر إلى قول أبي ، ونبهت هذه الآية من التابعين وهم الذين أدركوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نبه من ذكرهم قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار » فتأمله{[5856]} ، وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار » وقرأ الباقون «تحتها » بإسقاط «من » ومعنى هذه الآية : الحكم بالرضى عنهم بإدخالهم الجنة وغفر ذنوبهم والحكم برضاهم عنه في شكرهم وحمدهم على نعمه وإيمانهم به وطاعتهم له جعلنا الله من الفائزين برحمته { ممن حولكم من الأعراب } الآية ، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم شرك في بعضها أمته .